«أزهار ونباتات مائية» تطفو على سطح لوحات معرض قاهري

الفنان المصري وائل حمدان يقدم 43 عملاً بمشروعه الجديد

«أزهار ونباتات مائية» تطفو على سطح لوحات معرض قاهري
TT

«أزهار ونباتات مائية» تطفو على سطح لوحات معرض قاهري

«أزهار ونباتات مائية» تطفو على سطح لوحات معرض قاهري

يُفتقد اللون الأخضر وزهوره في متاهات المدينة، بعمرانها الكثيف ومبانيها الخرسانية، وتزيد حدة هذا الافتقاد كلما كان التعلق بالنباتات أكبر، وهو ما عبّر عنه الفنان المصري وائل حمدان بطاقة تشكيلية موصولة بالشغف بالنبات وجمالياته، وقام ببناء عالم فني يُعرض حالياً تحت عنوان «أزهار ونباتات مائية».
في معرضه، الذي يستضيفه غاليري «سماح» في مصر، يقترب الفنان وائل حمدان من الأزهار بشكل مُتحرر من النقل الحرفي معتمداً بشكل أكبر على مخزون ذاكرته، ويقول وائل حمدان لـ«الشرق الأوسط»: «لم أكن حريصاً على تقديم الهيئة التشريحية للأزهار بقدر ما كنت أرسمها من ذاكرتي وأضيف إليها من تصوراتي وخيالي»، مضيفاً أن اهتمامه بالنباتات المائية والأزهار قديم وله جذور تشكيلية وكذلك فوتوغرافية، حيث طالما لفتت اهتمامه كمصور فوتوغرافي كذلك وحاول رصد عالمها من قبل عبر عدسة الكاميرا.

تبدو النباتات المائية عالماً له سحره الخاص، فهي تتخذ من الماء مُستقراً وهي تطفو على سطحه في بهاء وسكينة، كالبرك والبحيرات والأنهار والبحار. وطالما كان يقف وائل حمدان مشدوهاً أمام تكوينات تلك النباتات المائية حتى صارت واحدة من بطلات خياله «أستدعيها دائماً، حتى إنني قمت بزيارة حديقة الأورمان التي كنت مُغرماً بتصوير معالمها النادرة، ومنها برك تنتشر بها النباتات المائية بشكل خلاب، ولكنني في المرة الأخيرة فوجئت بأن تلك البرك أصبحت قاحلة، فأحزنني ذلك، ودفعني أكثر للاعتماد على ذاكرتي الفنية وأنا أستدعي مشاهد الأزهار المائية العائمة فوق سطح البرك والأنهار».

في لوحات المعرض، الذي يواصل أعماله حتى نهاية سبتمبر (أيلول) الجاري، يمكن الاقتراب من معالم النباتات المائية بزوايا متعددة، فالتناغم بين الأوراق الكبيرة والزهور يمنح أحياناً لهم دراما حركية، أقرب للانسياب الرقيق فوق سطح الماء، فهي أشبه بـ«الأطباق المائية» كما يصفها صاحبها، التي تعرف طريقها في سكون.
ورغم تعدد أنواع النباتات المائية، فإن حمدان لم تشغله تلك المُسميات أو تقديم نباتاته بشكل توثيقي، وإنما اعتمد على حُرية تحريك الأزهار عبر اللوحات سواء على سطح محيط مائي، أو في مساحات طبيعية، أو حتى تناولها بشكل تجريدي يقترب من رؤيته البصرية لشكل النبات.

لوحات المعرض البالغة 43 قطعة، تُطل باختيارات لونية واسعة، بالإضافة لتدريجات الأخضر والأزرق المرتبطة بعالم النباتات المائية، إذ نجد تنويعات في استخدام ألوان الزهور التي تراوحت بين الألوان التقليدية لعالم الزهور، كالزهري والأحمر، وصولاً لدرجات أكثر فانتازية يقول عنها حمدان: «منحت بعضها درجات فانتازية كالزهور الزرقاء والبُنية لأضُفي عليها مزيداً من الوقع الخيالي».
ويبدو توظيف الفنان وتنويعه في استخدام خاماته ما بين ألوان مائية، وزيتية واكريليك جليّة في تراكمات طبقات البناء التشكيلي للوحات، كما يظهر توظيف اللون الذهبي في عدد من الأعمال بشكل يمنحها وميضاً سحرياً يُحيل لعالم الأساطير التي كانت كثير من حكاياته تقترب من ضفاف البرك الصغيرة والأنهار وأزهارهما.

ويبدو اختيار الفنان لثيمة «الأزهار والنباتات المائية» جدير بالتأمل، لا سيما أنها تبتعد عن اختياراته السابقة التي كانت تنحاز للتعبير عن المُدن وحركة الأحياء، والتكوينات المعمارية، والتقاطهم بزاوية عين الطير من أعلى، ويعتبر حمدان أن هذا الابتعاد في ثيمة هذا المعرض عما سبق تقديمه في معارضه السابقة هو «تحدٍ فني جديد، وابتعاد عن التكرار الذي قد يقع فيه الفنان»، ويضيف أنه إلى جانب ذلك فإن تجربة كورونا بشكل عام جعلت الناس تبحث عن موضوعات أقل ضوضاء وأكثر سلاماً، وربما التفاعل مع ملامح طبيعية مُفتقدة في حياتهم اليومية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)