إيطاليا ولبنان يتبادلان الخبرات في التنقيب معاً عن الآثار

في التفاتة نحو الماضي من أجل مستقبل زاهر

إيطاليا ولبنان يتبادلان الخبرات في التنقيب معاً عن الآثار
TT

إيطاليا ولبنان يتبادلان الخبرات في التنقيب معاً عن الآثار

إيطاليا ولبنان يتبادلان الخبرات في التنقيب معاً عن الآثار

تعدّ المعالم الأثرية الهوية الحقيقية للبلاد التي تحتضنها لأنها بمثابة صورة عن ماضي الأرض وتاريخها. ويمتاز لبنان بمواقع أثرية مميزة تغطي مجمل مناطقه وتكشف عن آلاف السنين من تاريخه. وتتمثل هذه الآثار بمعابد وقلاع ومدن وغيرها، تعود إلى العصر الحجري القديم والفترات الفينيقية، وكذلك إلى الحقب الرومانية والعربية الإسلامية والمسيحية والعثمانية وغيرها.
وانطلاقاً من أهمية هذه المواقع يشهد لبنان تعاوناً ملحوظاً في عملية التنقيب عن الآثار مع إيطاليا. وبهدف إلقاء الضوء على الدور الذي تلعبه في هذا المجال، أقيمت ورشة عمل في حرم «الجامعة اللبنانية» في بلدة الحدث بتعاون بينها وبين السفارة الإيطالية. والهدف هو تعزيز التعاون القائم بين البلدين وإجراء جردة سريعة على الإنجازات التي حققتها حتى اليوم. كما تم خلالها تناول الأثر الإيجابي الفعلي للبعثات الأثرية الإيطالية واللبنانية، على صعيدي التنمية الاقتصادية والحياة الاجتماعية.
افتتح الورشة وزير الثقافة في لبنان محمد وسام مرتضى، وذلك بحضور السفيرة الإيطالية في لبنان نيكوليتا بومباردييري، وممثل رئيس الجامعة اللبنانية عميد كلية الآداب أحمد رباح، والمدير العام للآثار سركيس الخوري. وألقى وزير الثقافة كلمة أشار فيها إلى أن وزارته تتطلع باهتمام لما تنجزه هذه البعثات. ومما جاء في كلمته: «هذا التعاون وتبادل الخبرات، يشكل إسهاماً رائعاً في استكشاف المخزون الأثري المدفون تحت التراب اللبناني، منذ أقدم العصور وتتالي الحضارات». وكانت للسفيرة الإيطالية كلمة موجزة شكرت فيها الشراكة التي نشأت بين الخبراء اللبنانيين والإيطاليين، لتناغم الهدف، حتى تحولت إلى صداقة تفتخر بها إيطاليا».
وجرى خلال الورشة عرض النشاطات التي تقوم بها بعثات مشتركة بين لبنان وإيطاليا. فهي تغطي مناطق لبنانية مختلفة بينها مشاريع الخرايب الأثرية في الجنوب وقلعة الحصن في معاصر الشوف. كما جرى عرض خرائط وبيانات وصور تحدد عمليات التنقيب التي تجري في بلدة أميون الشمالية، ومناطق شواكير ورأس العين وتل مشوك في منطقة صور ومشروع «أم العمد» في منطقة الناقورة.
وتشير السفيرة الإيطالية نيكوليتا بومباردييري في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هدف هذه الورشة هو مشاركة الشريحة الأكبر من الناس، وتعريفها على هذه التجربة المتبادلة بين البعثات الأثرية اللبنانية والإيطالية. وتتابع: «لقد قمنا بالتحقيقات معاً حول تاريخ لبنان وماضيه، وبنينا تجربة مهمة من الناحيتين العلمية والاجتماعية. فهذه المشاركة بيننا ستثبت القيمة الكبيرة لهذه الأرض. كما أن هذه البعثات تلعب أدواراً مختلفة تنعكس إيجاباً على لبنان من النواحي الاقتصادية والسياحية والاجتماعية». وختمت: «أعتقد أنه من دون الحفاظ على الماضي لن يكون من السهل علينا استيعاب المستقبل وفهمه. كما أن هذا يسمح لنا بالتعرف إلى نقاط التشابه بين القيم التي تسود مختلف البلدان».
يعود تاريخ التعاون في التنقيب عن الآثار بين البعثتين اللبنانية والإيطالية إلى سنين طويلة. ولكنه سلك مؤخراً منذ عام 2017 تطوراً ملحوظاً. فنتج عنه إنجازات عدة ولو أن بعضها تأخر تنفيذه بسبب انتشار الجائحة، وجرى الإشراف عليه عن بعد. ويرأس البعثات الأثرية خبراء محليون من المديرية العامة للآثار في لبنان والجامعة اللبنانية. وتتألف كذلك من إيطاليين من المجلس الوطني للبحوث في إيطاليا (سي إن آر) وجامعات «سور أورسولا بنينكاسا» في نابولي و«أوديني» و«لاسبيانزا» و«ساساري» في روما.
ويرى أحد المسؤولين عن البعثة المحلية والأستاذ في الجامعة اللبنانية وسام خليل، أن أهمية هذا التعاون بين البلدين تُترجم على الأرض في عدة مشاريع أثرية. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «قد يبدو للوهلة الأولى تعاوناً صغيراً، ولكن فيما بعد نلحظ نتائجه ثقافياً ومناطقياً. فهو يحمل أهمية في مجالات السياحة وتفعيل بعض الأنشطة القديمة إضافةً إلى إتاحته فرص عمل كبيرة للبنانيين». ويصف خليل التعاون الحالي بين 5 بعثات أثرية إيطالية وخبراء لبنانيين يعملون في نفس الوقت، بأن له أثره الكبير على لبنان.
وكجامعة لبنانية فهي تستفيد من هذا التعاون بحيث تؤمّن التدريب لطلابها في علم الآثار. وتسهم كذلك في استحداث علاقات وطيدة مع جامعات خارجية لإكمال دراساتهم العليا. ويعلق خليل: «فعلياً على الأرض، هذه التجربة هي بمثابة خلية نحل تعمل بجهد، ولها انعكاساتها الإيجابية الكبيرة على جميع المناطق اللبنانية».
يستفيد لبنان من الخبرات التي يتمتع بها أعضاء البعثات الإيطالية من خلال اختصاصات معينة. وهناك طلاب لبنانيون يتدربون على أيديهم، وفي المقابل يجد أيضاً الخبراء الإيطاليون استفادة مباشرة من العمل في التنقيب الأثري في لبنان.
من ناحيتها ترى إيدا أوجيانو التي تقيم في لبنان منذ نحو 18 عاماً وتعمل في البعثات الأثرية الإيطالية، أن الحقبة الفينيقية تهمها كثيراً، وأنها منكبّة على اكتشافها بحماس. وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «لقد درست عن هذه الحقبة في إيطاليا، وبعد عملي في سوريا قررت المجيء إلى لبنان، لأن أصل الفينيقيين من هنا».
وعمّا لفتها في الإنسان الفينيقي تقول في سياق حديثها: «إنه شعب لا يمكن تحديد مواصفته باختصار، لأنه متجدد بشكل دائم، ويتفاعل دائماً مع الشعوب الأخرى. وهذا الأمر تمكننا ملاحظته عند الشعب اللبناني اليوم، فهو منفتح وصاحب مبادرات. أنا أحب لبنان وأهله ولذلك أقيم فيه منذ عام 2003».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».