برنامج «كان» سري حتى 17 أبريل

أفلام من الشرق والغرب وما بينهما تتنافس على دخول المسابقة

من الفيلم الفلسطيني «مرمى الهدف»
من الفيلم الفلسطيني «مرمى الهدف»
TT

برنامج «كان» سري حتى 17 أبريل

من الفيلم الفلسطيني «مرمى الهدف»
من الفيلم الفلسطيني «مرمى الهدف»

لا توجد «بلورة سحرية» لدى أحد ولا المهرجان كشف أوراقه السريّـة قبل الأوان. لكن هذا لا يمنع أن يبدأ المرء البحث عن تلك الإنتاجات الكبيرة الجديدة التي من المحتمل جدّا أن يحسب مهرجان «كان» السينمائي (ينطلق في 13 من الشهر المقبل) حسابها ويبرمجها للعرض رسميا داخل المسابقة أو خارجها.
بالتالي، هي ليست عملية تخمين وضرب ودع، بل مهمّـة غير مستحيلة إذا ما نظر المرء حوله متابعا ما أمضى المخرجون المعروفون الأشهر الماضية فيه، وفي أي مرحلة أصبحت أعمالهم الأخيرة. هل باتت جاهزة؟ هل أرسلوها إلى المهرجان الفرنسي مباشرة أو عبر شركات إنتاجاتهم؟ وما هي احتمالات دخولها المسابقة الرسمية أو ربما البقاء في أحد البرامج الموازية؟
يساعد على ذلك أن نقطة الانطلاق تبدأ من متابعة أولئك المخرجين الذين باتوا، منذ سنوات، زبائن «كان» الدائمين. ليسوا كلهم زبائن مخلصين (اختار ترنس مالك مثلا التوجه هذه السنة بفيلمه البديع «فارس الكؤوس» إلى برلين)، لكن معظمهم يعود كلما أنجز فيلما جديدا كحال عبد اللطيف كشيش وجان - بول رابينيو وترنس ديفيز وغس فان سانت وآخرين كثيرين.
الإعلان الرسمي لأفلام الدورة الثامنة والستين سيتم في 16 من أبريل (نيسان) المقبل.

همهمات عربية
ذكر اسم المخرج التونسي الأصل عبد اللطيف كشيش هنا ليس مثالا فقط. لقد انتهى من تصوير فيلم جديد هو الأول له منذ أن حقق السعفة الذهبية قبل عامين عندما قدّم فيلمه الساخن «اللون الأزرق أكثر دفئا». فيلمه الجديد عنوانه «الجرح» وصوّره في تونس من إنتاج فرنسي. وحسب الأنباء المتسرّبة عنه يتطرّق فيه المخرج إلى سنوات النضج الأولى في حياة بعض أبطاله، لا نقصد جيرار ديبارديو الذي يشترك في البطولة فقد اجتاز سن الرشد قبل عقود، لكن المخرج الذي أثار الكثير من اللغط حين عرض فيلمه السابق، كونه صوّر مشاهد مثلية بين بطلتيه بكثير من التفاصيل غير الضرورية، سيمحور عمله الجديد على بطلة واحدة، كما يقول مصدر من شركة «أورانج استوديو» في باريس.
هناك، قبل استكمال الاحتمالات المطروحة، أفلام قليلة مؤكدة تنتمي إلى العروض الخاصّـة التي يقدم عليها المهرجان لتعزيز لعبة الحل الوسط بين الجماهيري والفني؛ إذ كان المهرجان أعلن رسميا عن عزمه عرض «ماد ماكس: طريق الغضب» Mad Max‪:‬ Fury Road وهو الجزء الجديد (الرابع تحديدا) من سلسلة «ماد ماكس» التي أطلقها المخرج الأسترالي جورج ميلر في عام 1979 ثم توقّـف عنها سنة 1985 بعدما عُـرض «ماد ماكس: وراء ثندردوم» Mad Max Beyond Thunderdome بنجاح محدود.
«ماد ماكس» الجديد سيعرض خارج المسابقة في اليوم الأسبق لافتتاحه العالمي في كل من باريس وموسكو ومكسيكو سيتي وأثينا وبغداد أيضا، حسب تقرير، وفي الولايات المتحدة ودول أخرى في اليوم التالي لعرضه في «كان». وشركة وورنر سعيدة بذلك كونها تسعى من جانبها إلى بث حياة متعددة الشرائح لهذا الفيلم بحيث يمكن اعتماده بداية لسلسلة جديدة قد تمتد للسنوات الخمس المقبلة على الأقل.
هناك فيلم آخر مؤكد سيعرضه «كان» هذه الدورة هو «إنغريد برغمن - بكلماتها»، فيلم تسجيلي عن حياتها (1915-1982) وأعمالها (أولها دور عابر في Landskamp سنة 1932 وآخرها «سوناتا الخريف» Autumn Sonata لإنغمار برغمن سنة 1978). وكان المهرجان الفرنسي العتيد اختار الممثلة لملصقه لهذه الدورة ما أكّـد أنه سيقرن هذا الاختيار بعرض هذا الفيلم الذي قام بإخراجه السويدي ستيغ بيوركمان.

