العلاقة بين مناورات إيران ومفاوضات «النووي»

جانب من المناورات العسكرية الإيرانية قرب الحدود مع أذربيجان (إ.ب.أ)
جانب من المناورات العسكرية الإيرانية قرب الحدود مع أذربيجان (إ.ب.أ)
TT

العلاقة بين مناورات إيران ومفاوضات «النووي»

جانب من المناورات العسكرية الإيرانية قرب الحدود مع أذربيجان (إ.ب.أ)
جانب من المناورات العسكرية الإيرانية قرب الحدود مع أذربيجان (إ.ب.أ)

تشير التدريبات العسكرية الإيرانية بالقرب من المناطق الحدودية مع أذربيجان - وهي بعض من أكبر تحركاتها العسكرية منذ أواخر الثمانينات - إلى تنامي قلق طهران إزاء التطورات الأوسع نطاقاً في المنطقة. وفي واقع الأمر، تعكس المناورات شعور طهران المزداد بعدم الأمان، أكثر من كونها استعراضاً للقوة والترهيب.
ورغم أن طهران تشعر بحالة من التمكين، لا سيما في الوقت الحاضر، نظراً لما يلي: نجاح إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وقيام الحرس الثوري الإيراني بتعزيز سلطاته على مؤسسات الدولة، واستمرار إيران في استعراض قوتها في العراق وسوريا ولبنان وغيرها، وقدرتها على الصمود في وجه عاصفة حملة «الضغط الأقصى» التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق ترمب، ومن ثم اللعب بقوة مع إدارة بايدن على «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فإنها لا تزال تحتفظ ببعض أوجه الضعف الأساسية.
ويبدو للوهلة الأولى أن القضيتين الرئيسيتين غير متصلتين، والمتمثلتين في عودة إيران إلى الامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة - التي تبدو كأنها خيار بعيد المنال - والتطورات في منطقة القوقاز، لا سيما في أعقاب الصراع بين أذربيجان وأرمينيا في ناغورنو قرة باغ، الذي عزز العلاقات بين تركيا وأذربيجان وباكستان، غير أن المسائل مترابطة ترابطاً معقداً، وتجعل إسرائيل من نفسها القاسم المشترك.
وليس سراً أن إسرائيل عارضت أولاً خطة العمل الشاملة المشتركة في 2015، ولكنها قبلت الاتفاق على مضض. وعلى الرغم من أن إسرائيل اعتبرت دائماً أن شروطها، لا سيما ما يُعرف ببنود الانقضاء، غير كافية على الإطلاق، فإنها دعمت الجهود الأميركية الرامية إلى إعاقة قدرة طهران على تطوير القدرات النووية إلى حد «الانهيار» والتسليح.
ومع ذلك، ونظراً إلى أن الرئيس الأميركي السابق ترمب قد انسحب من خطة العمل الشاملة المشتركة في 2018، وأن محاولة إدارة بايدن العودة إلى الاتفاق وجعل طهران تمتثل له أمر بعيد المنال، فإن إسرائيل تولت زمام الأمور بأيديها. وحتى الآن، نفذت سلسلة من العمليات السرية ضد البرنامج النووي الإيراني، اشتملت على اغتيالات ضد العلماء النوويين الإيرانيين، وتدمير منشآت أجهزة الطرد المركزي، والهجمات السيبرانية المتطورة.
وقد تبدد التفاؤل بعودة الولايات المتحدة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة بعد تولي بايدن السلطة بفترة قصيرة. علاوة على ذلك، منذ أن أصبح رئيسي رئيساً لإيران، أوضح لمجموعة «5 + 1» أن إيران ليست في عجلة من أمرها للعودة إلى الامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة. وقد رفع في الواقع من «مطالب» إيران للقيام بذلك، بما في ذلك فك تجميد أصول بقيمة 10 مليارات دولار. وعلى هذا النحو، تسعى دول مجموعة «5 + 1» إلى الوصول إلى خطة بديلة، إذا انهارت خطة العمل الشاملة المشتركة. وتحقيقاً لهذه الغاية، بدأت إسرائيل بالفعل في وضع خطتها البديلة التي تتضمن تحويل التهديد بعيداً عن الشرق الأوسط فقط وأكثر باتجاه القوقاز. وقد أثارت هذه الخطوة قلق طهران البالغ وأشعرتها بجدية التهديدات الناشئة عنها.
