على واحدة من تلال منطقة البترون، وبالتحديد في بلدة بزبينا الشمالية، أطلق أناشار بصبوص معرضه للمنحوتات بعنوان «بين الظل والنور». وشكلت كروم العنب في مسرح الحدث «إكسير» ديكورات تلقائية لمنحوتاته الثمانية. مغمورة بنور القمر، وإضاءة صممتها شركة «آرت أن موشين» موزعة بتناسق هنا وهناك، بدت منحوتات أناشار (ابن النحات الراحل ميشيل بصبوص) كأنها تترجم علاقة وطيدة بين الفن والطبيعة.
مجموعة من أهل الصحافة والإعلام لبت دعوة شركة «إم إتش دي» المنظمة للحدث، لصاحبتها هنادي داغر، التي أخذت على عاتقها إيصالهم إلى مكان حفل الافتتاح بواسطة باص.
فقدمت لهم رحلة فنية وسياحية في آن، ومعها استكشفوا كروم «إكسير» في بلدة بزبينا الشمالية، وتعرفوا إلى أناشار بصبوص من قرب.
ما إن تصل إلى المكان حتى تلفتك قطعتان فنيتان من الحديد البرونزي تتوسطا كروم «إكسير»، فيشعر ناظرهما كأنهما ولدتا للتو من قلب طبيعة خلابة، ووقفتا بين عرائش العنب التي أسقط الخريف أوراقها شامختين بأحجام ضخمة. وفي إحدى زوايا الباحة الخارجية للمكان، انتصبت منحوتة ثالثة تبرز فلسفة أناشار التفاؤلية.
ويتجلى فيها فن النحت الحديث، وقد زودتها الإضاءة المباشرة المسلطة عليها من ناحية، وظلال الأشجار المتحركة بفعل النسيم العليل من ناحية ثانية، بمشهدية تفاؤلية، لا سيما أنه يطغي عليها الأبيض.
أما في الطابق الأرضي، وضمن صالة داخلية تم بناؤها على طريقة الأقبية القروية القديمة، توزعت 4 منحوتات تكتشف وأنت تتجول بينها التقنية التي استخدمها النحات اللبناني لترجمة معانٍ تسكن «بين الظل والنور».
وبينما تدور حول إحداها التي تتصدر المكان، وهي كناية عن طبقات متراكمة من الحديد يتسرب منها النور، يطل عليك ظلك المنعكس على الحائط، فتقف تتأمل لوحة فنية شاركت أنت في تنفيذها ثلاثية الأبعاد تجمع بين النور والظل والمنحوتة.
ويشير النحات اللبناني لـ«الشرق الأوسط» إلى أن استخدامه لمادة الحديد في منحوتاته لم يأتِ من عبث «بل لأنها مـــــــــادة تعيش وتختبر الحياة على طريقتهــــــــا، فالصدأ والجنزار اللذان يغطيانها مع الوقت يشبهان إلى حد كبير أثار التجاعيد التي يحملها شخص متقدم في السن»، ويتابع: «أحب أن أظهر هذا الصدأ، وأرفض تخبئته بمادة تلمعه.
أنا شخصياً أرفض مبدأ القيام بعمليات تجميل لمحوها، فهي ترمز إلى سنوات من الحياة تزود صاحبها بالنضوج، فلماذا علينا إخفاؤها؟ وهكذا، عمرت منحوتاتي بإزميل يحفر الحياة من دون أي تجميل أو رتوش».
وكان من المقرر إقامة هذا المعرض قبل فترة، ولكن أوضاع البلاد غير المستقرة، والحجر المنزلي، أخرت الأمر. وعن ذلك، يقول: «اليوم أشعر كأن المعرض ولد في الوقت المناسب في موسم الخريف الذي تتبدل فيه أوراق الأشجار من الأخضر إلى الترابي. ومع منحوتاتي الترابية اللون بغالبيتها، ولدت علاقة متناغمة مع الطبيعة التي شكلت عنصر ديكور بحد ذاتها».
