بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

اليهودي الجزائري الأصل الطامح لاقتحام الإليزيه

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب
TT

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

حتى اليوم، لم يعلن الإعلامي والكاتب إريك زيمور (زمور) ترشحه للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي من المقرر أن تجرى يومي 10 و24 أبريل (نيسان) المقبل. إلا أن الأمور محسومة لجهة خوضه الانتخابات.
الماكينة الانتخابية جاهزة ومجموعات متعددة من المناصرين تعمل لصالحه إن على صعيد شبكات التواصل الاجتماعي أو على صعيد جمع الأموال، وأخيراً، لجهة توفير التواقيع الـ500 المطلوب جمعها من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ ورؤساء البلديات وأعضاء المجالس الإقليمية أو المحلية كشرط للموافقة على ترشحه وفق ما ينص عليه القانون الانتخابي.
كل هذه الأمور «العملانية» تبدو محسومة، وبالتالي، لن تشكل عائقاً أمام زيمور، بالنظر للصعود الصاروخي الذي حققه في استطلاعات الرأي خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة.

تفيد آخر استطلاعات الرأي في فرنسا بأن المرشح اليميني المتطرف إريك زيمور بصدد تخطي مرشحة اليمين المتطرف الرسمية مارين لوبان. كذلك تشير المعطيات إلى أن الدينامية الانتخابية باتت لصالحه لا لصالح ابنة مؤسس «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة جان ماري لوبان. والأخير كان ضابطاً خدم في الجيش الفرنسي زمن حرب الاستقلال الجزائرية اتهم بممارسة التعذيب ضد ثوار «جبهة التحرير الوطنية»، ومن ثم في العديد من المرات بسبب عنصريته إزاء العرب والمسلمين والأفارقة ومعاداته للسامية.
مارين لوبان ورثت قيادة الحزب وآيديولوجيته وتطرفه عن والدها. وبسبب الظروف التي أحاطت بانتخابات العام 2018 وتحديدا فشل مرشح اليمين الكلاسيكي، رئيس الحكومة الأسبق فرنسوا فيون في التأهل للجولة الانتخابية الثانية - وهو الأمر الذي بات يحصل في فرنسا منذ بداية الجمهورية الخامسة - فإن النتيجة كانت أن الطريق فتحت بوجه مارين لوبان لتنافس إيمانويل ماكرون على مقعد الرئاسة بعد تمكنها من احتلال المرتبة الثانية في الجولة الأولى.

