يميل الناس إلى الشعور بالابتهاج عند إفشاء سر، أو على الأقل أدركت المنابر الإعلامية أنّ الأخبار عن «حل الألغاز» و«كشف الكنوز المخبأة» تزيد معدل التصفح والمشاهدة. لذا لم يعد مفاجئاً، بالنسبة لي، أن أرى موضوعات عن عمليات كشف بمساعدة الذكاء الصناعي تتعلق بأعمال فنية شهيرة لكبار الفنانين تنتشر بشكل كبير على الإنترنت. خلال العام الماضي فقط، وجدت مقالات تسلّط الضوء على إسهام الذكاء الصناعي في استعادة لوحة «سرية» للرسّام الإيطالي موديلياني، يصور فيها «محبوبته المفقودة»، توضح كيف ساعد الذكاء الصناعي في «إعادة إحياء» تصوير «عارٍ مستتر لبيكاسو». وكذا الأعمال التالفة للفنان النمساوي غوستاف كليمت، و«استعاد» أجزاء من لوحة «دورية الليل» لرامبرانت التي تعود إلى عام 1642، والقائمة تضم المزيد.
لقد أصبحت بوصفي مؤرخة للفن مهتمة بشكل أكبر بتغطية ونشر تلك المشروعات؛ وهي لم تكشف في الواقع أي سر أو تحل أي لغز، بل كل ما تفعله هو تقديم قصص عن الذكاء الصناعي تُشعر القارئ بمشاعر جيدة.
هل نحن نتعرف حقاً على أي شيء جديد؟
فلننظر إلى التقارير الخاصة بلوحات موديلياني وبيكاسو؛ لقد كانت مشروعات نفذتها شركة واحدة هي «أوكسيا بالوس»، التي لم يؤسسها مؤرخو تاريخ، بل باحثو دكتوراه في مجال تعلم الآلة. وقد اعتمدت الشركة في الحالتين على صور بالأشعة السينية التقليدية، وفلورية الأشعة السينية، وصور باستخدام الأشعة تحت الحمراء نُفّذت ونُشرت بالفعل منذ سنوات، وهو عمل كان قد كشف عن اللوحات الأولية التي توجد تحت الطبقة المرئية على لوحات الفنانين.
وقد عدّلت الشركة تلك الصور، وأعادت تكوينها لتبدو كأعمال فنية جديدة، باستخدام تقنية تسمى «نقل النمط العصبي»؛ وهو مصطلح يبدو معقداً بالنسبة إلى برنامج يحلل الأعمال الفنية إلى وحدات صغيرة جداً، ويستنبط منها نمطاً مشتركاً، ثم يعد بإعادة تشكيل صور لمحتوى مختلف بالأسلوب نفسه والنمط نفسه. وتعمل الشركة بالأساس على تكوين أعمال جديدة باستخدام ما يمكن للآلة أن تعرفه من الصور الموجودة التي صُوّرت بالأشعة السينية، ومن لوحات أخرى للفنان نفسه.
مع ذلك، بعيداً عن استعراض قوة ومهارة الذكاء الصناعي، هل توجد أي قيمة فنية أو تاريخية لما تفعله الشركة؟
لا تعلمنا تلك الصور المعاد تكوينها بأي شيء لم نكن نعلمه عن الفنانين وطرقهم. إنّ الفنانين يرسمون على أعمالهم طوال الوقت، وهو أمر معتاد إلى درجة إطلاق مؤرخي الفن والمحافظين على الفنون مصطلح «الآثار القديمة للطبقة المرئية من اللوحة» (بنتيمنتو). لم تكن أي من تلك الصور والتكوينات السابقة مخفية عمداً في اللوحة بانتظار أن يكتشفها الباحثون. بالتأكيد كانت صور الأشعة السينية الأصلية ذات قيمة لأنّها قدمت رؤى متبصرة تتعلق بطرق وأساليب عمل الفنانين، لكن بالنسبة لي ما تقوم به تلك البرامج ليس جديراً بالنشر من منظور تاريخ الفن.
العلوم الإنسانية على أجهزة دعم الحياة
لذلك عندما أرى تلك الحالات المعاد إنتاجها تجذب انتباه وسائل الإعلام، أشعر بصدمة باعتبارها جهوداً دبلوماسية ناعمة لدعم الذكاء الصناعي توضح تطبيقاً «مستنبتاً» للتكنولوجيا في وقت تتصاعد الشكوك في خداعه وانحيازه واستخدامه في تجاوزات وانتهاكات.
