السلاح في لبنان... منعة الأهل و{زينة الرجال}

استخدامه في الحروب الداخلية قصة قديمة لتأكيد مكانة الجماعات الطائفية

مقاتلون من «الثنائي الشيعي» خلال الاشتباكات الأخيرة في منطقة الطيونة (أ.ف.ب)
مقاتلون من «الثنائي الشيعي» خلال الاشتباكات الأخيرة في منطقة الطيونة (أ.ف.ب)
TT

السلاح في لبنان... منعة الأهل و{زينة الرجال}

مقاتلون من «الثنائي الشيعي» خلال الاشتباكات الأخيرة في منطقة الطيونة (أ.ف.ب)
مقاتلون من «الثنائي الشيعي» خلال الاشتباكات الأخيرة في منطقة الطيونة (أ.ف.ب)

سار المئات من أنصار حركة «أمل» و«حزب الله» يوم الخميس 14 أكتوبر (تشرين الأول) حاملين أسلحتهم في شوارع الضاحية الجنوبية المتاخمة لأحياء عين الرمانة المسيحية مستعيدين أحد مشاهد الحرب الأهلية وسلوكيات أصحابها. بل إن السلاح الذي حملوه يعود في معظمه إلى حقبة الحرب تلك. وكأن العتاد بقي حيث بقي الكثير: روح الاقتتال الطائفي وشعاراته التي لم تفارق جماعات متحاربة لا تحبذ تغيير أنواع البنادق والقذائف الصاروخية والرشاشات المتوسطة.
لم تُظهر الصور ومقاطع الفيديو التي نشرتها منصات التواصل الاجتماعي أصنافاً جديدة من السلاح. الكلاشنيكوف وقاذفات صواريخ «آر بي جي» والرشاشات المتوسطة «بي كيه إم» وبعض بنادق «إم 16» و«إم 18» التي تطلق قنابل عيار 40 مليمتراً، هي الترسانة التي أنزلها «الثنائي الشيعي» في استعراض رفضه «تسييس» التحقيق في تفجير مرفأ بيروت. باختصار، يبلغ عمر تصاميم السلاح التي أغرقت شوارع الضاحية الجنوبية عقوداً طويلة وإن كانت النماذج المستخدمة لم يمر على صناعتها أعوام عدة. الأصالة والحداثة اجتمعتا في سلاح المسيرة «السلمية».