- المعادلة السياسية
ومن ثم، رست المعادلة السياسية الفرنسية منذ أربع سنوات وستة أشهر على الشكل التالي:
أصبح إيمانويل ماكرون رئيسا في قصر الإليزيه ويمارس الحكم مدعوما بأكثرية مريحة. ومارين لوبان في مقدمة صفوف المعارضة، وتتأهب للثأر من فشلها الرئاسي الثاني. وهي العمل على «تمدين» صورة الحزب الذي ورثته، ليس فقط على مستوى التسمية، حيث تحول اسمه إلى «التجمع الوطني»، بل أيضا عبر إبعاد والدها عنه - وخصوصاً التخلي عن مواقفه البالغة التطرف - وإحاطة نفسها بجيل جديد من الشباب.
مارين لوبان نجحت في مسعاها إلى حد بعيد. وطيلة السنوات والأشهر المنقضية، كان المشهد السياسي ثابتاً لا يتغير: ماكرون مقابل لوبان وإلى جانبهما، تواصل تفتت اليمين الكلاسيكي واليسار الاشتراكي، واضمحل الحزب الشيوعي، وبرز «الخضر» قوة سياسية تؤخذ بالحسبان لكنها عاجزة عن تسلق جبل الإليزيه، وتراجعت جداً شعبية اليسار المتشدد ممثلاً بالنائب والمرشح الرئاسي الحالي (والسابق) جان لوك ميلونشون.
صورة الوضع السياسي رست لفترة على هذه الحال. وكانت الطبقة السياسية تتساءل عما إذا كان بمقدور لوبان اختراق ما يسمى - باللغة السياسية الفرنسية - «السقف الزجاجي»، بحيث تتحول إلى أول رئيسة للجمهورية تنتمي إلى اليمين المتطرف لتسير على خطى مَن سبقها من المتطرفين اليمينيين في أوروبا.
غير أن الواثقين من رؤاهم وتحليلاتهم القطعية أخذوا يعيدون النظر في أحكامهم عندما برز إلى مقدمة المسرح اسم إريك زيمور كمرشح محتمل للرئاسة.
بداية، اعتبرت غالبية المحللين أن خوض الكاتب في صحيفة «لو فيغارو» اليمينية والمعلق السياسي الدائم على القناة اليمينية المتطرفة «سي نيوز» المنافسة الرئاسية «مزحة» لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، خصوصاً، أن استطلاعات الرأي الأولية كانت تضعه في المرتبة الخامسة أو السادسة. يضاف إلى ذلك أن الفوز برئاسة الجمهورية يفترض أن يكون الطامع بها يتمتع بدعم حزب قوي متجذر يوفر له التنظيم والمال والناخبين والدعاية الانتخابية، فضلاً عن توافر برنامج انتخابي على مستوى الجمهورية يعالج مسائل السيادة والقانون والاقتصاد والحياة الاجتماعية. وباختصار أن يكون صاحب «رؤيا» لفرنسا المستقبل.
العديد من هذه الشروط لا تتوافر لزيمور، إذ لا حزب يقف وراءه ولا يوجد برنامج انتخابي يحمله ولا مصادر مالية معروفة وواضحة موضوعة بتصرفه. ثم لا بد من التذكير أنه صدرت بحق زيمور أحكام قضائية تتهمه بتبني خطاب عنصري والترويج له (في العام 2011) وتحفيز مشاعر معاداة الإسلام (في العام 2018). وبالتالي، فإن عائقاً إضافياً مزروع على دربه. لذا، فإن السؤال الرئيسي الذي يفرض نفسه: من هو زيمور وما هو سر الاختراق الذي حققه رغم أنه لم يعلن بعد أنه مرشح للانتخابات الرئاسية؟

- زيمور: عار لليهود
ولد إريك زيمور يوم 31 أغسطس (آب) عام 1958 في ضاحية مونترويل، الواقعة على مدخل باريس الشرقي. وهو ينتمي إلى عائلة يهودية شرقية جزائرية انتقلت إلى فرنسا في العام 1952.
وتفيد مصادر عديدة بأنه ترعرع في أجواء دينية يهودية، ودأب على ارتياد الكنيس (المعبد اليهودي) حتى العام 2013 أي حتى وفاة والده روجيه الذي كان يعمل سائقا لسيارة إسعاف. وبحسب المؤرخ الفرنسي اليهودي بنجامان ستورا، فإن زيمور «يهودي عربي»، بينما يفضل هو القول إنه «يهودي قبائلي». وفي أي حال، لم يخفِ أبداً انتماءه الديني، بل يتحدث عنه بكل حرية.
تنقل زيمور في العديد من المدارس، ومع دخوله المرحلة الجامعية انتمى إلى «المعهد الفرنسي للعلوم السياسية» (سيانس بو) في باريس وتخرج فيه. إلا أنه فشل مرتين في الدخول إلى «المعهد الفرنسي للإدارة» (إينا) الذي يخرج كبار موظفي وكادرات الدولة الفرنسية.
بعدها انطلق زيمور في حياته المهنية مع الصحافة، فتنقل في العديد من دورها يميناً ويساراً، منها زال من الوجود مثل «لو كوتيديان دو باري»... ومنها لا يزال قائما كصحيفة «لوفيغارو» التي تمتلكها عائلة داسو، المساهم الأكبر في «شركة داسو للصناعات الجوية».
في العام 2011، طُلب منه التوقف عن الكتابة في هذه الصحيفة بسبب تصريحات زعم فيها أن «غالبية مهربي المخدرات هم من العرب أو الأفارقة» ما عُد قضائياً بمثابة جنحة. واللافت أنه انتمى مثلاً إلى مجلة «ماريان»، التي كانت حينذاك مصنفة في خانة اليسار. وبعد سنتين فقط انتقل منها إلى مجلة «فالور أكتويل» (القيَم المعاصرة) المصنفة في خانة اليمين المتطرف. بيد أن شهرته ذاعت حقاً من خلال مشاركاته في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وأهمها إذاعة «إر تي إل» التي كانت سابقا تصنف الأولى فرنسياً، وفي «القناة الثانية» للتلفزيون الفرنسي العام، ولكن الأهم هو الدور الذي لعبه في إطار القناة الإخبارية «سي نيوز» اليمينية التي يمتلكها رجل الأعمال فانسان بولوريه، أحد أقطاب النقل البحري في العالم، المُلاحق بتهم الفساد في أفريقيا.

