الخلافات اللبنانية والأزمة مع الخليج تفرمل زخم الحكومة

ميقاتي شدد على استقلالية القضاء وصون الانتماء العربي

رئيس الحكومة اللبنانية لدى إلقائه كلمته (الوكالة الوطنية)
رئيس الحكومة اللبنانية لدى إلقائه كلمته (الوكالة الوطنية)
TT

الخلافات اللبنانية والأزمة مع الخليج تفرمل زخم الحكومة

رئيس الحكومة اللبنانية لدى إلقائه كلمته (الوكالة الوطنية)
رئيس الحكومة اللبنانية لدى إلقائه كلمته (الوكالة الوطنية)

فرملت الخلافات السياسية الداخلية زخم الحكومة اللبنانية التي لم تجتمع منذ أربعة أسابيع، وتحاصرها الاشتباكات السياسية بين مكونات متمثلة فيها، والأزمة مع دول مجلس التعاون الخليجي، ما انعكس تعطيلاً لإنجاز الكثير من الملفات المعيشية الداهمة، وارتفاعاً في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية.
وساهم تشكيل الحكومة في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي بضخ شحنات من الثقة في السوق اللبنانية، انعكس تراجعاً في سعر صرف الدولار، في حين بدأ مجلس الوزراء بإنجاز الملفات المتراكمة ومن بينها التعيينات في شواغر إدارية وقضائية، وانطلاق مباحثات بين مكوناتها ومع المؤسسات المعنية للتوصل إلى أرقام موحدة تحملها الحكومة في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
لكن سرعان ما تراجع هذا الزخم، مع اشتعال أزمة الخلاف حول إجراءات المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، ما عطل اجتماعات الحكومة «منعاً لتفجيرها من الداخل»، كما قالت مصادر نيابية. وساهم عدم اجتماعها في تراكم ملفات أخرى، خصوصاً عدم إنجاز البطاقة التمويلية حتى الآن، وملف رفع الدعم عن السلع الأساسية وتحديداً أدوية الأمراض المستعصية، فضلاً عن ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء ليقارب الـ22 ألف ليرة لبنانية للمرة الأولى منذ أكثر من شهرين.
وبدا أن الخلافات السياسية والتباين حول معالجة الأزمات الأخيرة، لا سيما ملف القاضي البيطار وملف الأزمة مع دول الخليج، قوّض اندفاعة الحكومة، رغم سعي ميقاتي «للسير بين الألغام»، وتأكيد موقفه الثابت وقناعاته المتصلة بهوية لبنان العربية. وقد جدد أمس تأكيد موقفه، إذ شدد على أن «التحاور يقف عند حدود قناعات وطنية وشخصية لا أحيد عنها أبداً، وأبرزها استقلالية القضاء ومن خلاله حماية الدستور والمؤسسات، وصون انتماء لبنان العربي والحفاظ على علاقات الأخوة مع الأشقاء العرب، وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية».
وقال ميقاتي في مئوية نقابة المحامين في طرابلس، إن «مفهوم الدولة يقوم على قاعدة أن يتخلى الفرد أو المجموعة طوعاً عن بعض ما هو حق له أو لها في الأصل، من أجل المصلحة العامة التي تمثل بالضرورة وفي نهاية المطاف مصلحة للجميع من دون استثناء»، مضيفاً: «أما المنطق المبنيّ على المناداة الدائمة بالحقوق الخاصة، للفرد أو للجماعة، فهو منطق غالباً ما يؤدي إلى توتير الأجواء وتعطيل المؤسسات، ولا يأتلف قطعاً مع مفهوم الدولة التي تتجسد فيها، كشخصية اعتبارية واحدة موحدة، حقوق جميع أبنائها».
ودعا ميقاتي لأن تكون المئوية الثانية «مئوية النظام العام، والانتظام الكامل في نهج سياسي واضح المعالم والمبادئ، يلتزم قواعد الديمقراطية الصحيحة وأُسس بناء الدولة العصرية ذات السلطة الواحدة التي لا ازدواجية فيها». وتابع: «دولة تجعل على رأس اهتماماتها حماية سيادة الوطن وضمان سلامة أرضه وشعبه ومؤسساته، واحترام القواعد والاستحقاقات الدستورية، وصون مصالح المواطنين المقيمين والمغتربين، والمحافظة على انتماء لبنان العربي، وبناء أفضل العلاقات مع الأشقاء في المنطقة والأصدقاء في العالم. دولة تكرس استقلال القضاء وتعمل على توفير حاجات المرفق القضائي المادية والمعنوية، لكي يتولى إحقاق العدالة باسم الشعب اللبناني، استناداً إلى ضمائر القضاة ونصوص القانون فقط، ومن دون تدخل أحد أياً كانت صفته وموقعه».
ولا ينظر مقربون من ميقاتي إلى أن زخم الحكومة تراجع، كونه مرتبطاً بالخلافات الداخلية. ويقول عضو كتلة «الوسط المستقل» النائب علي درويش، إن «مستجدات طرأت في المرحلة الأخيرة» ساهمت في توقف اجتماعات مجلس الوزراء، وبالتالي فرملة هذا الزخم الذي فرضته لحظة إعلانها. ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنه في لحظة استئناف اجتماعاتها «ستستردّ الزخم نفسه، لأن الحكومة الآن هي حاجة وطنية»، في إشارة إلى القضايا المعيشية والملفات الاقتصادية التي تعمل على معالجتها.
ولا ينفي درويش أن هناك اشتباكاً سياسياً داخلياً وتطورات إقليمية «تدفع ثمنها الحكومة»، وفي الوقت نفسه يشير إلى أن الدعم العربي الذي تتلقاه لحل مشكلاتها من مصر عبر خط الغاز المصري، والأردن عبر إمدادات الطاقة، والعراق عبر شحنات الطاقة، ينفي عزلتها العربية... أما ما استجدّ على مستوى العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، فيدعو إلى «ضرورة وضعه في الإطار الصحيح»، في إشارة إلى دعوة ميقاتي ورئيس الجمهورية إلى استقالة الوزير قرداحي، ويؤكد أن رئيسي الجمهورية والحكومة «يقاربون الموضوع بالحكمة والتروّي». ويطالب بتخفيض الاشتباك الداخلي وتفعيل التواصل كي تستطيع الحكومة القيام بالمهام الملقاة على عاتقها، لا سيما معالجة القضايا المعيشية والملفات الاقتصادية. ويؤكد أن هناك ثوابت «لن يحيد عنها ميقاتي»، وهو أشار إليها في خطابه أمس في طرابلس.
ويحاول ميقاتي الالتفاف على الأزمات الناتجة عن عدم اجتماع الحكومة، بالاستعاضة عنها مؤقتاً باجتماعات وزارية مصغرة مع مسؤولين دوليين والوزراء المعنيين بهدف تأمين استمرارية المرفق العام. لكن هذا الأمر، لا ينظر إليه الوزراء على أنه كافٍ، وهو ما أشار إليه وزيرا الاقتصاد والشؤون الاجتماعية أمين سلام وهكتور خوري، أول من أمس.
ويشدد درويش على أن الحكومة «حاجة وطنية في المرحلة الحالية بالنظر إلى أن الوضع المعيشي لا يُعالج إلا بقرارات من الحكومة»، لافتاً إلى أن التعثر في مقاربة الملفات الحياتية بشكل حاسم الآن «لا تقع مسؤوليته على رئيس الحكومة منفرداً، بل على كل القوى السياسية»، في وقت يسعى ميقاتي إلى التخفيف من وقع الضغوط ومعالجتها بما هو متاح، في إشارة إلى الاجتماعات المصغرة التي يعقدها مع وزراء معنيين ومسؤولين دوليين لمعالجة تلك المشكلات، وإذ يقرّ بأن المعالجة الكاملة تحتاج إلى مجلس وزراء، يدعو إلى العودة إلى مجلس الوزراء واستئناف الاجتماعات لاتخاذ القرارات.



أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
TT

أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)

قرب ركام مبنى ما زال الدخان يتصاعد منه في مدينة صور، تحمل عائلة حقائب وتصعد على سلم مظلم إلى شقة خُلعت أبوابها ونوافذها، ولا يوجد فيها ماء ولا كهرباء، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي البنى التحتية والطرق، إضافة إلى الأبنية والمنازل.

في اليوم الثاني من سريان وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل، كانت مئات العائلات صباح الخميس تتفقّد منازلها في أحياء استهدفتها الغارات الإسرائيلية، وحوّلتها إلى منطقة منكوبة.

لم تسلم سوى غرفة الجلوس في شقة عائلة نجدة. تقول ربّة المنزل دنيا نجدة (33 عاماً)، وهي أم لطفلين، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، بينما تقف على شرفتها المطلة على دمار واسع: «لم نتوقّع دماراً إلى هذا الحدّ. رأينا الصور لكن وجدنا الواقع مغايراً وصعباً».

وغطّى الزجاج أسرّة أطفالها وألعابهم، في حين تناثرت قطع من إطارات النوافذ الحديدية في كل مكان. وتضيف دنيا نجدة: «عندما وصلنا، وجدنا الدخان يتصاعد من المكان، وبالكاد استطعنا معاينة المنزل».

على الشرفة ذاتها، يقف والد زوجها سليمان نجدة (60 عاماً)، ويقول: «نشكو من انقطاع المياه والكهرباء... حتى المولدات الخاصة لا تعمل بعد انقطاع خطوط الشبكات».