يعطي المشهد انطباعاً بالرؤية السابقة (Déjà vu) خصوصاً لمن عاش فصول الحروب اللبنانية، حتى تكاد أنواع السلاح الذي عمّ الأزقة في ذلك النهار الخريفي تُطابق ما كان يخرج من مراكز ومعسكرات الفصائل الفلسطينية أوائل السبعينات ومن معاقل الميليشيات العلمانية والطائفية في أثناء تجهيز نفسها للحرب. عاديّة الحشد المسلح كانت أقوى من أصوات مدنية مستنكرة. فاللبنانيون يعلمون أن في اجتماعهم وسياستهم حيزاً مكفولاً للبنادق.
والحال أن «مقاومة» أهلية استبُدلت مقاومة غير لبنانية، فيما بقي الحفاظ على السلاح وتقديسه والاحتفال بكل حمولته الرمزية، الواعي منها وغير الواعي، حاضراً منذ أكثر من خمسة عقود.
المقاومة التي تنطوي على معنى متخيَّل للوطن والقضية وتدافع عن «العرض والأرض» وتجدد، في غضون ذلك، صوغ وعي الجماعة وتحدد الأخطار المحيقة بها، هي المؤهلة لدفع مسلحيها وعتادهم الحربي للاعتراض في الشارع على كل ما يشاءون ومتى شاءوا. ولا تناقض في روع أصحاب الدعوة إلى التظاهر بين حشود المسلحين وبين صفة «السلمية» التي أطلقوها على تحركهم. فالجماعة لا تأتي بما يضر السلام. الأعداء وحدهم يفعلون ذلك.
غياب الجدة عن أنواع السلاح في شوارع المشرفية والطيونة وعين الرمانة، يعكس انعدام أي جديد في ذعر الطوائف وبَرَمها من كل تدخل في تنظيمها شؤونها وإدارتها يومياتها حتى لو كان المُتدخل قاضياً عدلياً كلّفه القضاء التحقيق في ثالث أضخم انفجار غير نووي عرفه العالم. الإشارة إلى التضارب بين فداحة الخسائر البشرية والمادية التي أصابت بيروت وبين إصرار الطبقة السياسية الحاكمة التي يحميها ويستفيد منها «حزب الله»، على إجهاض كل محاولة للوصول إلى الحقيقة وبالتالي صدور حكم عادل على المتورطين باستيراد مادة نيترات الأمونيوم والمتسترين عليهم ومن يقف وراءهم، لا تعني شيئاً. ليست الحقيقة والعدالة من اهتمامات الطوائف المسلحة الغاضبة والثائرة بلا قضية ولا قيم. فما يهم، على ما بات معروفاً، هو إبقاء النظام الحالي قائماً بصيغته وإدامة مصالح التحالف الحاكم وحمايتها. السلاح يحضر لهذه الغاية. المقاومة هي الاسم المتداول لهاتيك الصيغة والسلاح والمصالح، المتضافرة والمتناغمة.
السلاح كعنصر توكيد على هوية الأهل ومكانتهم بل على إنشاء الجماعة قصة قديمة في لبنان.
نجد شذرات عنها في مراسلات الباب العالي إلى والي الشام العثماني في القرن السادس عشر (راجع عبد الرحيم أبو حسين – «لبنان والإمارة الدرزية في العهد العثماني - وثائق دفتر المهمة 1546 - 1711» - دار النهار 2005) حيث كان الصدر الأعظم يركّز في الكثير من رسائله على أهمية مصادرة الوالي السلاح الذي تُنزله السفن الأوروبية وتبيعه إلى الدروز وغيرهم. كان المسؤول العثماني يخشى استخدام تلك البنادق فيما يسميه أبو حسين «التمرد المديد» على السلطنة. لكن الصدر الأعظم غلّب الجانب الأمني المباشر على الجوانب الأخرى من تلك التي يعنيها السلاح لأهل جبل لبنان.
غنيٌّ عن البيان أن تصدير السلاح كان في القرن السادس عشر، كما هو اليوم، تكثيفاً لغايات وأهداف عدة: الربح المالي وإقامة التحالفات وزرع الخوف عند العدو من بين أمور أخرى. أما المستورد اللبناني فالسلاح يعني قدرته على التملص من سلطة غاشمة ومتجبرة وتعزيز قوته في مواجهة الخصوم المحليين، سيان أكانوا من أتباع السلطة الخارجية أو من أعدائها. وشهيرة تلك الاستعارة اللبنانية القديمة التي تعدّ العائلات في الجبال بعدد بنادقها. فالعائلة الفلانية هي «500 بارودة» ما يفترض أن يُحسب حسابها في كل نزاع على الأرض وحقوق الرعي والري وتوزيع الأراضي وتقسيمها وعندما يدعو النفير الحربي.
بعد أحداث الطيونة الأخيرة، استُعيدت عبارة شهيرة أيضاً في الرطانة اللبنانية: «هناك قطعة سلاح في كل بيت». صحة هذه الجملة التي تُرمى في سياق التخفيف من شُبهة التخطيط المسبق لأي عراك بين الطوائف وإعادة «الإشكالات المسلحة» التي هي علّة انتشار السلاح بين الأهل انتشاراً «طبيعياً» لا يختلف عن ظواهر أخرى من الطبيعة اللبنانية، كالثلوج في الجبال وجمال الشواطئ، على سبيل المثال، تخبّئ الصحة هذه سقماً عميقاً هو الاعتقاد السائد بغياب المرجع القانوني الأعلى من الأهل والطائفة والحي. المرجع الذي يستند في فعله إلى القانون والدستور والعقد الاجتماعي. الدولة، بكلمة ثانية.

