انتخابات روسيا تعزز هيمنة «الحزب القائد» وتفتح الطريق نحو استحقاق الرئاسيات

السجالات مع الغرب إلى تصاعد بسبب تغييب المعارضة والتصويت الأوكراني

انتخابات روسيا تعزز هيمنة «الحزب القائد» وتفتح الطريق نحو استحقاق الرئاسيات
TT

انتخابات روسيا تعزز هيمنة «الحزب القائد» وتفتح الطريق نحو استحقاق الرئاسيات

انتخابات روسيا تعزز هيمنة «الحزب القائد» وتفتح الطريق نحو استحقاق الرئاسيات

لم تخرج نتائج الانتخابات العامة في روسيا عن إطار التوقعات التي ساقتها مسبقاً استطلاعات الرأي العام في البلاد. ومع تكريس هيمنة الحزب الحاكم «روسيا الموحدة» في مجلس الدوما (النواب) وغالبية المجالس النيابية والبلدية في المقاطعات والأقاليم، بدا أن المشهد السياسي الداخلي الروسي اتجه نحو استبعاد المعارضة عن لعب أي دور في مرحلة مهمة تسبق التحضير لانتخابات رئاسة جديدة في 2024.
في المقابل، أعاد الاستحقاق ونتائجه الزخم إلى مسار المواجهة الروسية - الغربية، وأضاف إلى السجالات بين الطرفين عناصر جديدة ينتظر أن تؤجج الأزمة بينهما في المرحلة المقبلة، خصوصاً على صعيد التأثيرات المنتظرة على الوضع في أوكرانيا. ويكاد المحللون والخبراء في روسيا يجمعون على أن الأبرز في نتائج هذا الاستحقاق هو إعادة تكريس فكرة «الحزب القائد» التي غابت عن المشهد السياسي الروسي بعد تفكك الدولة السوفياتية العظمى في بداية تسعينات القرن الماضي. إذ احتل حزب «روسيا الموحدة» الحاكم، بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين، المكان الذي كان يشغله لعقود الحزب الشيوعي السوفياتي، لجهة أنه ليس فقط القوة السياسية الأكثر قوة وتنظيماً وتمويلاً من الدولة، بل كونه يهيمن على كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد.

احتاجت روسيا نحو عقدين لإعادة تأهيل فكرة سلطة «الحزب القائد» المهيمنة ووضعها على سكة التنفيذ. لذلك؛ كان الشعار الأكثر تردداً خلال الحملات الانتخابية يقوم على وضع الناخب أمام خياري «الاستقرار والتنمية»، الذي تحرسه المنظومة السياسية والحزبية القائمة... أو «الفوضى والخراب»، الذي تحمله الأحزاب المرتبطة بالخارج والتي تسعى إلى زعزعة الأوضاع الداخلية وتمكين القوى الأجنبية من جرّ البلاد نحو الهاوية.
هكذا حرفياً تقريباً، ترددت العبارات والشعارات الانتخابية في البلاد خلال المرحلة التي سبقت الانتخابات. وهذا، مع تذكير مرشحي الحزب الحاكم في جولاتهم الانتخابية بأن «روسيا الموحدة» هو الحزب الوحيد الذي نجح في مواجهة الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وفي ضخ إمكانات واسعة لتخفيف معاناة المواطنين بسبب تداعيات تفشي «كوفيد - 19» وفي حماية «مبادئ» وأولويات الروس في مواجهة حملات التشكيك الخارجية.
هذا التوجه جاء بثماره، مستنداً إلى تصعيد الضغوط على المعارضة، وسحبها إلى خارج المنافسة بسبب تشديد القوانين وإدراج غالبية القوى المنافسة للحزب الحاكم على لوائح «التطرف»، أو في إطار قانون «العملاء الأجانب» الذي شل حركة أحزاب صغيرة كثيرة وأدى إلى إغلاق مقراتها وتجميد نشاطها.

