الخجل والعار.. وما بينهما

نقاش ثقافي أميركي تشترك فيه مونيكا لوينسكي

لوينسكي تعود إلى الواجهة بعد اختفاء 15 عاما.. وهنا تظهر خلال كلمة لها في لقاء {تيد} السنوي
لوينسكي تعود إلى الواجهة بعد اختفاء 15 عاما.. وهنا تظهر خلال كلمة لها في لقاء {تيد} السنوي
TT

الخجل والعار.. وما بينهما

لوينسكي تعود إلى الواجهة بعد اختفاء 15 عاما.. وهنا تظهر خلال كلمة لها في لقاء {تيد} السنوي
لوينسكي تعود إلى الواجهة بعد اختفاء 15 عاما.. وهنا تظهر خلال كلمة لها في لقاء {تيد} السنوي

في الشهر الماضي، ركز نقاش ثقافي في أميركا على العار والاستحياء منه، أو إنكاره (أو ربما الفخر به)، وذلك بمناسبة استقالة عضو جديد في الكونغرس الأميركي بسبب فضيحة جنسية. وكان أعضاء آخرون استقالوا بسبب فضائح جنسية، أو سياسية، أو مالية، خاصة في مواضيع لها صلة بالفساد، وشراء الأصوات والضمائر.
في الشهر الماضي، استقال عضو الكونغرس ارون شوك. وقبله، خلال عامين استقال زملاؤه: أدام كوهين، وفانس ماكلستر، وثاد فيرز. وفي كل مرة، استقالوا بعد صيحات «ألا تستحي؟» وفي كل مرة، بعد الاستقالات، ظلوا يواجهون صيحات «ألن تتوب؟»
ما العار؟ يعرفه القاموس بأنه «إحساس مؤلم بالاحتقار بسبب خطا أخلاقي». ويفرق القاموس بين «الخجل» و«العار». يشير الأول إلى إحساس داخلي، وكأن الشخص لا يقدر على مواجهة الناس. ويشير الثاني إلى إحساس الناس نحو شخص ما، سواء أحس بالخجل أم لا، اعترف بالخطأ أو لم يعترف.
وزادت النقاش الثقافي الأميركي إثارة اشتراك شخصية مشهورة، ولكن غير مثقفة (أو ربما صارت الآن مثقفة). عادت مونيكا لوينسكي إلى الأضواء، بعد أن اختفت لخمسة عشر عاما. ومن المعروف، إنها بطلة فضيحة العلاقة الجنسية مع الرئيس السابق بيل كلينتون. وكادت علاقتها، وعلاقات كلينتون الجنسية مع نساء غيرها، أن تسقطه، عندما حاكمة مجلس النواب، حسب الدستور الأميركي، في عام 1998. ونجا بأصوات قليلة. عادت لوينسكي مع نشر كتابها: «برايس أوف شيم» (ثمن العار)، الذي حملت فيه كلينتون مسؤولية ما حدث لها. وقالت إنه، حتى الآن، لم يعتذر لها، أو للشعب الأميركي. بل يظل ينكر ما حدث بينهما. (حقيقة، لم يعتذر. وفي كتاب مذكراته، قال إن أعداءه السياسيين نصبوا له فخا. وفي كتاب مذكراتها، قالت زوجته، هيلاري كلينتون، إنها «مؤامرة اليمن المتطرف»).
لكن، لم تقل لوينسكي إنها تتحمل أي مسؤولية. غطت نفسها بغطاء امرأة أغراها رجل. وكأن المرأة لا تقدر، ولا يجب، أن ترفض ما لا تريد. قالت في الكتاب: «كنت ضعيفة أمام رئيس الولايات المتحدة وزعيم العالم الحر».