- سلاح الحرب الدائمة
يضم متحف «قصر موسى» في بلدة دير القمر في جبال الشوف، مئات البنادق والسيوف والمسدسات. أكوام من الأسلحة المكدسة. بعضها ربما شهد حروب القرن التاسع عشر ومذابحه في القرى القريبة من دير القمر. يعود الكثير من البنادق إلى أزمان مختلفة يترك تكدسها وتنوعها انطباعاً بأنها لم تحُزْ عناية كافية من خبراء الآثار والعاديّات.
وتحضر في المشهد كذلك سيوف تقول القصاصات الصغيرة الموضوعة قربها بتعدد تواريخ صنعها وأصحابها السابقين. سيوف مملوكية وتركية وأخرى مصنوعة في الغرب أو حتى في جورجيا. لا يمكن الجزم، من دون الشرح الضروري الذي يفترض أن يقدمه الاختصاصيون، من أين جاءت كل قطعة من قطع السلاح تلك ولا في أي معارك استُخدمت ولا مَن كان صاحبها وإن كان بعضها يحمل أسماء أمراء وشيوخ أفل ذكرهم. ولعل بعض هذه البنادق والأسلحة مما كان الصدر الأعظم العثماني يشكو من نزوله إلى السواحل اللبنانية.
مع قليل من التسرع، يجوز القول إن سلاح الدروز المتحدر من شبه الاستقلال الذي نعمت به إماراتهم في الشوف والغرب (الذي يضم بيروت الحالية) خلال العصور المملوكية وجد مهمات جديدة في الاحتجاج على السلطنة العثمانية ثم في قمع النهوض المسيحي في الشوف في القرن التاسع عشر وصولاً إلى التصدي لاقتحام «حزب الله» الجبل في مايو (أيار) 2008. الطوائف الأخرى لم تتوانَ عن استيراد السلاح وإدراجه ضمن منظومة العلاقات الداخلية. بل صار «السلاح زينة الرجال» على ما رأى مؤسس الموقع الشيعي في الجمهورية اللبنانية، الإمام موسى الصدر، حتى لو كان السلاح الذي قصده في كلمته موجهاً ضد إسرائيل واستباحتها للجنوب اللبناني أوائل السبعينات وامتناع الدولة اللبنانية عن الدفاع عن مواطنيها هناك. فالسلاح مادة سياسية سائلة قابلة للتسرب من القضايا الكبرى إلى حوض الاقتتال الداخلي.
وفي باحة وزارة الدفاع اللبنانية، يرتفع نصبٌ من الإسمنت الذي حُشي مدافع قديمة كانت تصلي المدن والقرى القذائف في أثناء الحرب الأهلية. المصمم الأجنبي للنصب رأى أن عمله المذكور رمز لنهاية الحرب في لبنان وعودة السلام. والحال أن مدافع الحرب الأهلية حققت شهرة واسعة بين اللبنانيين، إذ انقلبت وسيلة تخاطب صاخب في الفترات التي استعصى فيها الحوار السياسي وحال التوازن دون تغيير الخرائط الميدانية. كانت رمزاً لغياب الحلول ودوام احتراب الأدوات المحلية للمتناحرين ومشغليهم من خارج الحدود. بعض تلك المدافع اشترته الحكومة اللبنانية بأموال مواطنيها لتسليح الجيش. أما أكثرها فجاء دعماً لفرقاء الحرب الذين رأى فيهم حلفاء إقليميون وأجانب فوائد تُرتجى في صراعات على مناطق النفوذ ضمن الحرب الباردة أو تصفية حسابات جلّها أخويٌّ بين العرب. وقبل أسابيع، نبّه أحد سادة الحرب المقبلة –وهذه قد لا تقع لكنها قيد الإعداد الدائم- أن المدافع والصواريخ ليست هي الأسلحة الرئيسية في النزاعات الأهلية. البنادق والرشاشات الخفيفة تقوم بالواجب ولا ضرر من اللجوء إلى بعض قذائف «الآر بي جي» والقنابل اليدوية. ولعل في هذا الكلام تفسيراً لتلكؤ الأطراف المعنية عن تحديث الترسانة الحربية. ذاك أن العدو المحلي يكفيه من العدة أبسطها وأرخصها.
أما إسرائيل التي سفحت تحت لواء الصراع معها وتحرير ما تحتله من أرض، دماءً وأحلاماً وأعماراً، فسلاح قتالها محجوب لا تدركه الأبصار ولا يشمله إحصاء.
والسلاح هذا قادر بزعم من يحوزه، على إصابة أهدافه في كل أنحاء فلسطين وتدمير محطات تكرير النفط ومخازن مواد كيمياوية (كتلك التي انفجرت عندنا) ومسح مستوطنات ومدن وفوقها مفاعل نووي. لكننا لن نستخدمها إلا عندما ترى قيادة المقاومة أن الوقت قد أزف لنزول صواريخها وراجماتها وطائراتها المسيّرة وكل ما يخطر وما لا يخطر على بال إنس أو جن، ساح الوغى في معركة آتية لا ريب فيها. في غضون ذلك، تبقى بنادق الكلاشنيكوف سيدة الموقف.

