باريس تودّع «السيدة الألمانية التي تحبها فرنسا»

المستشارة ظلت الحليف الأقرب لماكرون في أوروبا رغم الصدامات

أكثر من مرة تعانق ماكرون وميركل عناقاً طويلاً وأحياناً «محرجاً» حسب وصف الصحافة الألمانية (رويترز)
أكثر من مرة تعانق ماكرون وميركل عناقاً طويلاً وأحياناً «محرجاً» حسب وصف الصحافة الألمانية (رويترز)
TT

باريس تودّع «السيدة الألمانية التي تحبها فرنسا»

أكثر من مرة تعانق ماكرون وميركل عناقاً طويلاً وأحياناً «محرجاً» حسب وصف الصحافة الألمانية (رويترز)
أكثر من مرة تعانق ماكرون وميركل عناقاً طويلاً وأحياناً «محرجاً» حسب وصف الصحافة الألمانية (رويترز)

لم يكن وداع فرنسا للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عادياً. ولم يشبه أي وداع أقامته لها الدول الصديقة وغير الصديقة التي تجول عليها المستشارة منذ أسابيع، بانتظار أن تغادر منصبها نهائياً في الشهرين المقبلين وتتقاعد بعد ١٦ عاماً قضتها في حكم ألمانيا.
في روسيا وتركيا واليونان وأوكرانيا وغيرها من الدول التي زارتها خلال الشهر الماضي، بدت الزيارات الوداعية تلك عادية مثلها مثل سابقاتها. ولكن في فرنسا، كان استقبال الرئيس إيمانويل ماكرون لها عاطفياً وحميماً. أكثر من مرة تعانق الزعيمان عناقاً طويلاً وأحياناً «محرجاً» بوصف الصحافة الألمانية. وكان واضحاً أن هدف الزيارة لم يكن السياسة، بل فقط لوداع «سيدة تحبها فرنسا»، بقول ماكرون، حتى أن زوجها يواكيم رافقها في الزيارة، وهو نادراً ما يرافقها في رحلات عمل. ولكن الرحلة كانت بعيدة عن أجواء العمل ولم تحصل أصلاً في العاصمة باريس، بل في منطقة تاريخية وسط كروم بورغوندي في شرق فرنسا. هناك تجولت ميركل وماكرون، مصحوبين بشريكيهما، في شوارع بلدة بون الغنية بالتراث والتاريخ. كان المئات من الفرنسيين مصطفين على الطرقات يصفقون ويقولون «برافو» للسيدة التي باتت وجه ألمانيا «الصديقة» بالنسبة لهم. وتوج ماكرون تكريمه هذا لميركل التي عاصرت ٤ رؤساء فرنسيين، بمنحها الوسام الأعلى الذي تمنحه الدولة الفرنسية وهو وسام جوقة الشرف، لتشكره هي بالفرنسية رغم أنها لغة لا تتقنها. وحتى أن عينيها دمعتا في النهاية، وهي لحظات نادرة الحصول بالنسبة لسيدة غالباً ما تظهر بمظهر جدي بعيداً عن العاطفية. ولم يكن فقط شكل الزيارة هو الذي أكد على قرب العلاقة بين الطرفين، بل أيضاً شكر ماكرون لميركل «جهودها في إبقاء أوروبا موحدة وصبرها وتحملها» له طوال السنوات الماضية، في اعتراف واضح بأن العلاقة بينهما لم تكن دائماً بهذا التناغم، حتى أنها في بداياتها شهدت توترات كبيرة ظلت مسيطرة على العلاقات الثنائية لفترة طويلة. ورغم أن ماكرون قرر زيارة ألمانيا في اليوم الثاني لتنصيبه رئيساً بعد فوزه عام ٢٠١٧، تماماً مثل سلفه فرنسوا هولاند، فإن حرصه على العمل المتناغم مع ألمانيا لم ينعكس واقعاً، على الأقل في البداية. ووجد ماكرون نفسه أمام «الخيبة الأولى» بعد خطابه الشهير الذي ألقاه في جامعة السوربون في سبتمر (أيلول) ٢٠١٧، سطر فيه لرؤيته لمستقبل أوروبا وتعاون أقرب حول الدفاع والهجرة والأزمات المالية. ولكن برلين واجهت عرض ماكرون بصمت طويل أثار استياء الرئيس الفرنسي الشاب القادم مفعماً بالحيوية لجعل أوروبا «أكثر قوة واستقلالية». وتلت تلك الخيبة «خيبات» أخرى تتعلق بالخلافات حول مقاربة روسيا ومواجهتها، فاصطدم الزعيمان حول مشروع غاز نورد ستريم ٢ الذي انتهى العمل به قبل أسابيع وهو سيوصل الغاز الطبيعي الروسي مباشرة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق من دون المرور في أوكرانيا. وشكك ماكرون في البداية بمدى صواب قرار ألمانيا زيادة اعتمادها على روسيا في إمدادها بالغاز. وكان الصدام الثالث بين الطرفين حول دور حلف شمالي الأطلسي بعد أن وصفه ماكرون في مقابلة مع مجلة «إيكونومست» البريطانية بأنه حلف «ميت دماغياً» بسبب غياب التنسيق بين أطرافه، فسارعت ميركل لرفض انتقاداته وقالت إن الحلف العسكري «لا غنى عنه»، واصفة انتقادات ماكرون له بأنها «غير ضرورية وأحكام متسرعة». ولكن بين تلك «الصدامات» كانت محاولات من الطرفين لرأب هذا الصدع وإعادة تعميق العلاقات، فكان مثلاً اجتماع ميزيبيرغ في ألمانيا عام ٢٠١٨ الذي مهد الطريق لاحقاً لاتفاق تاريخي حول تشارك الدين العام الأوروبي. وتبعه أيضاً عام ٢٠١٩ «إعلان آخن» الذي أعاد التشديد على «الصداقة الفرنسية الألمانية» والعمل على تعميقها. وسرعان ما تحولت هذه الوثائق إلى اتفاق تاريخي العام الماضي، تمثل بموافقة ألمانيا على مشاركة دول الاتحاد الأوروبي للدين العام لإنقاذ الدول التي عانت خسائر اقتصادية باهظة خلال أزمة «كورونا»، مثل إيطاليا واليونان وغيرها. ويعاد الفضل في إقناع ميركل على الموافقة على الحزمة المالية الضخمة، للرئيس ماكرون شخصياً وإصراره على إنقاذ الدول الأوروبية الغارقة خوفاً من أن تغرق معها كامل الاتحاد. وعادت فرنسا ووافقت كذلك على مشروع نورد ستريم ٢ وقالت إنها توصلت لاتفاقات مع ألمانيا حول المشروع وتفادي أن تستخدمه روسيا أداة سياسية. ورغم أن فرنسا ودعت ميركل فهي الآن تتطلع لمواصلة العمل مع المستشار المقبل أولاف شولتز بعد أن يشكل حكومته، وهي عملية يأمل المرشح الاشتراكي الفائز في الانتخابات أن تنتهي مع نهاية الشهر الجاري ولكنها قد تطول أكثر. وشولتز ليس غريباً عن فرنسا، فهو كان يشغل منصب نائب المستشارة ووزير المالية واستقبله أصلاً ماكرون خلال الحملة الانتخابية في ألمانيا. ومن المؤكد أن شولتز نفسه يعتبر فرنسا الشريك الأساسي والأول لألمانيا، فهو تعهد خلال حملته بأن تكون باريس المحطة الرسمية الأولى له بعد تسلمه مهامه.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