التشكيلي حسين نوح يجسد عشقه للمرأة متلاعبًا بالعجائن اللونية والسجاد الشرقي

معرض «هي.. شكرًا».. افتتحه عمرو موسى ونخبة من الفنانين والسياسيين

عمرو موسى يستمع إلى شرح الفنان التشكيلي حسين نوح لمضمون لوحاته
عمرو موسى يستمع إلى شرح الفنان التشكيلي حسين نوح لمضمون لوحاته
TT

التشكيلي حسين نوح يجسد عشقه للمرأة متلاعبًا بالعجائن اللونية والسجاد الشرقي

عمرو موسى يستمع إلى شرح الفنان التشكيلي حسين نوح لمضمون لوحاته
عمرو موسى يستمع إلى شرح الفنان التشكيلي حسين نوح لمضمون لوحاته

افتتح السياسي المصري البارز د. عمرو موسى، الأربعاء، معرض «هي.. شكرا» للفنان التشكيلي المصري حسين نوح، شقيق المطرب والملحن الراحل محمد نوح، وذلك في قاعة الفنون التشكيلية بالهناجر، بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة. وحضر الافتتاح نخبة من نجوم الفن والسينما ورجال السياسة، من بينهم: د. عصام شرف رئيس وزراء مصر الأسبق، ود. مصطفى الفقي، والسفير اللبناني في القاهرة د. خالد زيادة، والفنانات القديرات سميحة أيوب، وسهير المرشدي، وفادية عبد الغني، والنجمة ليلى علوي، ومنال سلامة، وحنان مطاوع، والفنان الكبير يحيى الفخراني وزوجته د. لميس جابر، والفنان خالد زكي والمطرب سامح يسري، وعدد كبير من كتاب السيناريو والمخرجين، من بينهم المخرج الكبير وجدي أبو عميرة، والمخرجة إنعام محمد علي.
يضم المعرض الذي يمتد لمدة أسبوع، 40 لوحة استخدم فيها الفنان تقنيات متنوعة ما بين التصوير الزيتي والمائي على التوال والخشب والسجاد. وتبرز اللوحات المرأة المصرية وصمودها ومعاناتها، وفي كثير من اللوحات جسد الفنان المرأة تحت وطأة القهر. في كل لوحة ستشعر بأنها تروي حكاية إنسانية بآلامها وأفراحها، ولا يكتفي الفنان برصد ملامح المرأة في شتى حالاتها: الفرحة والنشوة والحزن ومشاعر الوحدة، وإنما استطاع بضربات فرشاته أن يجذب المتلقي ليقف مشدوها متأملا براعته في تجسيد عذاباتها، بل وسماع أناتها في آلامها وضربات قلبها الفرِحة أو المتخوفة من المجهول.
ويقول الفنان التشكيلي الكبير حسين نوح لـ«الشرق الأوسط»: «حاولت في المعرض تجسيد المرأة في كل حالاتها، متأثرا بدورها الكبير في المجتمع خاصة في ثورة يناير (كانون الثاني)، حيث أذهلني عطاؤها أثناء مشاركتي اليومية في الثورة ووجودي في الميدان، إنها حقا أكثر من نصف المجتمع».
ويضيف: «المرأة هي ملهمتي وملهمة كل فنان. والأم هي البداية دائما، وأنا أدين بالفضل الكبير لأمي التي لم تكن تعرف القراءة والكتابة وعلمتني حب القراءة والاطلاع وعشق الموسيقى. وهذا المعرض محاولة مني لتكريم المرأة التي أراها تتجسد في والدتي، والتي أعتبرها تمثل كل نساء العالم، فالمرأة دائما تدرك رسالتها، تؤدي أدوارها بلا كلل، تقف بصلابة، كالشجرة الراسخة الجذور».
وكان من اللافت تميز الفنان حسين نوح في تقنية الرسم على السجاد بحلق وتشذيب أجزاء منه واستخدام تكويناته اللونية وزخارفه في خلق وابتكار لوحات تعبر عن التراث المصري وتنبض بالحياة. تلك التقنية التي يعمل عليها نوح منذ أكثر من 20 سنة، محاولا تطويرها لتجسيد تكوينات لونية فريدة تنطلق من التراث المصري.
ويضفي استخدام الفنان للسجاد مع العجائن اللونية رونقا خاصا وسحرا من عبق الشرق على اللوحات. ويبدو تأثر نوح بالفنان الإيطالي تتسيانو (1488م - 1567م) المعروف ببراعته في استخدام الألوان والعجائن، فقد استطاع نوح التلاعب بالتدريجات اللونية ليجسد حركة الدم في عروق المرأة ودموعها المنسابة؛ الأمر الذي عكس براعته في التلاعب بالعجائن مع تموهات الفرشاة، مما أكسب اللوحات القدرة على إثارة مشاعر المتلقي ودمجه في الحالة النفسية لشخوص اللوحات.
وقد استعان الفنان برمزية جسد الخيل في بعض اللوحات تعبيرا عن جموح المرأة أحيانا وانطلاقها وحريتها وثورتها أحيانا أخرى. واستطاع نوح أن يوزع المساحات اللونية على فراغ اللوحات مكسبا إياها قيما لمسية تتجلى في خواص الزجاج والوبر.
وأعرب الفنان عن سعادته بالإقبال الجماهيري والنخبوي الكبير على معرضه، قائلا: «هذا الكم من الإقبال سيجعلني أستميت في تحقيق رسالتي التي أعمل عليها حاليا، وهي تجميل القاهرة، وهو ما سوف أركز عليه في الفترة المقبلة بالتعاون مع د. عصام شرف».
من جانبه عبر رئيس وزراء مصر الأسبق الدكتور عصام شرف عن إعجابه بالمعرض، قائلا: «الفن الراقي هو ما يشرح حالات إنسانية معينة، والفنان قد برع في تجسيد جميع الحالات التي تمر بها المرأة المصرية، وأتصور أنه لا بد أن يكون المشروع الرئيسي لنا هو بناء الهوية الثقافية وإعادة تشكيل الوعي الجماهيري من خلال تعميم ثقافة الفن التشكيلي».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)