- كتبه الرائجة
وبالتوازي مع النشاط الإعلامي، أصدر إريك زيمور عدة كتب سياسية عن رئيس الوزراء الأسبق إدوار بالادور وعن الرئيس الأسبق جاك شيراك. وكان له دوماً اسم وحضور في عالم الجدل السياسي. وتجدر الإشارة إلى أن كتبه تلقى رواجاً كبيراً، ومنها ثلاثة كتب بارزة جداً: الأول هو «الانتحار الفرنسي» الصادر في عام 2014. والثاني «قدر فرنسا» (2018)، والثالث كتابه الأخير «فرنسا لم تقل كلمتها النهائية بعد» الذي بيع منه خلال أربعة أيام فقط - في المكتبات وعلى منصات الإنترنت - ما لا يقل عن 100 ألف نسخة وهي أرقام لم تسجل سابقاً إلا مرة واحدة لدى صدور كتاب فاليري تريفيلر، رفيقة درب الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند تحت عنوان «شكرا لهذه اللحظات».
وكما أن زيمور بدل وغير في انتماءاته المهنية، فإنه أيضا بدل وغير انتماءاته الفكرية والسياسية متنقلا من اليسار إلى اليمين. ومن اليمين الديغولي الاجتماعي القريب من طروحات الوزير الاشتراكي السابق جان بيار شوفينمان إلى اليمين البونابرتي. وها هو الآن يرسو في ميناء اليمين المتطرف... أو بالأحرى في أقصاه متجاوزاً حتى مارين لوبان... ومتبنيا أحيانا «نظريات المؤامرة». ولعل أبرز هذه النظريات نظرية مؤامرة «الاستبدال الكبير» التي اقتبسها عن المفكر والفيلسوف الفرنسي رينو كامو، كما شرحها في كتاب شهير له يحمل العنوان نفسه والتي تعتبر أن أوروبا تخضع لغزو من نوع جديد وبوسائل جديدة. وباختصار، تقوم هذه النظرية على أن هجرات الشعوب المسلمة الآتية إلى أوروبا من بلدان المغرب وأفريقيا وغيرها هي الآن بصدد الحلول محل الشعب الفرنسي الأصيل، ليس فقط على صعيد القيم وأساليب الحياة، ولكن بشكل مادي وسكني أيضاً، الأمر الذي يظهر، وفق زيمور، في العديد من ضواحي المدن الفرنسية.
وفي لقاء سياسي للترويج لكتابه الأخير، وبحضور حوالي 4 آلاف شخص، وصف زيمور المهاجرين بأنهم «بدو جاءوا إلينا عبر المتوسط» حاملين «إسلاماً تيوقراطيا في جوهره»، أي غير قابل للاندماج في المجتمع الفرنسي. وعليه، فإن ما يدعو إليه زيمور إرغام المهاجرين وأولهم العرب على تغيير أسمائهم و«فرنستها» بحيث تكون تلك أول خطوة للاندماج في المجتمع الفرنسي.