أي شيء لكاترين
ما يتردد بعد ذلك هو مجرد توقعات واحتمالات قويّـة هنا وعادية هناك. مجلة «سكرين إنترناشيونال» كشفت عن أن المهرجان ألغى عددا (ربما محدودا) من الأفلام التي كان تقرر قبولها داخل المسابقة كون البعض (ربما من بيوت صانعيها) سرّب أنباء عن أنها ستعرض في المسابقة أو خارجها. هذا طبعا احتمال قوي لأن المهرجان يصر على أن لا تتسرّب أي معلومات حول اختياراته قبل أن يعلنها بنفسه.
وفي الغربلة ما قبل الأخيرة تبدو احتمالات استقبال الفيلم الجديد للمخرج الفرنسي جان - بول رابينيو، وعنوانه «عائلات جميلة» (وسيحمل بالإنجليزية اسم «عائلات» فقط) الذي يقود بطولته ماثيو أمارليك. هناك من لا يستطيع تحمّـل أداء الممثل غير التلقائي، لكن هناك أكثر منهم من لا يزال يسأل نفسه عما إذا كانت أعمال رابينيو تستحق مستوى المهرجانات أساسا.
رابينيو سيجد نفسه، إذا ما دخل فيلمه العاطفي سباق السعفة الذهبية، مواجها - على الأغلب - لفيلم عاطفي آخر عنوانه، ببساطة «حب»، وهو سبق أن قدّم فيلمه السابق «صيف حار حارق» في مسابقة مهرجان فينيسيا سنة 2011 حيث استقبل بفتور.
وحكاية عاطفية أخرى نجدها في «سنواتي الذهبية» لأرنو دسبلاشين، ومع من؟ مع ماثيو أمارليك أيضا. وأحد الأفلام الفرنسية الساعية هو دراما اجتماعية للمخرجة إيمانويل بركو بعنوان «الوقوف بفخر». مهرجان كان، بقيادة تييري فريمو لم يعتد رفض فيلم من بطولة كاثرين دينوف، لكن إن فعل فلديه اختيارات نسائية أخرى.
هناك فيلم تشويقي من المخرجة أليس وينوكور عنوانه «مارلاند» الذي ربما حمل حتى وقت قريب اسم «حماية عن قرب» ودار حول رجل أمن فرنسي عليه حماية عائلة رجل أعمال لبناني انصرف إلى رحلة عمل وترك زوجته وطفله في عهدته. هل نشم رائحة فيلم «الحارس الشخصي» The Bodyguard الذي أخرجه الأميركي ميك جاكسون من بطولة كفن كوستنر و(الراحلة) وتني هيوستون سنة 1992؟ ربما.
حكايات لبنانية
على ذكر لبنان هناك احتمال كبير في ضم فيلم المخرجة اللبنانية دانيال عربيد «الخوف من لا شيء»، وهو يدور حول امرأة عربية (منال عيسى) تصل إلى باريس لأول مرّة محمّـلة بالظنون والهواجس وكيف أنها وجدت نفسها قادرة على التعايش مع محيطها الجديد رغم العوائق والظروف الصعبة.
والعالم العربي قد يتم تمثيله هذه المرة أكثر من سواه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار فيلمين أو 3 اتجهت إلى هناك ويتحدّث الوسط الفرنسي عن أن بعضها بات مؤكدا.
من فلسطين هناك فيلم من إخراج الجديدين محمد أبو ناصر وطارزان ناصر عنوانه «مرمى التدريب» (The Range) وتقع أحداثه في غزة حول مجموعة من النساء حوصرن في صالون للسيدات عندما بدأت الجولة الأخيرة من القتال بين القطاع وإسرائيل. الفيلم من بطولة عدة شخصيات أشهرها هيام عبّـاس التي تعيش في باريس منذ سنوات طويلة.