عندما يجذب الذكاء الصناعي الانتباه لاستعادته أعمالاً فنية مفقودة، تبدو التكنولوجيا حينها مخيفة بدرجة أقل مما يحدث عندما تتصدر عناوين رئيسية عن استخدامها في تكوين صور زائفة تزيف خطاب سياسيين أو في التعرف على الوجه بغرض الرقابة الاستبدادية. كذلك يبدو أنه يتم استخدام تلك الدراسات والمشروعات لنشر فكرة أن علماء الكومبيوتر أكثر مهارة وكفاءة في البحث التاريخي من مؤرخي الفن.
تُحرم أقسام العلوم الإنسانية في الجامعات تدريجياً لسنوات من التمويل، في الوقت الذي يُخصّص فيه قدر أكبر من المال إلى العلوم. تحظى العلوم، من خلال ادعائها للموضوعية وتقديم نتائج مثبتة بالتجربة، باحترام أكبر من المؤسسات التمويلية والعامة التي تقدم حافزاً للباحثين في العلوم الإنسانية لتبني طرق حاسوبية.
من جانبها، انتقدت كلير بيشوب، مؤرخة الفن، هذا التطور، مشيرة إلى أنّه عندما يصبح علم الكومبيوتر مستخدماً في العلوم الإنسانية، «ستصبح المشكلات النظرية سطحية عنوة وبالقوة بفعل وزن وحمل البيانات»، وهو ما يخرج نتائج مبسّطة تبسيطاً مخلاً بدرجة كبيرة. ويدرس مؤرخو الفن بالأساس الطرق التي يستطيع بها الفن تقديم رؤى متبصرة لنظرة الناس إلى العالم في وقت ما. إنّهم يستكشفون كيف شكلت الأعمال الفنية العوالم التي ظهرت فيها، وكيف ستستمر في التأثير على الأجيال القادمة؛ ولا يمكن لخوارزمية الكومبيوتر أداء تلك المهام والوظائف. مع ذلك، سمح بعض الباحثين والمؤسسات للعلوم بابتلاعهم من خلال تبني طرقهم وإقامة شراكات معهم في مشروعات مدعومة وتحظى برعاية.
وقد حذرت باربرا هيرنستين، الناقدة الأدبية، من التنازل عن الكثير للعلوم، إذ ترى أنّ العلوم والعلوم الإنسانية لا تمثلان قطبين متقابلين، كما يتم تصويرهما على الساحة العامة في كثير من الأحيان. مع ذلك، أفاد ذلك التصوير العلوم كثيراً، حيث تُقدر وتُمدح لوضوحها المزعوم ونفعها المفترض في مقابل غموض وانعدام فائدة العلوم الإنسانية، كما تشير المزاعم. وفي الوقت ذاته، تشير باربرا إلى احتمال أن تسفر مجالات الدراسة الهجينة، التي تجمع بين الفنون والعلوم، عن إنجازات متميزة لم تكن لتصبح متاحة لو ظل كل مجال منفصلاً عن الآخر.
مع ذلك أظل متشككة في هذا الأمر، ليس لشكي في فائدة ومنفعة توسيع نطاق أدواتنا وتنويعها، حيث يستخدم بعض الباحثين العاملين في مجال العلوم الإنسانية الرقمية بالفعل طرقاً حاسوبية مع كياسة وفطنة ووعي تاريخي لإضافة لمسة جديدة إلى الروايات المؤيدة المترسخة أو إسقاطها، بل إنّ شكي الممتد ينبع من وعيي بما يعنيه الدعم الشعبي للعلوم واحتقار العلوم الإنسانية، وهو أنّ العلوم الإنسانية، في محاولة للحصول على تمويل وقبول سوف تخسر ما يجعلها مهمة وأساسية. إنّ حساسية المجال تجاه الخصوصية التاريخية والاختلاف الثقافي تجعل تطبيق النظام نفسه على أعمال فنية متنوعة بشكل كبير غير منطقي تماماً.
كم يبدو من السخيف الاعتقاد أنّه يمكن تلوين صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود يعود تاريخها إلى مائة عام بالطريقة نفسها التي يتم بها تلوين الصور الفوتوغرافية الرقمية الآن. وهذا بالضبط ما تفعله تقنية التلوين باستخدام الذكاء الصناعي.
قد يبدو هذا المثال تحديداً مثل وخزة ضمير صغيرة، لكن عادة ما تخلط هذه المحاولة لـ«إعادة الأحداث إلى الحياة» بين الصورة والواقع. لا تُظهر إضافة اللون الأشياء كما كانت، بل تعيد تشكيل وتقديم ما يعدّ صورة معادة التكوين بالفعل على صورتنا، ولكنها تحمل هذه المرة ختم موافقة علوم الكومبيوتر.
* خدمات «تريبيون ميديا»