- مشروع حرب أهلية
فريدريك سالا ــ بارو، أمين عام قصر الرئاسة الفرنسية زمن الولاية الثانية للرئيس جاك شيراك، تحدث عن إريك زيمور في مقالة طويلة له نشرتها أخيراً صحيفة «لوموند» المستقلة، وفيها اتهم زيمور بـ«الدفع نحو حرب أهلية» في فرنسا. إذ قال سالا – بارو إن المرشح المتطرف «يستخدم لغة لا ممنوعات فيها ولا حدود، جاعلاً من صورة المهاجر والمسلم سبباً للبؤس الفرنسي. وهو بذلك يذهب أبعد بكثير عما كان قد وصل إليه جان ماري لوبان في غرفه من العنصرية العادية». وتابع سالا ــ بارو أن زيمور «يغرف من الآيديولوجيا التي يحفظها عن ظهر قلب ويقدم جواباً وحيداً لكل المشاكل. إنه يستخدم المسلم والمهاجر كما حدث في الماضي مع استخدام صورة اليهودي. والجواب بسيط، إذ يكفي القضاء على مصدر الخطر».
بيد أن الكاتب (أي سالا – بارو) يرى أن الهدف الأساسي لزيمور هو «الحرب على الإسلام» الأمر الذي يعني عملياً الدفع باتجاه حرب أهلية. ولهذا فإنه يتهم وسائل الإعلام باللامسوؤلية لأنها تلهث وراء زيمور، وتوفر له الوسيلة بعد الأخرى لبث أفكاره العنصرية. ثم يتساءل الكاتب «مَن تساءل للحظة عن طبيعة شعور المسلم الفرنسي (إزاء ما يسمعه)؟ مَن توجه إليه بكلمة تعبر عن الإخاء والاحترام تجاهه؟ هل يتعين أن يكون المرء أعمى حتى لا يرى أن زيمور والإسلاميين هم حلفاء موضوعيون يسعون وراء إشعال حرب أهلية في فرنسا؟ يمكننا أن نتعامل بشدة مع المسلمين من غير أن نلزمهم على تغيير ديانتهم أو أسمائهم وهو ما يريده المحقق زيمور».
منذ أربعة أسابيع، يتنقل زيمور بين المدن الفرنسية بحجة توقيع كتابه، إلا أنه في الواقع يعقد مهرجانات انتخابية يستغلها، كما كان يستغل قناته الإخبارية المفضلة لبث أفكاره اليمينية المتطرفة... واثقا من أن كفة الميزان السياسية في فرنسا تميل إلى اليمين، وأنه يُعد «الرجل الذي يقول جهاراً ما يفكر فيه الكثيرون سراً».
أكثر من ذلك، يرى مناصروه أنه الشخص الذي أخذ الدور الذي كان يفترض بالمرشحة مارين لوبان أن تأخذه، وشيئاً فشيئاً يرسم زيمور صورة «الرجل المنقذ» - أي صورته الشخصية - وهو يرفض أي تفاوض مع لوبان التي اقترحت عليه أن يكون رئيسا للحكومة التي تنوي تشكيلها بعد الفوز برئاسة الجمهورية لأنه يعتبر نفسه «صاحب رؤية» التي تفترض أن يكون في سدة المسؤولية. وفي أي حال، فإن مركزية دعايته السياسية مَعين لا ينضب، لا بل إنه نجح حتى قبل أن يعلن ترشحه رسمياً في فرض المواضيع التي يريد أن تدور حولها الحملة الانتخابية، وهي: الإسلام، الانفصالية الإسلاموية، وقف الهجرات، وقف لم الشمل العائلي، ترحيل غير المؤهلين للبقاء على الأراضي الفرنسية، فرض الأمن والنظام، واستعادة المناطق التي خرجت من تحت عباءة القانون وفق تفسيره...
واليوم يركض اليمين المتطرف واليمين الكلاسيكي وراء زيمور. ويجد ماكرون أن عليه أن يظهر بمظهر القوة والسلطة، وأن يبرز عضلاته في التعاطي مع المسائل الحساسة كي يحافظ على مصداقيته في الوقت الذي أخذ فيه زيمور يثير الهلع يمينا ويسارا. لكن الانتخابات لن تحل إلا بعد ستة أشهر وحتى ذلك التاريخ، الكثير من الأمور يمكن أن تتغير كما حصل في انتخابات عام 2018.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.