المغربي نبيل عيّـوش لديه فيلم جديد يبحث في موضوع «بنات الليل في مدينة مراكش»، كما يقول موقع IMDb. الفيلم عنوانه «منتهي الصلاحية» وإذا ما تم قبوله في المسابقة فستكون عودة السينما المغربية إلى هذا التتويج منذ أن فاز أورسن وَلز بالسعفة الذهبية عن فيلمه «تراجيديا عطيل» وكان ذلك سنة 1952. الفيلم شهد 3 جهات إنتاجية، إحداها مغربية وتم تقديمه آنذاك باسمها.
وكان تردد منذ حين أن المخرج الجزائري مرزاق علواش لديه حظ كبير في الانضمام إلى قافلة المتسابقين. جديده فيلم بعنوان «مدام كوراج» صوّره في المغرب حول لص صغير يتعلّـق بحبال الأمل عندما ينشد تغيير مهنته.
الجانب الإسرائيلي لا يجلس مكتوف الأيدي حيال كل ذلك.
قبل أيام تم الإعلان عن تعيين الممثلة والمخرجة رونيت إلكابتز رئيسة للجنة تحكيم «أسبوع النقاد» ليس لكونها ناقدة (فهي ليست كذلك) بل كونها سينمائية سبق لهذه التظاهرة أن قدّمت عددا من أفلامها مثل «كنزي» الذي شاركت بتمثيله ونال جائزة التظاهرة سنة 2004. وكان فيلمها الأخير «غت: محاكمة فيفيان أمسالم» عرض في تظاهرة «نصف شهر المخرجين» في العام الماضي وتوجه من هناك ليدخل ترشيحات الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، ولو أن الجائزة ذهبت إلى فيلم بولندي «آيدا».
لكن هناك الأفلام أيضا وأحد المتبارين المحتملين فيلم كوميدي من إخراج درور شاوول عنوانه «أتوميك فلافل» وآخر مختلف، من حيث إنه أكثر جدية، بعنوان «كلمات لطيفة» وهو عن 3 أشقاء يقومون برحلة لمعرفة هوية والدهم الحقيقية. هذا الفيلم من إخراج شيمي زارهين. احتمالات هذين الفيلمين تبدو - الآن - ضعيفة، لكن الفيلم الثالث في المرمى هو «حول وضعنا الاقتصادي» الذي يبحث في بيئة مدينة حيفا وسكانها المختلطين.
في العام الماضي شهد المهرجان الفرنسي هجمة شملت 7 أفلام لم يكن من بينها ما استطاع دخول المسابقة، لكن العدد ضمن للدولة حضورا ملحوظا.
عودة أمير
بعيدا عن هنا، ثمة فيلم بريطاني- فرنسي مطروح عنوانه «ماكبث» (مأخوذ بالطبع عن الفيلم الأكثر استحضارا من أدب ويليام شكسبير). المخرج هو الأسترالي جوستين كورزيل لكن البطولة تتراوح ما بين الألماني مايكل فاسبيندر والفرنسية ماريون كوتيار والبريطاني ديفيد ثيوليس.
ومن بريطانيا قد يختار المهرجان فيلمين هذا العام تنصب الأضواء عليهما باكرا. أحدهما هو فيلم تود هاينز الجديد «كارول» عن رواية الكاتبة باتريشا هايسميث ومن بطولة كايت بلانشيت وروني مارا تقع أحداثه في نيويورك الخمسينات.
الفيلم الآخر هو «أغنية المغيب» للمخرج ترنس ديفيز الذي يعود به إلى مطلع القرن العشرين ومكان أحداثه الريف الاسكوتلندي. ديفيز كان قدّم في دورة المهرجان سنة 2008 فيلمه المتقن «حول الزمن والمدينة» الذي دارت أحداثه في مدينة ليفربول.
وإذا ما كان حظّـه سعيدا، فسيجد المخرج البولندي ييرزي سكولوموفسكي نفسه مدعوا للاشتراك في المسابقة بفيلمه الجديد «11 دقيقة». سكولوموفسكي كان حقق جل أعماله في بريطانيا التي نزح إليها شابا صغيرا (مع رهط من مخرجي أوروبا الشرقية في مطلع الستينات أمثال كارل رايز ورومان بولانسكي). في سنة 2010 أنجز فيلمه الأول له في بولندا، منذ سنوات هجرته، وقدّمه تحت عنوان «قتل ضروري» في مهرجان فينيسيا.