ارتكبت لوينسكي خطأ ثانيا: دعت إلى «العطف في عصر الإنترنت». ومرة أخرى، قالت: إنها تتحدث كامرأة، وأن النساء أكثر عطفا من الرجال. غير أنها عادت وقالت إنها تأمل أن يستفيد الرجال والنساء من تجربتها.
أيدتها في هذه النقطة الأخيرة مؤلفة كتاب «هل العار ضروري؟»، جنيفر جاكيت، أستاذة الدراسات البيئية في جامعة نيويورك. وقالت: «ليس العار مجرد إحساس. يمكن أن يكون وسيلة لحل المشكلة». ولأن جاكيت متخصصة في نظافة البيئة، فكتابها ليس عن الفضائح الجنسية، ولكن عن الفضائح البيئية، مثل الشركات الكبيرة التي تنتج سيارات تلوث البيئة، أو تملك مصانع فحم تلوث البيئة. فهذه ترتكب كثيرا من الأعمال التي يمكن تصنيفها ضمن مفهوم العار، فهي ترفض تحمل مسؤوليتها (وهي تعرف أنها أخطأت)، وتنكر مسؤوليتها (وهي تعرف أنها تكذب)، وأخيرا هي تحس بالذنب (لأنها أخطأت، وكذبت). تقول جنيفر جاكيت أن الذنب يختلف عن الإحساس بالعار، وذلك لأن الخطأ في موضوع البيئة يختلف عن الخطأ في موضوع الجنس. يعاقب القانون الأول لأنه خرق للقانون. وأيضا، يعاقب الفساد المالي لأنه خرق للقانون. لكن القانون لا يعاقب العلاقات الجنسية (إلا إذا شملت عنفا، أو تهديدا بالعنف).
وأضافت جاكيت نقطة ثانية، وهي أن الشركات والمؤسسات لا تحس بالعار والخجل لأنها، طبعا، شركات ومؤسسات، وليست أفرادا. لكنها تحس بالذنب. لهذا: «يقف رئيس شركة أمام القاضي، ويعلن أنه مذنب لأنه خرق القانون. أو تصدر الشركة بيانا تعلن فيها أنها «تتحمل المسؤولية». من دون أن تقول: إنها خرقت القانون، أو كذبت على الناس. لكن، هذا مجرد لعب بالكلمات».
واشترك في النقاش كارلوس لوزادا، وهو صحافي في صحيفة «واشنطن بوست»، وقال: «لا يأتي العار من فراغ، أو ينتهي إلى فراغ. يأتي العار بعد حلقات تسبقه، منها القوة، والاستعلاء، واستغلال القوة لارتكاب الخطأ..».
وقدم لوزادا مثالا عن شخص يتهرب من دفع الضرائب، لأنه، أولا، يرفض دفع الضرائب مستغلا قوته الشخصية (يعتقد أنه أقوى، أو أذكى من مصلحة الضرائب، التي هي، في نظره، ضعيفة أو غبية). وهو، ثانيا، ينكر أنه لا يدفع الضرائب، إذا سأله شخص آخر. وينكر أنه ارتكب خطأ لأنه، حسب تفسيره للخطأ، لا يراه خطأ. وثالثا، عندما تعرف مصلحة الضرائب أنه ارتكب خطأ، وتهدد بتقديمه إلى المحاكمة، يعترف بأنه يتحمل المسؤولية، ولا ينكرها.
في هذه المرحلة الأخيرة، يمكن أن يحس بالذنب (لأنه أخطأ وكذب، وقد يعتقل، ويحاكم، ويسجن). أو لا يحس بالذنب (لأنه يظل يعتقد بأنه أقوى من مصلحة الضرائب، أي أذكى منها. صحيح، كشفته هذه المرة. لكن، ربما لن تكشفه في المرات القادمة).