- رفيق أجيال متعاقبة
أجيال عدة من اللبنانيين تعرّفت على الكلاشنيكوف عن قرب. دخل إلى لبنان مع المقاومة الفلسطينية أواخر ستينات القرن الماضي وسرعان ما اكتُشِفت فضائله كتدني الثمن وسهولة الاستخدام والصيانة وتوفر الذخيرة. اقتناه المتحاربون من كل الأطراف والجبهات. من لا يصل إليه الكلاشنيكوف من حليف عربي أو «أممي»، يشتريه من السوق المفتوحة. بلدان أوروبا الشرقية التي يصنع كل منها نسخته من البندقية الشهيرة، ما بخلت بتصديرها، للحلفاء كما للأعداء. والأكداس التي صادرتها إسرائيل في أثناء «النكسات» العربية، وجدت طريقها إلى لبنان أيضاً.
«طبعات» مختلفة جاءت إلى لبنان، من الروسي (السوفياتي) الأصلي «إيه كيه 47» ثم نسخته المعدلة «إيه كيه إم» (المشظوف)، ومن المزود بأخمص خشبي، إلى المفضل في معارك الشوارع صاحب الأخمص الحديد «الأخمص طي».
والحق أن الكلاشنيكوف لم يغب عن الساحة المحلية حتى بعد عودة «السلم الأهلي». فهو سلاح الجيش السوري الذي أُوكلت إليه مهمة تطبيق اتفاق الطائف والمقاومة في الجنوب التي واصلت قتال الاحتلال.
وفي أثناء اقتحام «حزب الله» لبيروت في السابع من مايو كان الكلاشنيكوف هو السلاح الرئيسي. وبدا أن الحزب أخرج من مخازنه نسخة صينية من البندقية التي حملها أكثر المشاركين في الهجوم على المدينة. ومن عادة القوى المسلحة أن تأتي قبيل العمليات الكبيرة بكميات من السلاح الفردي الجديد لسد النواقص.
وللسلاح هذا صوت يعرفه كل من اقترب من ساحة معركة أو قتال. يُصدر تعاقب رصاصات الكلاشنيكوف إيقاعاً رتيباً عالياً يمكن تمييزه بسهولة عن أصوات بقية البنادق الآلية. إنه «صوت التوحش» حسب شهادة أحد الناجين من مجزرة مسرح باتاكلان في باريس في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 في وثائقي عرضته منصة «نتفليكس»، حيث عمد إرهابيو «داعش» إلى إطلاق النار من دون تمييز على حضور حفل موسيقي كان يقام هناك. في واقع الأمر إن ما استخدمه الإرهابيون في ذلك اليوم كان النسخة اليوغوسلافية من الكلاشنيكوف والتي تُعرف بـ«زاستافا» على اسم المصنع الذي ينتجها. وهذا تفصيل لم يغيّر في انطباع الضحايا شيئاً.
والشيء بالشيء يُذكر، فقد يكون لكل حرب صوتها. وثمة اتفاق واسع على أن صوت مروحية «هيوي» (أو «بيل يو إتش 1») هو صوت الحرب الفيتنامية، من وجهة نظر الجنود الأميركيين على الأقل.
وعلى أن صوت انقضاض طائرات «الشتوكا» الألمانية («يونكرز 87») لإلقاء قنابلها مستخدمةً مكبر صوت أطلق النازيون عليه اسم «بوق أريحا»، هو صوت الحرب العالمية الثانية، في مراحلها الأولى على الأقل قبل أن يحل مكانها صوت قاذفات «بي 29» الأميركية أو هدير دبابات «تي 34» السوفياتية.
تعكس الأسلحة المستخدمة في النزاعات والحروب الأهلية معطيات اجتماعية وسياسية متنوعة. كُتب الكثير عن المِدَى الكبيرة (Machette) التي اعتمد الهوتو عليها في أثناء مذابحهم ضد التوتسي في رواندا سنة 1994، وعن معنى استخدام هذا السلاح ومصدره ومَن استورده واختصاره للكراهية الإثنية وحلوله بديلاً زهيد الثمن عن الأسلحة النارية في بلد فقير. بهذا المعنى، يصح الحديث عن أسلحة الحروب الأهلية في الكثير من الأماكن من بينها لبنان الذي يبقى الكلاشنيكوف أمير الصدامات الأهلية. فهو يدل من جهة على مصدر السلاح ووصوله إلى البلد في إطار صراعات متداخل بعضها ببعض، الطائفي المحلي والإقليمي. كما يعلن أن اللبنانيين يستطيعون الإنفاق على سلاحهم الفردي، حتى اندلاع الأزمة الأخيرة على الأقل.
الاعتراض على انتشار السلاح وضرورة حصره بيد السلطة، يتجاهل أمرين: الأول طبيعة هذه السلطة المشكَّلة من ائتلاف طائفي لا تني العلاقات بين مكوناته تتبدل وتتغير وتستدعي، بالتالي، عناصر لتعزيز المواقع و«الخطاب» الأهلي ما يترك مجالاً ضرورياً لحضور السلاح.
والآخر أن استثناء السلطة ذاتها، مرغمة من الوصاية السورية بعد الحرب، لـ«حزب الله» من جمع السلاح، وانخراط الحزب العميق في التناحر الأهلي وأدائه دور العصا الغليظة للنظام الطائفي في الأعوام الأخيرة، وفّر ما يكفي ويزيد من ذرائع لكل الطوائف باستئناف سباق التسلح ما دامت محاولات الخروج من لغة العنف الأهلي قد أخفقت.



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.