- التوزيع المرتقب للقوى
لقد عكست النتائج التي أعلنتها رئيسة لجنة الانتخابات إيلا بامفيلوفا نجاح الحزب الحاكم «روسيا الموحدة» في المحافظة على هيمنة مطلقة في مجلس الدوما (النواب)، بحصوله على نحو 50 في المائة من أصوات الناخبين على اللوائح الحزبية. كذلك اكتسح مرشحو الحزب اللوائح الفردية، ليضمنوا فوزه بـ199 مقعداً من أصل 225، علماً بأن أعضاء الهيئة التشريعية الروسية الذين يبلغ عددهم 450 نائباً، ينتَخبون بالمناصفة بين اللوائح الحزبية والفردية. وهكذا، ضمن حزب «روسيا الموحدة» بذلك نحو 330 مقعداً نيابياً؛ ما يمنحه غالبية دستورية تمكّنه من سنّ القوانين منفرداً، ومن دون الحاجة إلى التحالف مع أحزاب أخرى.
أهمية هذا التطور تتضح أكثر، في إطار التعديلات الدستورية التي أقرّت في العام الماضي، والتي منحت البرلمان صلاحيات واسعة في مسائل تشكيل الحكومة وإقرار الموازنات وتعيين المسؤولين البارزين في الدولة. وهو ما يعني أن أي اقتراح يقدمه بوتين في هذه المجالات سيحظى بموافقة كاملة في الهيئة التشريعية.
أما ترتيب الأحزاب الأخرى التي نجحت في تجاوز نسبة الحسم للتمثيل في البرلمان فكان مجرد انعكاس لقدرتها على التعامل بنشاط، والإفادة من القيود الكثيرة على المعارضين، والمناخ السياسي العام في البلاد. لذا؛ لم يكن مستغرباً أن يحل «الحزب الشيوعي الروسي» في المرتبة الثانية، حاصداً أقل بقليل من 19 في المائة من الأصوات؛ ما عزز بشكل ملحوظ من حضوره. قد استفاد هذا الحزب من آلية «التصويت الذكي» (أو التكتيكي) التي ابتكرتها المعارضة لمواجهة نفوذ الحزب الحاكم عبر منح الأصوات لأوفر المرشحين حظاً في لوائح الأحزاب المنافسة له. واحتل المرتبة الثالثة «الحزب الليبرالي الديمقراطي» بحصيلة بلغت 7.5 في المائة من الأصوات، وهي النسبة نفسها تقريباً التي حصل عليها حزب «روسيا العادلة» الذي جاء رابعاً. وأما المرتبة الخامسة في هذه الانتخابات، فقد ذهبت لحزب جديد يشارك للمرة الأولى في انتخابات على المستوى الفيدرالي، هو حزب «الناس الجدد» الذي نجح في تجاوز نسبة الحسم للتمثيل في البرلمان، محققاً 5.3 في المائة من الأصوات. ولم يشكل هذا النجاح مفاجأة لأحد؛ كون استطلاعات الرأي كانت منحته تقريباً هذه النسبة نفسها. لكن الجديد أن هذا الفوز سيغيّر للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين تركيبة البرلمان المقبل، بعدما ظلت الأحزاب الأربعة الكبرى مهيمنة عليه خلال العقدين الماضيين.

