يصيغ الفنان المصري محمود أحمد بغدادي مفردات تراث الصعيد وإرثه الفني الأصيل عبر إنتاج قطع من الأثاث تناسب المنازل العصرية لتزدان أرجاؤها وجدرانها بشمس الجنوب وعبق تاريخه الطويل، فتجتذب أعماله دوماً المولعين بالموروث الشعبي في المعارض والفعاليات المختلفة، وكان أحدثها النسخة الثالثة من معرض «تراثنا للحرف اليدوية والمنتجات التراثية» الذي أقيم أخيراً في «مركز مصر للمعارض الدولية» وكان من اللافت تطوير بغدادي لمنتجات من الأثاث وقطع ديكور مستلهمة من الجنوب في صورة أكثر إبداعاً وحداثة.
يقدم الفنان وحدات فنية وديكورية مصرية الروح والملامح، يرسم بعضها بألوان الزيت، وبعضها الآخر يحفره يدوياً على الخشب، فلم يكتف ابن مدينة الأقصر بما قدمه في بداية حياته الفنية من لوحات فنية، إنما قرر أن يقدم قطع أثاث تقليدية يشتهر بها الصعيد بجودة عالية مثل «الدكة»، و«صندوق العروسة»، و«دولاب بنت العمدة» والمقاعد الخشبية «المتينة» والطبلية والأبواب ذات الزخارف والموتيفات الموغلة في القدم، إلى جانب السجاد اليدوي والستائر، ذلك مع الحرص على المزج بين الوظيفية والجمال في التصميم.
يقول الفنان لـ«الشرق الأوسط»: إنّ «تقديم التراث بفكر جديد ورؤى معاصرة أمر صعب، لكنه ضروري للغاية لأنّه يتيح أن يصبح التراث والفن معاً في متناول الجميع، عن طريق تحويلهما إلى قطع للاستخدام اليومي تبث داخل النفس الإحساس بالاحتماء بإرث الأجداد وتمثل إطلالة مستمرة على حضارتهم».
شغف محمود بالتراث لا ينبع في الأساس من غايات أو أهداف ترويجية تسويقية، إنّما من إيمانه بـ«هوية الجماعة» التي ينبغي الإبقاء عليها والاستناد إليها على حد تعبيره، وهو ما دفعه منذ كان طالباً في المرحلة الثانوية بتوثيق رسوم بيوت الأقصر عبر تصويرها بكاميرته، يقول: «تهدمت بعض هذه البيوت بكل ما كان يعلوها من رموز وموتيفات، لذلك تعد الصور التي التقطتها والتقطها غيري من عشاق التراث بمثابة وثائق فنية شعبية، ومن هنا أيضاً جسدتها في قطع (ديكورية حية) بصياغة فنية جديدة لكيلا يندثر تراثنا».
أسس بغدادي ورشته الخاصة مختاراً لها اسماً موحياً هو «آرت هوم الأقصر» يضم فريق عمل كبيراً قام بتدريبه ويعتبره شريكه في النجاح، بعضهم من الأكاديميين والمتخصصين وبعضهم الآخر من الفنانين الفطريين من أبناء المنطقة ممن تشربوا الفنون اليدوية من آبائهم: «في البداية عرضت على أصحاب البازارات في الأقصر أفكاري لإنتاج قطع أثاث من التراث الشعبي، لكن كان موضوع المنتجات المقترحة وعناصرها غير مألوفة تماماً على السائد وقتها، إذ كانت العناصر بطبيعة محافظة الأقصر عناصر فرعونية قديمة، ومن هنا قررت أن أتحمل المخاطرة برأس المال والخامات، مع التسويق لأفكاري ومنتجاتي، إلى أن نجحت في اجتذاب الزوار الأجانب والمصريين والعرب على السواء، وتُشحن أعمالي إلى العديد من الدول».
وتعد «الدكة» الخشبية من أبرز القطع التراثية في الصعيد، التي يصممها الفنان ويحفرها يدوياً بزخارف وموتيفات شعبية، مما يستدعي من الذاكرة ذكريات جلسات العصاري التي يجتمع فيها الرجال في حلقات مرتدين جلابيبهم البيضاء وتعتلي رؤوسهم العمائم.
وتتدفق كذلك اللحظات الدافئة في الذاكرة حين يشاهد الزائر الطبلية القناوي التي تلتف حولها الأسرة، ودولاب الملابس «دولاب بنت العمدة» المرسوم عليه الموتيفات الشعبية مثل لمبة الجاز والوابور، والكرسي الخشبي المزخرف، و«الطرمبة»، كما تشغل سائر قطع الأثاث برسوم لثنائيات مصرية شهيرة على غرار «ناعسة وهريدي»، و«عتريس وفؤادة»، و«تيمور وشفيقة»، و«عويس وفاطمة»، إلى جانب رموز من بيئة الأقصر مثل برج الحمام والمركب والجرة، والزير، والمثلث.
وهي موتيفات ذات دلالات ورموز شعبية، مثل الكف والعين لدرء الحسد، والنخلة رمز الخير، والأسد رمز القوة والشجاعة لتخويف من يفكر في إلحاق الشر بأهل البيت. بجانب الغزالة رمز الرشاقة والجمال والسرعة.
يزيد من دقة الصنع التي جذبت الجمهور من مختلف الفئات والجنسيات وأعادت أثاث الصعيد إلى بيوت الأثرياء حتى في القرى الساحلية المصرية احتفاء محمود بغدادي بالشغل اليدوي في جميع مراحل العمل إلى جانب اعتماده على أدوات النجارة التقليدية، مثل الأزميل والمطرقة الخشبية، والمبرد والسكين والمقشطة وغيرها، وذلك لأنّه ينحت في جسم قطعة الأثاث مباشرة من دون استخدام تقنية تركيب أجزاء محفورة من خارج جسمها حتى تعيش طويلاً وتتميز بشكل مميز أملس. وتُعد الألوان سمة أخرى تتميز بها قطع الأثاث التي يقدمها، إذ يستخدم درجات مستوحاة من بيئة الجنوب وزخارف ألوان النوبة المميزة مثل الأخضر والبرتقالي والأحمر والأصفر والأزرق: «لماذا نتمسك باللون البني الغامق في الأثاث، بينما يمكن اللعب بالألوان لبث الراحة والبهجة؟»، ويعتمد في ذلك على استخدام سكين ناعم خاص بألوان الزيت إضافة مواد لحماية الخشب من التقشر والخدوش.
وبجانب مرجعية بغدادي البيئية كأحد أبناء الجنوب، فإنّه يستند كذلك في أعماله إلى مرجعية علمية أكاديمية، فبعد حصوله على الماجستير يُعدّ الآن رسالته للدكتوراه في المزج بين الفنون المختلفة للحفاظ على التراث المصري.