وبين مجموعة من الصحافيين، وقف أناشار بصبوص يشرح سبب إقامته هذا المعرض، على الرغم من أزمات متراكمة تشهدها البلاد: «كل هذا الجو الضاغط لم يمنعنا من السير بثبات في مشروعنا.
فارتأيت مع فريق (آرت أن موشين) إبراز حبنا للبنان والحياة معاً على طريقتنا؛ المعرض هو نوع من المقاومة، فكل منا يقاوم حباً بالعيش على طريقته، وأنا اخترت إزميلي للإشارة إلى ذلك.
نحن اللبنانيين لم يبقَ لنا سوى الثقافة والفن سلاحين أساسيين فعالين لنقاوم العتمة التي يحاصروننا بها».
وتعلق رانيا طبارة، من «آرت أن موشين»، لـ«الشرق الأوسط»: «لولا إرادة أناشار، وتشجيع كبير لاقيناه من «إكسير»، لما استطعنا أن نقوم بهذا المعرض. فالفن هو وسيلتنا الوحيدة لإخراج الطاقة الإيجابية عندنا، وإيصالها للآخرين من دون حدود».
ويشعر زائر المعرض بأنه يصغي إلى حوارات صامتة صادرة عن المنحوتات الثمانية. فلعبة النور والظل التي تطغي عليه تولد هذه المشاعر المستترة.
«إنها كالموسيقى»، يقول أناشار الذي يضيف: «أحياناً كثيرة، تستمع إلى موسيقى لا تفهمها، ولكن الأهم هو أنك تحس بها فتعشقها عفوياً؛ الأمر ينطبق على المنحوتة لأنها تحمل موسيقى من نوع آخر، تجذب ناظرها وتدفعه إلى التسمر أمامها ليفهم حديثها معه».
وتستقبلك على المدخل الرئيسي لـ«إكسير» منحوتة أخرى تميل إلى الفن التجريدي، تتعانق أجزاؤها بشكل دائري، فتبدو أذرعها متشابكة ملتفة بعضها على بعض في رقصة تنبض بالحياة. أما الفراغات المتروكة بينها كي يتسلل منها النور، فتؤلف مسارات هواء متحركة تزود المنحوتة الحديدية بالأكسجين كي تتنفس بعيداً عن طينة الجماد المصنوعة منها.
كسر الفنان اللبناني ثقل العتمة بالنور الذي يتسلل من قطعه الفنية، وهو يترجم التفاؤل الذي يسكنه، إذ يقول لـ«الشرق الأوسط»: «أنا متفائل بطبعي، لا أتوقف عند أمر سلبي، بل أتجاوزه بإقدام».
هل تعني أنك متفائل بمستقبل لبنان؟ يرد: «عادة، لا أدخل في الموضوعات السياسية، ولكني عشت لبنان الحرب والأزمات والتفجيرات. لم أيأس أبداً لأن لبنان اعتاد أن يتجاوز معاناته ويقوم من جديد، وتاريخنا خير دليل على ذلك، فليس هناك من سبب يمنع النور من التغلب على الظلمة في لبنان، وهو أمر يتكرر باستمرار لأن لبنان يرفض الموت».
بدا أناشار سعيداً جداً بزوار المعرض الذين جاءوا بالعشرات يستكشفون فنه، على الرغم من المسافة الطويلة التي تفصل المكان عن العاصمة: «كل ذلك يدل على مدى تعلق اللبناني بحب الحياة، وتقديره للفن. لقد ولد هذا المعرض بعد 4 سنوات من العمل والجهد، وشاء القدر أن يرى النور اليوم كي يشع ثقافة على بلد متعب، ولكنه غني بقدراته الإبداعية».
أناشار بصبوص يحفر بإزميله لبنان «بين الظل والنور»
اختار كروم العنب في تلال منطقة البترون لعرض منحوتاته
أناشار بصبوص يحفر بإزميله لبنان «بين الظل والنور»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة