«على المقلب الآخر من الزمن» يرتقي بالفن اللبناني إلى العالمية

أفضل ما تم تصميمه لتكريم «الكوميديا الإلهية» خارج إيطاليا بشهادة أهلها

التجهيز الفني «على المقلب الآخر من الزمن» للفنانة نايلا رومانوس إيليا
التجهيز الفني «على المقلب الآخر من الزمن» للفنانة نايلا رومانوس إيليا
TT

«على المقلب الآخر من الزمن» يرتقي بالفن اللبناني إلى العالمية

التجهيز الفني «على المقلب الآخر من الزمن» للفنانة نايلا رومانوس إيليا
التجهيز الفني «على المقلب الآخر من الزمن» للفنانة نايلا رومانوس إيليا

«أشك في أن يكون أحد البلدان الأجنبية، طبعاً غير إيطاليا، قد كرم دانتي في الذكرى 700 لوفاته بعمل فني أفضل من الذي نراه اليوم في بيروت، موقعاً من نايلا رومانوس إيليا». هكذا وصفت رئيسة المركز الثقافي الإيطالي في لبنان مونيكا زكا، التجهيز الفني «على المقلب الآخر من الزمن» لـ«الشرق الأوسط». وتمت إزاحة الستارة عن العمل في الباحة العامة لكنيسة مار إلياس في منطقة ميناء الحصن. المهندسة المعمارية نايلا رومانوس إيليا، استوحته من الملحمة الشعرية لدانتي إليغييري «الكوميديا الإلهية»، ويأتي العمل بالتوازي مع الاحتفالات التي تقام في مختلف دول العالم احتفاء بالذكرى 700 لوفاته، وفي إطار الأسبوع الحادي والعشرين للغة الإيطالية عالمياً.
يعكس التجهيز الفني موضوع قصيدة «الكوميديا الإلهية» التي تعود إلى العصور الوسطى، ويترجم بشكله المؤلف من دوائر حديدية وركائز من الإسمنت، سرداً لرحلات دانتي عبر الجحيم والمطهر والجنة التي وصفها في قصيدته. كما ترمز إلى رحلة الإنسان عبر الحياة، في ظل توقه إلى الخلاص وإدراكه عواقب الخطيئة وأمجاد السماء.
متأثرة بقصيدة «الكوميديا الإلهية» لدانتي، وبأبحاث كثيرة أجرتها حولها، استنبطت نايلا رومانوس إيليا، مدى انسجام موضوعها المعاصر مع ما يحصل اليوم في العالم. «إنها تعني لي الكثير، وكنت أقرأها بنهم، وهي تشير بوضوح إلى أننا في حياتنا نقوم بأعمال شريرة وأخرى خيرة، وسيصل اليوم الذي نحاسب فيه عليها. وفي حال لجأ الإنسان إلى التوبة، كما يذكر دانتي في قصيدته، فإن الأمل يكون كبيراً بمسامحته ومحو خطاياه والوصول إلى الفردوس». وتتابع لـ«الشرق الأوسط»: «إن هذه القصيدة تحيي بطريقة أو بأخرى الطيبة وانتصار السلام، وتعطي الأمل بالخلاص. من هنا أقمت مقارنة ما بين القصيدة ووطننا، فنحن للأسف نعيش في بلد لا محاسبة فيه. والناس تقدم على أخطاء كثيرة، من صغيرها إلى كبيرها، تماماً كما يدرجها دانتي في قصيدته. وأقسى هذه الخطايا هي التي يقترفها الناس ويتسببون بأذية غيرهم، لأن البعض ارتكب خطايا يتحملها الشعب مباشرة. كل ذلك دفعني لمقاربة القصيدة في هذا التجهيز الفني، خصوصاً أنها تحمل الأمل بنهاية سعيدة».
اختارت نايلا رومانوس إيليا، الساحة العامة أمام كنيسة مار إلياس في منطقة ميناء الحصن، مكاناً دائماً لاستضافة عملها الفني. لماذا هذه النقطة بالذات؟ ترد: «الموقع في وسط بيروت، ويطل على وجهات مختلفة. كما يشرف على فندق الـ(هوليداي إن) الذي لا يزال يحمل بصمات الحرب اللبنانية حتى اليوم. وجدت المكان مناسباً جداً لموضوع العمل، خصوصاً أن دانتي وصف عوالمه الثلاث، جهنم والمطهر والفردوس، من خلال دوائر مختلفة. وعندما نظرت إلى واجهة الكنيسة هنا، لاحظت أن بعض نوافذها تم هندستها على شكل دوائر فربطت بين الأمرين. كما أن الموضوع الأساسي للقصيدة هو الخلاص، أي الارتقاء نحو السماء، إذ تتفلت روح الإنسان لتعانق ربها متجهة صعوداً. الساحة هنا غير مستقيمة وفيها تدرجات، فوجدتها تلائم معاني العمل، المرتبط ارتباطاً مباشراً بقصيدة دانتي ذات المراحل الثلاث».
تغوص نايلا رومانوس إيليا بقصيدة دانتي، خلال تحدثها عنها إلى حد الذوبان في معانيها وتحليلها منطقياً وفلسفياً. وتشرح طبيعة المواد المستخدمة في التجهيز الفني الذي نفذته في عام 2019، ويتألف من 9 دوائر ضخمة. «خصصت لكل مرحلة من المراحل التي يتحدث عنها دانتي مادة معينة. جهنم التي تقع في أسفل العمل صنعتها من الفولاذ بلون الصدأ، يعرف بـ(كورتين). أردته كذلك للإشارة إلى الزمن الطويل الذي يمضيه الإنسان مقترفاً الخطايا فيتآكله الصدأ. أما المطهر ولأنه جبل كما يذكر دانتي صنعته من الإسمنت ووزعت هضباته تحت التجهيز الفني، تزينه شجرة من الفولاذ أيضاً. أما الجنة فلأنها تحلق في فلك السماء وبخفة وبحركة دائمة، استخدمت معدن (الـستانليس ستيل) للإشارة إليها. وللتفريق بين المراحل الثلاث اعتمدت الاختلاف في طابع كل مرحلة ممثلة بهذه الدوائر. وأحببت أن أحدد الدوائر الأخيرة التي تشير إلى الجنة بدوائر معدنية مرت عليها الفرشاة ليصبح ملمسها ناعماً. كما أنها تنتهي بدائرة كروية (sphere) لماعة تدل على عظمة الله بحيث لا يمكن لمسها».
كان الاحتفال بإزاحة الستارة عن العمل قد تأجل أكثر من مرة منذ انتهاء الفنانة من تنفيذه في عام 2019، بسبب انتشار الجائحة مرة، وانفجار بيروت مرة أخرى. «لست نادمة على التأجيل لأن العمل معاصر، وكلما تقدم الوقت، اكتشفنا مدى ارتباطه بواقعنا»، تختم نايلا رومانوس إيليا.
أقيم الحفل بالتعاون مع «المعهد الثقافي الإيطالي» في بيروت، وبحضور سفيرة إيطاليا في لبنان نيكوليتا بومباردييري، وتخلله عرض موسيقي راقص تم تصميمه بشكل خاص ليتلاءم مع فكرة العمل الفني المعروض أي «على المقلب الآخر من الزمن». وأكدت رئيسة المركز الثقافي الإيطالي مونيكا زكا، لـ«الشرق الأوسط»، أنها ستسوق للعمل عالمياً، وتدعم انتشاره عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، كي يأخذ حقه.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».