يكاد حراك وسائل الإعلام، العريقة منها والحديثة، لا يتوقف في البحث عن مخارج وحلول للتكيف مع التغييرات التقنية الهائلة التي ضربت الأسس والتقاليد الكلاسيكية، وذلك من أجل صناعة الخبر وتقديمه للقراء أو المشاهدين أو المستمعين. ولعل تجربة الإعلام الأميركي الذي شهد، ولا يزال موجات متتالية من عمليات البيع والاستحواذ في السنوات الأخيرة، تشكل نموذجاً لافتاً. وهنا، يحرك هاجس بقاء تلك المؤسسات على قيد الحياة وتحقيق أرباح مجدية ظاهرة تبديل العناصر والاستعانة بخبرات جديدة وتطوير المهارات التقنية، تحت عناوين متعددة، كالكلام عن التكيف مع الإعلام الرقمي والاستعانة بالفيديو والصور والمقاطع القصيرة، وغيرها من الاقتراحات، أو حتى الاستفادة من بعض النماذج الناجحة لعدد من وسائل الإعلام الحديثة،. هذا الهاجس لا يقض مضاجع نوع واحد من الإعلام فقط، بل يشمل كل أشكاله.
في الآونة الأخيرة، كان لافتاً خبر استحواذ مجموعة «أكسل شبرينغر» الإعلام الألمانية الضخمة على صحيفة «بوليتيكو» الإلكترونية، بمبلغ مليار دولار، بعد نجاح الأخيرة في تأكيد حضورها لاعباً مهماً في الإعلام الأميركي. بالطبع هذا مبلغ ضخم يدفع ثمناً لمؤسسة إعلامية ولدت فقط عام 2007. في حين دفع الملياردير جيف بيزوس، صاحب شركة «أمازون»، أقل من ثلث هذا المبلغ عندما استحوذ على صحيفة «واشنطن بوست» عام 2013. التي تفوق «بوليتيكو» سناً بعشرات العقود.
في الواقع، يناقش القيّمون على الإعلام «التقليدي» راهناً أسباب صعود هذا النوع من الصحف الإلكترونية، التي استطاعت خلال سنوات قليلة من منافسة مؤسساته. ومن المتوقع على نطاق واسع أن تنضم صحيفة «ذي هيل» هي الأخرى، إلى قائمة الصحف الإلكترونية ذات الحضور الكبير والمتابعة الواسعة، لدى النخبة السياسية والرأي العام على حدٍ سواء.
وفي حين تشير إحصاءات تُعنى بمتابعة دخول القراء على المواقع الإلكترونية، إلى أن «بوليتيكو» تحظى بدخول يساوي تقريباً مجموع حركة دخول القراء على موقعي «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، تجري مناقشة الأساليب التي اتبعتها تلك الصحيفتان الإلكترونيتان الناجحتان - أي «بوليتيكو» و«ذي هيل» - حتى الآن، مكنتهما من الحصول على موطئ قدم حقيقية في سوق الإعلام.
لا شك أن رأس المال الموظّف يلعب دوراً كبيراً في نجاح أي وسيلة إعلامية أو فشلها. وحين نتحدث عن صحيفة إلكترونية، من الواضح أننا لا نتحدث عن «المواقع الإلكترونية» الإخبارية، الرائجة خصوصاً في منطقتنا العربية.
فالصحف الإلكترونية التي تخلت عن الطبعة الورقية، صحف حقيقية بكل ما للكلمة من معنى، من أقسام ومتخصّصين ومحققين ومراسلين ومصححين... والنجاح الذي تحققه تلك الصحف يتركز في تكيفها مع «العصر».
وكأي متابع عادي، يمكن للمرء أن يلاحظ سرعة وبساطة وتنوّع الخبر الذي يجري نشره في تلك الصحف. لكن هناك أيضاً سرعة تطويره التي تتيح لكل من القارئ والكاتب تحديث الخبر وتلقيه. وهنا يقول متخصصون إعلاميون إن «بوليتيكو»، بالذات، نجحت في التصدي لمشكلتين عانت منهما الصحافة السياسية في ذلك الوقت: البطء والأخبار السياسية المملة.
ولمواجهة هاتين المشكلتين تبنّت سريعاً ما يعرف بأسلوب صحافة «الأبارتيد» أو الفضائح السياسية، بعدما بدا واضحاً أن الجمهور يهوى هذا النوع من الأخبار. في ذلك الوقت كانت «بوليتيكو» تنشر ما يقوم به موقع «تويتر» اليوم، الذي بات مصدر «المعلومة» أو «الموقف»، خصوصاً عندما يكون مصدره أحد صناع الرأي.
صحيفة «ذي هيل»، تؤدي حالياً دوراً مشابهاً، لكنه يعتمد على الإرسال المكثّف للخبر عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام البريد الإلكتروني بشكل كبير، بجانب سرعة تطوير الخبر والتحقق من صحته. ومعلومٌ، أن النشر الإلكتروني، مع تحوّل أي مواطن عادي إلى وكالة أنباء أو مصدر خبر في ظل انتشار الهواتف الذكية، بات يشكّل منافسة كبيرة، ليس فقط للصحافة التقليدية، بل أيضاً لوكالات الأنباء المحلية والعالمية، التي تواجه تحدياً آخر يتعلق بالتأكد من دقة الخبر من أجل الحفاظ على صدقيتها.