واشترك في النقاش أيضا شلبي ستيل، أستاذ جامعي أسود، ومؤلف كتب عن العلاقات بين البيض والسود. آخر كتبه هو «العار»، ويعني به «العار التاريخي» الذي لحق بالبيض في أميركا بسبب اصطيادهم الزنوج في أفريقيا، ونقلهم إلى أميركا، واستعبادهم، وشرائهم وبيعهم. لكن، يتوسع شلبي في تعريف «العار الأميركي». ويقول إنه لا يقتصر على استعباد الزنوج، ويشمل أيضا استعباد النساء، و«استعباد» البيئة (تلويثها)، و«استعباد» شعوب العالم الثالث (التدخلات العسكرية).
وقال: «منذ الستينات، يحاول الأميركيون أن يتخلصوا من العار. يحاولون أن ينتقلوا من مرحلة الأخطاء وإنكار الأخطاء، إلى مرحلة الاعتراف بالأخطاء. لكن، لينجحوا في ذلك، يجب عليهم أن يتخلصوا من الاستعلاء، ومن النفاق..». يوجد وسط المثقفين الأميركيين الذين يناقشون هذا الموضوع ليبراليون، وهم الأغلبية، ومحافظون، وهم الأقلية.
يقول ستيل إن المحافظين يعتقدون أن الأميركيين «تخلصوا من عارهم التاريخي» (الرقيق، النساء، الغزوات الخارجية). وذلك لأنهم اعترفوا بالأخطاء، وأصلحوها (الحقوق المدنية للزنوج، مساواة النساء بالرجال، والانسحاب من فيتنام).
لا يتحدث المحافظون عن حروب الإرهاب، وأفغانستان، والعراق - لأنهم يرونها حروبا «وقائية» (حتى لا يصل الإرهابيون إلى أميركا). تماما مثل ما قال، في الشهر الماضي، السيناتور لندسي غراهام (جمهوري، ولاية نورث كارولينا) بأن كل من يتحدث عن «الاحتلال» الإسرائيلي هو إرهابي (مثل منظمة «حماس»)، لأنه ليس «احتلالا» ولكن «وقاية».
في الجانب الآخر، يوجد المثقفون الليبراليون الذين يرى معظمهم أن أميركا لم تتخلص حتى الآن من عارها. ويجادل هؤلاء بأن المحافظين «يتعمدون نسيان الماضي،» وأن هذا لن يحل المشاكل. بل يضمن استمرارها. عن هذا قال ستيل: «لهذا، يظل العار معنا، وهو السبب الرئيسي لما نشاهد اليوم من تقسيمات ومواجهات ثقافية وعرقية وسياسية وجندرية».
ما دور الإنترنت، خاصة مواقع الاتصالات الاجتماعية، في مواضيع العار، والخجل، والإحساس بالذنب؟
قال لوزادا إن للإنترنت محاسن ومساوئ:
في جانب، يقدر المرؤوسون على كشف فساد الرؤساء، والزوجات على كشف خيانات الأزواج، والأبناء على كشف قسوة الآباء، والجنود على كشف أخطاء الجنرالات (مثل الجندي برادلي ماننغ. كشف مئات الآلاف من وثائق الخارجية الأميركية والبنتاغون). في الجانب الآخر، يبالغ الناس في المواقع الاجتماعية في اتهام بعضهم البعض. (يقول لوزادا، وهو الصحافي القدير، إن الأمانة الصحافية عملة نادرة). ولهذا، يجلبون العار على أنفسهم، قبل أن يكشفوا عار الآخرين.
لكن، تتغلب محاسن الإنترنت على مساوئه.
أما جنيفر جاكيت فتقول: «لا شيء يخيف مثل الخوف من العار. وفي (عصر الإنترنت) تزيد احتمالات كشف العار. لهذا، توجد محاسن لكشف عار الآخرين، وهي أن غيرهم سيخاف كشف عاره، وبالتالي يتحاشى ما يسبب العار».



كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa
Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa
TT

كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa
Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa

قبل أن ينتشر التنوير بمختلف أرجاء أوروبا، ويُلهم أمثال توماس باين وتوماس جيفرسون داخل أميركا في عهد الاستعمار، كان يجري النظر إلى أغلب الناس باعتبارهم مجرد رعايا. وكان حقهم في الحياة يخضع حرفياً لتقدير الملك أو الملكة، وكانت سبل عيشهم تتحدد بحادثة ميلاد تجعلهم ملزمين بخدمة اللورد أو البارون الذي يعملون على أرضه.

في ظل الديمقراطية الأميركية، أصبح الناس مواطنين؛ مفهوم لم يعترف بحقوقهم في الحرية والسعي إلى السعادة فحسب، بل كفل لهم كذلك أن أصواتهم - وليس فكرة زائفة عن الحق الإلهي - سوف تحدد من يحكمهم.

وعلى النقيض من هذه المبادئ الجوهرية القائمة على الحرية، فإن الوصف الأمثل لواقعنا الحالي، الإقطاع الرقمي. مثلما كانت الحال مع الرعايا الفقراء العاجزين تحت سلطة الملوك والأرستقراطيين، نعيش اليوم في خضوع أمام مجموعة صغيرة من الشركات، التي استغلت بنية الإنترنت الإقطاعية. وفي ظل هذا النظام، يجري التعامل مع البشر باعتبارهم مجرد عناصر ثانوية - أو ربما لا يجري النظر إليهم على الإطلاق - في خضم العمل على بناء منصات ضخمة، تتولى استخراج البيانات.

داخل الولايات المتحدة، تتألف الزمرة الحاكمة من أكبر شركات البرمجيات في عصرنا: «ألفابت»، مالكة «غوغل»؛ و«ميتا»، مالكة «فيسبوك» و«إنستغرام»؛ و«أمازون»؛ و«أبل»؛ و«مايكروسوفت». وقد انضمت الأخيرة، عبر استثمارها الهائل في مؤسسة «أوبن آي» البحثية، إلى سباق التسلح التكنولوجي للسيطرة على البيانات الخاصة بنا، وما يحمله معه من سلطة وأرباح. ويحظى المؤسسون والمديرون التنفيذيون وكبار المستثمرين في شركات التكنولوجيا الكبرى، بنفوذ هائل على عمليات الإنترنت.

Instagram_logo REUTERS

واليوم، نعيش بحسب تقدير خوارزمياتهم الملكية. وتتعامل برامج الكمبيوتر القائمة على هذه الخوارزميات - التي، مثل أجهزة الكمبيوتر والخوادم والأجهزة، يجب النظر إليها باعتبارها آلات - معنا كمحاجر لاستخراج بياناتنا، التي أصبحت الآن السلعة الأكثر قيمة في الاقتصاد الرقمي. وبعد ذلك، يقومون بتجميع وتنظيم هذه البيانات، واستخدامها لإنشاء أدوات يمكن لقادتهم من خلالها التأثير علينا.

وبحسب تقرير صدر عن مؤسسة «بروبابليكا» عام 2016، جمعت «فيسبوك»، في ذلك الوقت، ما معدله 52.000 نقطة بيانات عن كل فرد من مستخدميها. ويكشف هذا الرقم، الذي من المرجح الآن أن يكون أعلى بكثير، كيفية نظر المنصات إلينا.

في الواقع، تستخرج أنظمة «الصندوق الأسود» الخاصة بهم، التي جرى بناؤها باستخدام أكواد لا يمكن لأي شخص من خارج المنصات الاطلاع عليها، سلعة قيمة (بياناتنا)، ثم يستغلون هذه السلعة لتعيين ملف تعريف لكل منا، وتصنيع آلة قوية (خوارزمية خاصة) لتصنيفنا واستهدافنا والتلاعب بنا. وبذلك، فإنهم يجردوننا من إنسانيتنا بشكل منهجي؛ تماماً مثلما جرد النظام الإقطاعي الفلاحين من إنسانيتهم.