من زبائن «كان» الذين انقطعوا لكونه توقف عن الإخراج لبضع سنوات المخرج الصربي أمير كوستاريتزا الذي كان أنجز مجدا عندما ربح السعفة سنة 1985 عن «زمن الغجر» ثم ربحها ثانية عن فيلمه «تحت الأرض» (1995) ورشح لها عبر فيلمه «الحياة معجزة» (2004). خلال كل تلك السنوات عرض فيلما واحدا في مهرجان برلين المنافس هو «حلم أريزونا» (1992) الذي فاز بفضيّـته. هذه المرّة يعود، مبدأيا وإذا ما استطاع الانتهاء من مراحل ما بعد التصوير، بفيلم عنوانه «على طريق الحليب».
الحضور الروسي هو لزبون آخر لمهرجان «كان» هو ألكسندر سوخوروف والاحتمالات كبيرة بشأن فيلمه الروائي «فرانكوفونيا، اللوفر تحت الاحتلال الألماني».
المقابل الأميركي عادة ضعيف، لكن أقوى الاحتمالات هو عودة المخرج غس فان سانت إلى شاشة «كان» عبر فيلمه الجديد «بحر من الشجر» من بطولة ماثيو ماكونوفي وكن واتانابي. الفيلم مرشّـح. كذلك هناك حديث عن أن الفيلم الجديد لشون بن «الوجه الأخير» (من بطولة الإسباني خافيير باردام والأميركية تشارليز ثيرون) سيحضر المسابقة. من ناحيته هناك احتمال قوي لعرض فيلم وودي آلن الجديد «رجل غير منطقي» خارج المسابقة وهو من بطولة إيما ستون وواكين فينيكس.
كبش آيسلندي
وقد لا يستطيع «كان» تفويت فرصة المشاركة في النشاط الذي تشهده دول أميركا اللاتينية منذ سنوات خصوصا في الأرجنتين والمكسيك. من الأولى هناك «لا باتوتا» لسانتياغو ميتري و«العصبة» لبابلو ترابيرو ومن المكسيك «وحش بألف رأس» لرودريغو بلا و«مرض مزمن» لميكيل فرانكو، بطولة الأميركي تيم روث الذي كان انتهى قبل أشهر قليلة من إنتاج وبطولة فيلم مكسيكي - أميركي عنوانه «600 ميل» لغبريال ريبستين.
أهم ما أنتجته السينما الألمانية توجه إلى مهرجان برلين لكن هناك فيلم لمارن أدا عنوانه «توني إردمان»، لكن احتمالاته تبدو ضعيفة. الاحتمال الأقوى قليلا من المخرج الهولندي جوست فان جينكل الذي بعث بفيلمه الجديد «شقة الفردوس» إلى «كان» وينتظر الجواب. ومن بلجيكا بعث جاكو فان دورميل بفيلمه «شهادة جديدة» في حين يتقصّـى الآيسلنديان رونار رنارسون وغريمور هاكفونارسون آخر الأخبار. السينما الآيسلندية لا تنتج الكثير لكنها أنتجت لهذا العام فيلمين، والاثنان تم إرسالهما إلى لجنة الاختيار قبل أسابيع: فيلم رنارسون هو «عصافير» حول ابن مدينة يتم إرساله للعمل والعيش في بلدة صغيرة. رنارسون سبق أن اشترك بفيلمه الجيد «بركان» في تظاهرة «نصف شهر المخرجين» قبل 4 سنوات.
فيلم هاكونارسون بعنوان «أكباش» Rams الذي يدور أيضا في بيئة محدودة الدخل في الريف الآيسلندي. من الغرابة بمكان أن هاكونارسون كان مثل في فيلم رنارسون «بركان» ونال جائزة آيسلندية عن دوره في ذلك الفيلم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)