كذلك، يبدو اليوم أن خطوط تقسيم وسائل الإعلام، بين مرئية ومسموعة ومكتوبة، قد اختفت.
صارت محطة التلفزيون تبث على الهواء مباشرة، وتنشر الخبر على موقعها الإلكتروني، وتشاركه على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو ما تفعله أيضاً الصحف، سواء كانت إلكترونية أو تقليدية، بعدما نجح بعضها في التحول إلى «محطة تلفزيونية»، إذ باتت تنشر الخبر مقروءاً على صفحاتها الورقية والإلكترونية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي... وبالتالي، اختفت الفوارق لمصلحة تبني عصر «الديجيتال».
الانقسام والتحيّز السياسي
أسباب أخرى لعبت دوراً في صعود تلك الصحف الأميركية، على رأسها حدة الانقسام والتحيز السياسي، وقلة التنوع العرقي بين الصحافيين، بحسب البعض. ويضيف هؤلاء، أن تركيز الأخبار على متابعة فئة معينة، كان محاولة لاسترضاء جمهور، بدا واضحاً تململه من التغييرات التي طرأت على السلطة في الولايات المتحدة، مع تولّي أسود هو باراك أوباما، رئاسة البلاد. وبدلاً من أن يفتتح هذا التطور المهم في تكوين السلطة السياسية الأميركية مساراً تصالحياً، جاءت نتائجه معاكسة، إذ ازدادت حدة الانقسام، وشارك الإعلام بكل أشكاله في تأجيجه وتعميقه.
عندما بدأت الصحف الإلكترونية مسيرتها، لم تكن مختلفة جداً عن المعتقدات السياسية والصحافية السائدة في الصحافة التقليدية. غير أن خبراء إعلاميين يؤكدون اليوم أنها تمكنت من هجر تلك المعتقدات، بعدما نجحت أولاً في ابتكار أسلوب جديد يقوم على نسخة أسرع وأكثر جذباً للاهتمام حول كيفية تغطية أخبار السياسة.
ومع تنويع «بوليتيكو»، وغيرها من الصحف الإلكترونية الحديثة، الخلفية العرقية لموظفيها بما يتناسب مع طبيعة الحدث السياسي، انتقلت العدوى إلى وسائل الإعلام السياسية التقليدية «المنحازة» أساساً، التي باتت تغطي الحدث بالطريقة نفسها. أي بتضخيم في «المعلومة» من دون التضحية بصدقيتها، والمزيد من نشر الأقاويل والهمس والتسريبات.
غير أن التنافس السياسي مع تغير الإدارات الأميركية، غالباً ما كان هو مصدر تسريب تلك الأخبار، سواءً كانت عن السياسة المحلية أو الخارجية. وهذه حقيقة معلومة رغم نفي السياسيين لها، في ظل «تصنيف تقسيمي» سياسي واضح لوسائل الإعلام الأميركية، بين تياري المحافظين والليبراليين.
اليوم باتت الإدارة السياسية في واشنطن، أكثر انكشافاً «وشفافية»، مع كل التحفظ على التوصيف الأخير. وهو ما شهدنا فصوله المكثفة إبّان رئاسة دونالد ترمب، الذي وصف عهده بأنه كان الأكثر انكشافاً وعرضة للتسريبات... التي تنقل أخبار خلافات رجال إدارته. ورغم إظهار «بوليتيكو» وغيرها من وسائل الإعلام الإلكترونية «وجود سوق قابلة للحياة، ومتعطشة لكل التفاصيل السياسية والشائعات»، على حد قول نيكي أوشر، أستاذة الصحافة في جامعة إيلينوي، الصحيح أيضاً أن السياسيين ربما يكونون أكثر تعطشاً من غيرهم لنشر «أخبارهم»... التي تصنع حيثيتهم لدى جمهورهم.
أوباما ووسائل التواصل
يعد باراك أوباما أحد أوائل الرؤساء الأميركيين في مجال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتخاطب مع جمهوره والترويج لخطابه. وهو فعل ذلك حتى من قبل أن يفوز في انتخابات الرئاسة عام 2008.
إلا أن «الثورة» التي أحدثها دونالد ترمب في نشر الخبر و«تسريبه»، فاقت سرعة وقدرة أي وسيلة أو وكالة أنباء. بل إن تغريداته على «تويتر» أسقطت احتكار الخبر والتصرف به وبيعه.
ومن ثم، مع انزياح الإعلام السياسي التقليدي نحو أساليب الصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، بدا واضحاً أن أهم القصص في السياسة الأميركية هي عمق استقطاب الناخبين الأميركيين على أسس ثقافية وعرقية. وراهناً، يتصارع الحزبان الجمهوري والديمقراطي مع مؤسسات مماثلة في كليهما ويتنافسان على الناخبين المتأرجحين، بعدما صار من الصعب اختراق الكتلة الشعبية لديهما لتغيير ولاءاتها.