- إقبال نشط على الصناديق
كان طبيعياً أن تشكل نسب الإقبال المرتفعة نسبياً على صناديق الاقتراع، أبرز النتائج المعلنة لهذه الانتخابات، على خلفية مخاوف سابقة من عزوف الناخبين على الإقبال، خصوصاً بسبب حملات التشكيك من جانب المعارضة وبعض الأطراف الغربية.
وكانت التوقعات، وفقاً لاستطلاعات الرأي تدور حول استعداد نحو من 40 إلى 45 في المائة، للمشاركة بالعملية الانتخابية، لكن بامفيلوفا، رئيسة لجنة الانتخابات المركزية الروسية، أعلنت أن نسبة المشاركة الحقيقية وصلت إلى نحو 51.7 في المائة، مشيرة إلى أن «هذه النسبة تعد الأكبر منذ سنوات طويلة». ويشار هنا إلى أن نسبة الإقبال في الانتخابات البرلمانية السابقة عام 2016 بلغت 47 في المائة.
من ناحية أخرى، تميزت عمليات الاقتراع في هذا الاستحقاق بدخول عنصرين جديدين عليهما لم يستخدما في انتخابات سابقة، أولهما: مدّ فترة التصويت إلى ثلاثة أيام، في مقابل يوم انتخابي واحد في كل الاستحقاقات المماثلة في السابق. والآخر: استخدام آليات التصويت الإلكتروني. في الحالين كان المبرّر هو الظروف الوبائية المرتبطة بتفشي «كوفيد - 19». لكن في الحالين أيضاً، أثار ذلك تحفظات لدى الأحزاب المختلفة، بينها الأحزاب التقليدية المتنافسة مع الحزب الحاكم. وكان لافتاً أن الحزب الشيوعي، مثلاً، دعا أنصاره إلى تجاهل التصويت الإلكتروني، والإقبال على الاقتراع حضورياً في اليوم الأخير فقط، تحسباً لاستخدام أصوات ناخبيه لصالح الحزب الحاكم. ولكن، بصورة عامة، كانت نسبة الإقبال على الاقتراع الإلكتروني محدودة نسبياً ولم تتجاوز نحو مليونين ونصف مليون ناخب من أصل نحو 95 مليوناً، إلا أنه لكونها المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه التقنية فهي تعد تطوراً مهماً.

- سجال حول عمليات المراقبة
وبعيداً من كلام أحزاب المعارضة الصغيرة المدعومة من الغرب عن وقوع «انتهاكات كبرى» سبقت العملية الانتخابية، وتمثلت في فرض قيود كثيرة على المنافسة؛ ما أدى إلى استبعاد المعارضة تماماً، فإن مسار عمليات الاقتراع نفسها، ومسار فرز الأصوات لم يشهدا انتهاكات فادحة. والحال، أنه نظمت عمليات مراقبة إلكترونية واسعة للانتخابات غطت عبر كاميرات المراقبة نحو 96 في المائة من مراكز الاقتراع في البلاد، وهذه أوسع عملية مراقبة على مدار الساعة للاستحقاق الانتخابي. وشارك في المراقبة داخلياً، نحو 400 ألف نسمة يمثلون الأحزاب المتنافسة ومنظمات اجتماعية وحقوقية روسية مختلفة، ومتطوعون في كل الأقاليم الروسية. وعلى مستوى المراقبين الأجانب، شارك نحو 250 مراقباً يمثلون أبرز المنظمات الإقليمية باستثناء مفوضية الأمن الأوروبي التي قاطعت العملية الانتخابية.
وبالتالي، يمكن القول – عموماً - إن الانتخابات أجريت من دون تسجيل انتهاكات ملموسة يمكن أن تؤثر على نتائجها. وهذا يثبته بشكل واضح أن الشكاوى التي قدّمتها الأحزاب المتنافسة حول وقوع خروق... بلغت نسبتها أقل بمرتين تقريباً نسبة الخروق والانتهاكات المماثلة في الانتخابات السابقة.
أما الحديث عن غياب المعارضة عن الانتخابات، وهو الأمر الذي استخدمته بلدان أوروبية والولايات المتحدة للتشكيك بالعملية الانتخابية ووصفها بأنها لم تكن نزيهة، فهو يدخل أكثر في دائرة السجالات السياسية بين الطرفين. وله أيضاً أبعاد قانونية، كون الغرب اعترض على ضم مكوّنات معارضة إلى لوائح «العملاء الأجانب» ما حرمها من المشاركة.