وفي خضم كل هذا، لا يوجد عقد اجتماعي أو حتى التزام أخلاقي من جانب هذه المنصات بعدم معاملتنا كبيادق في أيديها. وبدلاً من ذلك، دفنونا في عقود قانونية، معظمها مكتوبة بحروف صغيرة لا يقرأها أحد، وفرضت هذه المنصات شروطاً وأحكاماً بخصوص استخدامنا لهذه التطبيقات، تجبرنا على التنازل عن أي مطالبات تتعلق ببياناتنا والمحتوى الذي ننشئه وننشره. وعليه، فقد تنازلنا حرفياً عن حقوقنا، وتنازلنا عن شخصيتنا لصالح هذه الشركات العملاقة القائمة داخل «وادي السيليكون».

في الواقع، ظلت هذه الديناميكية تتراكم منذ عقدين. ومع ذلك، في الفترة الأخيرة فقط، بدأت أعداد متزايدة من الناس يدركون ضخامة ما تخلينا عنه.

يعتبر كتاب شوشانا زوبوف، أستاذة جامعة هارفارد، الصادر عام 2018، بعنوان «عصر رأسمالية المراقبة»، أحد الأعمال الرائدة في هذا المجال. ويستعرض الكتاب كيف نشأ نموذج استخراج البيانات في «غوغل»، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبعد أن اكتشف «فيسبوك» أن بمقدوره أن يستفيد من حلقة ردود فعل قوية ذاتية التعزيز، تبنَّى النموذج ذاته، وعمد إلى تحديثه.

في الأساس، كانت هذه الطريقة التي عمل بها الأمر: لقد أدت مراقبة «فيسبوك» لنشاط مستخدميه إلى توليد رؤى حول كيفية استجابة الأشخاص لمحفزات نصية أو بصرية أو سمعية مختلفة. بعد ذلك، عدل علماء البيانات والمهندسون في «فيسبوك» خوارزمية تنظيم المحتوى في المنصة، في محاولة لتوجيه المستخدمين إلى التفاعل مع مستخدمين آخرين لفترات زمنية أطول. داخلياً، أطلق «فيسبوك» على هذا التفاعل «تفاعلات اجتماعية ذات مغزى».

وخدمت مقاييس هذه التفاعلات أهداف الإيرادات الخاصة بالمنصة وعملائها. وبعد ذلك، تكررت الدورة مراراً وتكراراً، مع إنتاج أنماط السلوك الجديدة بيانات جديدة، أفسحت المجال أمام «تحسين» متكرر ودائم (أي استهداف أكثر دقة) في قدرة الخوارزمية على تعديل سلوك المستخدم.

وتكشفت ملامح أحد أكثر التطبيقات شهرة لهذا الأمر في فضيحة «فيسبوك-كامبريدج أناليتيكا»، التي تفجرت أخبارها عام 2018. لسنوات، ظلت شركة الاستشارات البريطانية «كامبريدج أناليتيكا» تجمع بيانات مستخدمي «فيسبوك» دون موافقتهم، واستغلتها لتغذيتهم بمعلومات مضللة مستهدفة. وكان أحد الأهداف التأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016؛ وتمثل هدف آخر في التأثير على تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.

* أحد مؤلفي كتاب «معركتنا الكبرى»

* خدمات «تريبيون ميديا»إلا أنه من نواحٍ كثيرة، شكلت هذه الفضيحة البارزة حالة شاذة. أما المشكلة الأكبر بكثير، وإن كانت أقل وضوحاً، فكانت تأثير نموذج استخراج البيانات على حياتنا اليومية. عبر سبل متعددة، تلون خوارزميات هذه المنصات نظرتنا للعالم، وتصيغ ردود أفعالنا تجاه القضايا المهمة، وتدفعنا إلى أيدي المعلنين.

عن ذلك، قالت زوبوف إن نموذج الأعمال الاستغلالي هذا، الذي انتقل من «فيسبوك» ليصبح أسلوب عمل كل منصة أو تطبيق إنترنت تقريباً، جردنا مما يجعلنا بشراً بحق: إرادتنا الحرة، التي من دونها لا يمكن للديمقراطية ولا الأسواق أن تعمل.

