«سريالية ما وراء الحدود»... جولة حول العالم

معرض جديد يطرح خريطة فنية لكوكب آخر

TT

«سريالية ما وراء الحدود»... جولة حول العالم

في الأحلام، باستطاعتك الذهاب لأي مكان، وفي الأحلام ليست ثمة أماكن بعيدة تستعصي على الوصول. ويحملنا معرض «سريالية ما وراء الحدود» الذي يستضيفه متحف المتروبوليتان للفنون معه في جولة حول العالم. يطرح المعرض خريطة لعالم آخر وكوكب جديد أعاد صياغته فنانون، حيث تتداعى الافتراضات الجغرافية القديمة وتفقد معناها.
في هذا المعرض، تتراجع كلاسيكيات السريالية لتترك الساحة الرئيسية لرغبات وكوابيس من هاييتي وبورتوريكو واليابان وكوريا ومصر وموزمبيق. وعبر هذه الانعكاسات المشوهة، نعاين السريالية باعتبارها توجهاً شاملاً إزاء الحرية الفنية، حيث لا تفرض أوروبا سيطرة احتكارية على رغباتك.
جرى تنظيم معرض «سريالية ما وراء الحدود»، الذي استمر الإعداد له طوال ست سنوات، على يد ستيفاني داليساندرو التي تعمل لدى «ميت آند ماثيو غالي» التابع لمتحف «تيت موديرن» في لندن. ومن المقرر أن يسافر المعرض لهذا المتحف العام المقبل. ومثلما الحال في عدد من المعارض الحديثة، مثل معرض «ما بعد الحرب» الذي استضافه متحف «هاوس دير كونست» في ميونيخ، يطرح هذا المعرض الأخير تصوراً للسريالية باعتبارها ليست حركة بالمعنى التقليدي، وإنما نزعة تجسيدية واسعة. ويوضح المعرض كيف أن أشكال وأهداف هذه النزعة تبدلت أثناء انتقالها من بلد لآخر. وعليه، فإن التناول المبسط للسريالية الذي يقسم الفنانين بين فريقين، أحدهم تأثر بها والآخر لم يتأثر، لن يجدي نفعاً، وإنما ثمة أمر وراء السريالية أعظم وأكثر فوضوية وإقناعاً - أمر يبدو أشبه بمحاولات مستمرة وغير مستقرة لرسم خرائط لصور وأفكار أثناء انتقالها من مكان لآخر عبر أرجاء العالم على نحو يجعلها أشبه برياح للعقل الباطن. ومثلما الحال مع كل ما يتعلق بالسريالية، فإنها ليست عقلانية ولا خطية تماماً، وإنما تبدو في واقع الأمر أقرب إلى شبكة متدفقة من التبادلات والترجمات والمثاليات والتصورات الخاطئة.
داخل المعرض الذي يستضيفه متحف المتروبوليتان، تلتقي فنانين من 45 دولة، وجرت استعارة أعمالهم من 95 مجموعة فنية تنتمي لبلدان مختلفة من بوغوتا إلى كانبيرا، ما يعكس مجهوداً هائلاً من جانب القائمين على المعرض، خصوصاً في فترة الجائحة. تنتمي بعض الأعمال المعروضة إلى عشرينيات القرن الماضي، بينما البعض الآخر حديث ويعود إلى التسعينيات، أي بعد فترة طويلة من انطلاق السريالية ونفضها الغبار عن وجه الفن. بصورة إجمالية، يضم المعرض أكثر عن 260 لوحة وصورة وفيلماً تعج جميعها برغبات معتملة في نفوس مبدعيها، وفي بعض الأحيان تبدي احتفاءها بالذوق الرديء. وعليه، عليك ألا تتوقع هنا معاينة بعض القطع الفنية الكبرى!
الحقيقة أن هذا معرض يبدو من المؤكد أنه لن يروق لك الكثير من معروضاته - الأمر الذي ينطبق عليّ بالتأكيد. ورغم ذلك، تخرج من المعرض يملئوك شعور بالإثارة تجاه الذكاء الكامن وراء هذا المعرض، ويغمرك شعور بالامتنان للحصول على فرصة التعرف على أعمال لفنانين كاريبيين وأفارقة وآسيويين ومن شرق أوروبا تركت أعمالهم دالي ورفاقه في الظل.
والآن، لننطلق في جولة عبر أكثر الأعمال التي يحويها معرض «سريالية ما وراء الحدود» إثارة. في الواقع السريالية أكثر من كونها مجرد حركة فنية باريسية لها أتباع أجانب، مثلما الحال مع الانطباعية أو التكعيبية. في جوهرها، تبدو السريالية أشبه بوباء يحمل لغة رفض متغيرة وذاتية الانتشار يمكن لفنانين مثل هؤلاء الذين تشارك أعمالهم في المعرض، توجيهها حسب الحاجة.

- ريتا كيرن لارسن، الدنمارك
قوة الحلم
ولدت السريالية في باريس عام 1924، مع ذلك طرحت مجموعة الفنانين السرياليين نفسها عبر مختلف أرجاء أوروبا منذ البداية، ونجحوا في تنظيم قرابة اثني عشر معرضاً بالخارج. كان أول هذه المعارض في كوبنهاغن، حيث سرعان ما استوعبت ريتا كيرن لارسن، ما وصفه أندريه بريتون في «البيان السريالي» بـ«القدرة المطلقة للحلم».
في «الأشباح» (1933 - 1934)، يحوم كيانان شبيهان بالبالون بعيون مرسومة بوخز الإبر فوق خطوط من الألوان الوردي والأرجواني والأزرق المائل للأخضر، وتبدو الحركة في اللوحة حركة عوم أو هبوط. ومن المقرر أن تستمر أعمال كيرن لارسن مع السرياليين في لندن وباريس، وتعد واحدة من النساء القلائل المشاركات في مثل هذه المعارض الرسمية. كما أنها ستصبح أول فنانة سريالية تشق طريقها نحو قائمة متحف «بيغي غوغنهايم».