- ارتياح روسي واسع
في المقابل، برز الارتياح في الكرملين لنتائج الانتخابات، واعتبر الرئيس فلاديمير بوتين أنها «تعكس مزاج الروس»، شاكراً مواطنيه بشكل خاص على «تلبيتهم الواجب الوطني وأيضاً على الإقبال الكبير النشط على الصناديق».
هذا، وعلى الرغم من الفوارق النسبية التي أحدثتها النتائج في موازين القوى داخل البرلمان الجديد، لجهة اتساع حضور الحزب الشيوعي مثلا على حساب «الليبراليين الديمقراطيين»، كان لافتاً أن كل الأحزاب المهيمنة خرجت راضية. وحقاً لم تزد الشكاوى التي قدمتها هذه الأحزاب إلى لجنة الانتخابات المركزية عن احتجاجات محدودة التأثير على سير عمليات الاقتراع أو فرز الأصوات في بعض الأقاليم أو المجالس البلدية في مناطق نائية. ولقد عكس هذا الارتياح، واقعياً، أن كل الأطراف المشاركة في المشهد الانتخابي أدركت أن ملامحه معدة سلفاً... ولا فائدة ترجى من الطعن أو التشكيك. وهذا ما حمل مثلاً فلاديمير جيرينوفسكي زعيم «الحزب الليبرالي الديمقراطي» - الذي خسر نحو نصف حضور حزبه البرلماني السابق - إلى تأكيد رضاه عن النتائج، بل وفاخر بأنه «نجح بقيادة الحزب إلى البرلمان ثماني مرات متتالية»، وهذا برأيه «الإنجاز الأهم».
مقابل ذلك، برزت انتقادات واسعة لروسيا في أوروبا والولايات المتحدة. وندد الاتحاد الأوروبي بما وصفه بـ«مناخ الترهيب» إبان الفترة التي سبقت الاستحقاق، وانتقد غياب مراقبين مستقلين. وأيضاً ندّدت واشنطن بـ«ظروف إجراء الانتخابات»؛ مدّعية أن الروس «مُنعوا من ممارسة حقوقهم المدنية». وحملت عبارات التنديد الغربي مقدّمات أساسية لشكل العلاقة المنتظرة مع الغرب، علماً بأن الاتحاد الأوروبي فضلا عن تحفّظه على «تغييب» المعارضة، وضع مسألة التصويت في القرم ضمن أسباب التحفظ الأساسية على نتائج الانتخابات.

- تصويت شرق أوكرانيا
على صعيد متصل، ينتظر أن يشكل التصويت في شرق أوكرانيا مسألة خلافية متصاعدة. إذ لم تكتفِ روسيا في هذه الانتخابات بإجراء عمليات الاقتراع في منطقة شبه جزيرة القرم التي لا يعترف المجتمع الدولي بضمها إلى روسيا -، بل امتدت عمليات الاقتراع إلى إجزاء انفصالية في جمهورية أوكرانيا، تحديداً، في إقليمي لوغانسك ودونيتسك في شرق الجمهورية. وكانت موسكو قد نشطت خلال العام الأخير، في عمليات منح الجنسية الروسية للمواطنين الأوكرانيين في هاتين المنطقتين اللتين أعلنتا انفصالاً من جانب واحد عن أوكرانيا بدعم من موسكو. ووفقاً للمعطيات المتوافرة، حصل نحو 650 ألف مواطن في المنطقتين على الجنسية الروسية، وشارك في الانتخابات أقل بقليل من نصفهم.
وعليه، رأت أوساط أوروبية أن إقدام موسكو على أجراء «انتخاباتها» في الأراضي الأوكرانية المتمردة يشكل انتهاكاً واسعاً للقانون الدولي. وهو ما يرشح هذا الملف للتحوّل إلى عنصر سجالات متفاقمة لاحقاً. في حين اعتبر الانفصاليون الأوكرانيون، أن هذا «الاستحقاق» أطلق مرحلة مهمة وجديدة على صعيد «النضال» من أجل الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى «الوطن الأم» روسيا.
من جانبها، ترى أوساط روسية، أنه لن يكون بمقدور الغرب عمل الكثير للتأثير على الوضع الراهن بعد الانتخابات، وأن إعلان عدد من البلدان الغربية رفضها نتائج الانتخابات في القرم، لا يعكس الرغبة أو القدرة على رفض الاعتراف بمجمل العملية الانتخابية؛ لأن أمراً كهذا سيؤدي إلى تداعيات سياسية كبرى، منها رفض التعامل مع البرلمان الجديد، وهذا تصعيد لا تبدو البلدان الأوروبية، على الأقل، مستعدة له.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