وبالتالي، يمكن أن تُعزى زيادة حدة التوترات بين طهران وباكو جزئياً إلى شكوك إيران في أن أذربيجان قد طورت علاقات عسكرية قوية مع إسرائيل، وسوف تسمح لجيش الدفاع الإسرائيلي بمباشرة المهام الاستطلاعية والتخريبية في إيران. والواقع أن مسؤولين عسكريين إيرانيين زعموا على التلفزيون الوطني الإيراني أنه تم اعتراض طائرات مسيرة إسرائيلية في طريقها من أذربيجان إلى منشآت إيرانية في «نطنز». ومن المرجح لهذا الجانب من حرب إسرائيل السرية ضد إيران أن يتصاعد مع استمرار جمود محادثات فيينا، الأمر الذي ينطوي على مخاطر جسيمة بالنسبة لإيران، خصوصاً أن إسرائيل تبدأ بتطبيع العلاقات مع دول الخليج العربي. وبعبارة أخرى، فإن أحد الجوانب السلبية الرئيسية لفشل خطة العمل الشاملة المشتركة هو أن إسرائيل لن تتمتع فقط بقدر أكبر من الحرية العملانية لمباشرة العمل بشكل حاسم ضد إيران، وإنما سوف تعمل أيضاً على تطوير وتعميق شراكات جديدة للحد من برنامج طهران النووي وأنشطتها الإقليمية. لذا، فإن التدريب العسكري الإيراني المسمى «المنتصرون في خيبر» يهدف كذلك إلى تحذير جيران إيران من التطبيع مع إسرائيل. ويستهدف بشكل أساسي دول التعاون الخليجي، لا سيما الإمارات العربية المتحدة والبحرين، إذا تخيرا تعزيز التعاون العسكري مع جيش الدفاع الإسرائيلي.
كما أن المناورات العسكرية الإيرانية على حدودها الشمالية هي بمثابة رد على ازدهار العلاقات بين أذربيجان وتركيا وباكستان. وقد اشتدت حدة المنافسة بين إيران وتركيا في السنوات القليلة الماضية، وهي تتصاعد بالفعل عبر مسارح مختلفة، مثل سوريا والعراق والقوقاز، حيث تدعم الأولى أرمينيا، والثانية أذربيجان. فضلاً عن ذلك، فإن العلاقات الإيرانية - الباكستانية ستخضع الآن لضغوط متزايدة في أعقاب استيلاء حركة «طالبان» على أفغانستان. وعلى الرغم من مبادرات طهران إزاء «طالبان»، فإن النظام الإيراني يدرك تماماً أن باكستان هي الآن الطرف الخارجي الأكثر تأثيراً في أفغانستان. وذكّرت تدريبات «الإخوة الثلاثة» العسكرية بين تركيا وأذربيجان وباكستان الحكومة في طهران بأنها محاطة بتحالف الهلال، الذي يشكل تهديداً لمصالحها الأمنية في الداخل والخارج على حد سواء. وأصبحت هذه النقطة أكثر بروزاً عندما أعلنت تركيا وأذربيجان عن مجموعة أخرى من التدريبات العسكرية تحت عنوان «الإخوة الدائمون» في «نخشيفان» أوائل أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
وعلى الرغم من أن الصقور يحاولون إحكام قبضتهم على السلطة في إيران ويترأسون عقداً من الزمان حققوا فيه كثيراً من «النجاحات» في الخارج، فإن إيران ربما تجد نفسها ليس في أفضل حالاتها. كان انتخاب رئيسي بمثابة لحظة تتويج، أو باللهجة العامية «إحرازاً للهدف». ولكن كما يعلم أي مشجع لكرة القدم، فإن فريقك هو الأكثر عرضة للخطر في اللحظة التي تلي تسجيل الأهداف.
- زميل مشارك في «تشاتام هاوس» بلندن، والمدير التنفيذي لشركة أزور للاستشارات الاستراتيجية -
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.