- كوغاه هارو، اليابان
السريالية العلمية
حتى قبل انطلاق المعرض الدولي الأول، كان الفنانون في الخارج يهاجمون قادة الحركة الباريسيين. على سبيل المثال، قال أحد الشعراء اليابانيين عام 1930: «لا يمكن للسريالية الحقيقية أن تتبع سلطة أندريه بريتون». وقاد كوغا هارو اتجاهاً سريالياً في طوكيو أعطى الآلات والصناعة الأهمية نفسها التي يتمتع بها العقل الباطن البشري. وأثارت لوحة «البحر»، أهم لوحات هارو، عاصفة نارية في عالم الفن بطوكيو عندما جرى عرضها للمرة الأولى عام 1929.
وتظهر في اللوحة غواصة في المقطع العرضي تطفو عند أقدام سباحة عملاقة، بينما ينزلق منطاد (أو قنابل غاطسة؟) نحو نصف مصنع مغمور في المياه.

- لاديسلاف زيفر، تشيكوسلوفاكيا
أحذية في الانتظار
الملاحظ أن أكثر الأعمال الفنية المعبرة بحق عن السريالية هي أشياء - ربما أكثر عن الرسم - مثل قطع صغيرة مثيرة للفضول، عادة ما تصنع من مواد وبأحجام تناسب الإمساك بها في اليد، وكثيراً ما تصطدم بالذوق اليومي المقبول. ويحوي المعرض الذي يستضيفه متحف الميتروبوليتان 12 قطعة من مثل هذه الأشياء، بما في ذلك «قلب متنكر» للاديسلاف زيفر الذي اكتسب شهرة واسعة في صفوف المجموعة السريالية في براغ. واللافت أن قلب «قلب متنكر» في حقيقته زوج من الأحذية ذات الكعب العالي محصور داخل شباك لصيد السمك ومثبت على قضبان معدنية.

- بول باون، رومانيا
حرية الرسم
يتمثل أسلوب سريالي كلاسيكي آخر: الأتمتة، أو العبث غير المصمم، الذي يعتقد الفنانون من خلاله أنهم يستطيعون الهروب من قيود التكوين الواعي للكشف عن حقيقة تتجاوز العقلانية. إلى جانب أعمال ميرو وماسون، يعرض هذا العرض أعمالاً فنية تلقائية من المجر وبيرو واليابان ونيوزيلندا - وهذا الرسم من بوخارست في زمن الحرب، حيث انضم الفنان بول باون إلى دائرة سريالية محلية اضطر أفرادها إلى عرض أعمالهم سراً. (كان باون والعديد من السرياليين الرومانيين الآخرين من اليهود، وقد نشروا أعمالهم بالفرنسية). في رسمه بالحبر عام 1943 بعنوان «السحابة»، تبدو شخصية بشرية منحنية تنبت من الذراع، وسط تشابكات جذرية تبدو وكأنها شبكة من الحبال.

- مايو، مصر
شكل جديد
والآن، أين كان التأثير الأكبر للسريالية خارج أوروبا خلال الثلاثينيات؟ في القاهرة، حيث تحالفت مجموعة «الفن والحرية» مع فنانين من الخارج لإدانة الاستعمار البريطاني والتحريض على ثورة يسارية. عام 1937، أكمل الفنان مايو، المولود لأسرة يونانية تعيش بمصر، عمله «ضربات الهراوة» الذي يصور أحداث معركة عام 1937 - ذات العام الذي ظهرت فيه لوحة «غيرنيكا». في اللوحة، يتشابك المحتجون ويتعثرون في مواجهة ممثلي سلطات الدولة الذين يحملون هراوات مشوهة وملتوية. هنا، لم يكن كافياً النظر إلى الداخل، وإنما جرى استخدام السريالية كلغة للتعبير العلني.

- إيمي سيزير ومارتينيك ويفريدو لام، كوبا
أداة التحرير
كانت السريالية حركة مناهضة للاستعمار بشدة - وبعد فترة طويلة من تعثرها في فرنسا، تحديداً المناطق الحضرية، حققت لغاتها المعارضة أعلى تعبير لها في منطقة البحر الكاريبي. «أنا ألعقك بألسنتي الشبيهة بالأعشاب البحرية/ وأبحر بك بعيداً عن القرصنة» - هكذا أعلن الراوي في كتاب إيمي سيزير الكلاسيكي «مفكرة العودة إلى الأرض الأصلية»، حيث دمجت صور شعرية سريالية بأشكال المحيط الأطلسي الأسود في إطار حركة أدبية أطلق عليها «الزنوجة».
جدير بالذكر أن بريتون تولى كتابة مقدمة الطبعة الفرنسية، لكن النسخة المعروضة هنا بالإسبانية، مع رسوم توضيحية أبدعها الرسام الكوبي ويفريدوم لام، وتظهر بها وحوش متعددة الرؤوس تبدو جميلة ومخيفة في الوقت ذاته، بينما لا تهاب هي شيئاً.

- خدمة «نيويورك تايمز»



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».