وأضافت: «ربما تجلس هناك وتفكر: لا، هذا ليس أنا. أنا المسيطر. لا يمكن التأثير عليّ بواسطة بعض أكواد الكمبيوتر. أنا منفتح على جميع الأفكار والاقتراحات، وأتأنى فيها، وأزن بعناية إيجابيات وسلبيات كل منها قبل أن أقرر ما ينبغي عمله».

الحقيقة، هناك مجالات مختلفة من حياتنا اليومية نحتفظ بالسيطرة عليها، لكنها تتضاءل بسبب المصالح القوية التي تستفيد من حرماننا من هذه السيطرة. ولم يقضِ أصحاب أنظمة التتبع وتعظيم الإعلانات، العقدين الماضيين في معرفة ما الذي يجعلنا نتحرك، هباءً. لقد عكفوا على مراقبتنا لمعرفة ما اقتراحات المحتوى التي تحفز إفراز الدوبامين الذي يدفعنا إلى النقر، أو «الإعجاب»، أو المتابعة، أو المشاركة. لقد اكتشفوا ميولنا السياسية، وأذواقنا الفنية، وعادات نومنا، ومزاجنا، والأهم من ذلك، المجموعات الاجتماعية عبر الإنترنت التي نشكل معها روابط وولاءات.

يُقال إن «فيسبوك» يعرف أنك ستنفصل عن شريكك قبل أن تفعل ذلك. وإذا تخليت ولو لفترة وجيزة عن عقلية «أنا المسؤول؛ لا أحد يخبرني بما يجب أن أفعله»، فيمكنك حينها أن ترى كيف يمكن للمنصات أن تستخدم كميات البيانات الضخمة التي تجمعها، لتشكيل أفكارنا الفردية وكذلك سلوكنا الجماعي؛ لأنها لديها حوافز للقيام بذلك.

هنا طريقة أخرى للتفكير في كيف أنك تدفع ثمن استخراج كل هذه البيانات: التباين الذي دام عقدين في أسعار السلع والخدمات المختلفة في الاقتصاد الأميركي. ويكشف الرسم البياني من دار النشر الإلكترونية «فيجوال كابيتاليست» كيف ارتفعت أسعار السلع والخدمات، التي تحتاج إليها لعيش حياة صحية ومنتجة - مثل الرعاية الطبية، والرسوم الدراسية الجامعية، والإسكان، والطعام والمشروبات - بشكل حاد للغاية بين عامي 2000 و2022. وعلى النقيض، تراجعت أسعار المنتجات التي تتكامل مع الإنترنت وتستخرج بياناتنا - مثل البرمجيات، وخدمات الهاتف المحمول، وأجهزة التلفاز، وأجهزة الترفيه الأخرى - بشكل كبير خلال الفترة نفسها.

ومن الجدير أن نسأل لماذا واقعنا على هذه الحال. إن جودة حياتك في العالم غير الرقمي تتدهور، بينما وجودك الرقمي يظل أقل تكلفة بشكل غريب. أما السبب فيكمن في أن هذا الأخير مدعوم بكميات متزايدة من البيانات، التي تسلمها لشركات التكنولوجيا.

مما سبق يتضح أننا بحاجة إلى التفكير بجدية أكبر في السعر الحقيقي الذي ندفعه مقابل أجهزة استخراج البيانات والبرامج ذات الصلة. وتذكر أن بياناتك هي أنت. وهنا، تفرض الكلمات الخالدة التي قالها خبير أمن المعلومات بروس شناير، نفسها؛ فقبل نحو عقد، كتب: «إذا كان هناك شيء مجاني، فأنت لست العميل؛ وإنما السلعة».

لا يوجد عقد اجتماعي

أو حتى التزام أخلاقي من جانب المنصات بعدم معاملتنا كبيادق في أيديها