ويقول الرجل، الذي يملك استراحة على شاطئ صور، الوجهة السياحية التي تجذب السكان والأجانب: «صور ولبنان لا يستحقان ما حصل... لكن الله سيعوضنا، وستعود المدينة أفضل مما كانت عليه».

وتعرّضت صور خلال الشهرين الماضيين لضربات عدّة؛ دمّرت أو ألحقت أضراراً بمئات الوحدات السكنية والبنى التحتية، وقطعت أوصال المدينة.

وأنذرت إسرائيل، خلال الأسابيع القليلة الماضية، مراراً سكان أحياء بأكملها بإخلائها، ما أثار الرعب وجعل المدينة تفرغ من قاطنيها، الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً.

لن يحصل بنقرة

خلال جولة في المدينة؛ حيث تعمل آليات على رفع الردم من الطرق الرئيسة، يحصي رئيس بلدية صور واتحاد بلدياتها، حسن دبوق لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أكثر من 50 مبنى، مؤلفة من 3 إلى 12 طابقاً دُمّرت كلياً جراء الغارات الإسرائيلية»، غير تضرّر عشرات الأبنية في محيطها، بنسبة تصل إلى 60 في المائة. ويضيف: «يمكن القول إنه يكاد لم يبقَ أي منزل بمنأى عن الضرر».

وشهدت شوارع المدينة زحمة سير مع عودة المئات من السكان إلى أحيائهم، في حين أبقت المؤسسات والمحال التجارية والمطاعم أبوابها موصدة.

ويوضح دبوق: «يتفقّد السكان منازلهم خلال النهار، ثم يغادرون ليلاً بسبب انقطاع الماء عن أنحاء المدينة والكهرباء عن الأحياء التي تعرّضت لضربات إسرائيلية قاسية».

ويقول إن الأولوية اليوم «للإسراع في إعادة الخدمات إلى المدينة، وتأمين سُبل الحياة للمواطنين»، مقرّاً بأن ذلك «لن يحصل بنقرة، ويحتاج إلى تعاون» بين المؤسسات المعنية.

ويضيف: «من المهم أيضاً إزالة الردم لفتح الشوارع حتى يتمكّن الناس من العودة».

واستهدفت غارة إسرائيلية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) شركة مياه صور، ما أسفر عن تدميرها، ومقتل موظفيْن، وانقطاع المياه عن 30 ألف مشترك في المدينة ومحيطها، وفق ما قال رئيس مصلحة مياه صور وليد بركات.

ودمّرت الغارة مضخّات المياه وشبكة الأنابيب المتفرّعة منها، وفق ما شاهد مراسلو «وكالة الصحافة الفرنسية»، الخميس، في إطار جولة نظمها «حزب الله» للصحافيين في عدد من أحياء المدينة.

وتحتاج إعادة بنائها إلى فترة تتراوح بين 3 و6 أشهر، وفق بركات، الذي قال إن العمل جارٍ لتوفير خيار مؤقت يزوّد السكان العائدين بالمياه.

ويقول بركات: «لا صواريخ هنا، ولا منصات لإطلاقها، إنها منشأة عامة حيوية استهدفها العدوان الإسرائيلي».

قهر ومسكّنات

بحزن شديد، يعاين أنس مدللي (40 عاماً)، الخيّاط السوري المُقيم في صور منذ 10 سنوات، الأضرار التي لحقت بمنزله جراء استهداف مبنى مجاور قبل ساعة من بدء سريان وقف إطلاق النار. كانت أكوام من الركام تقفل مدخل المبنى الذي تقع فيه الشقة.

ويقول بأسى: «بكيت من القهر... منذ يوم أمس، وأنا أتناول المسكنات جراء الصدمة. أنظر إلى ألعاب أولادي والدمار وأبكي».

وغابت الزحمة، الخميس، عن سوق السمك في ميناء المدينة القديمة، الذي كان يعجّ بالزبائن قبل الحرب، بينما المراكب راسية في المكان منذ أكثر من شهرين، وينتظر الصيادون معجزة تعيدهم إلى البحر لتوفير قوتهم.

بين هؤلاء مهدي إسطنبولي (37 عاماً)، الذي يروي أنه ورفاقه لم يبحروا للصيد منذ أن حظر الجيش اللبناني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حركة القوارب في المنطقة البحرية جنوب لبنان.

ويقول: «لم يسمح الجيش لنا بعد بالخروج إلى البحر حفاظاً على سلامتنا» باعتبار المنطقة «حدودية» مع إسرائيل.

ويقول إسطنبولي: «نراقب الوضع... وننتظر»، مضيفاً: «نحن خرجنا من أزمة، لكن الناس سيعانون الآن من أزمات نفسية» بعد توقف الحرب.

ويقول أب لأربعة أطفال: «أحياناً وأنا أجلس عند البحر، أسمع صوت الموج وأجفل... يتهيّأ لي أن الطيران يقصف. نعاني من الصدمة».