«تحالف الخضر والحمر».. الذي أخرج السياسة السويدية من جادة الاعتدال

الأزمة مع السعودية ممتدة رغم تدخل القصر والوسطاء.. في انتظار اعتذار أو استقالة

«تحالف الخضر والحمر».. الذي أخرج السياسة السويدية من جادة الاعتدال
TT

«تحالف الخضر والحمر».. الذي أخرج السياسة السويدية من جادة الاعتدال

«تحالف الخضر والحمر».. الذي أخرج السياسة السويدية من جادة الاعتدال

في كتابه «الشعب النائم» يقول رئيس الوزراء السويدي رئيس حزب المحافظين السابق فريدريك راينفيلد الذي أدار دفة البلاد مدة 8 سنوات إن «موجة الرأي العام قد يصنعها مغفل يلقي نكتة سمجة في وجه الشرطة.. فتصنع كراهية الشرطة وإجراءاتها موجة رأي عام تصل إلى أعلى مراتب المسؤولية، لكن الأخطر أن يلقي تلك النكتة السمجة مسؤول حكومي محلف يثبت أنه يفتقد إلى اللياقة في اختيار العبارات الدبلوماسية التي تحفظ للشعب الرفعة وللبلاد المكانة».
ويبدو أن راينفيلد الذي اختار العزلة بعد 8 سنوات من إدارة شؤون السياسة السويدية، (2006 - 2014) اكتشف باكرا خطورة وأهمية التصريحات والكلمات التي يلقيها السياسيون أمام الرأي العام ووسائل الإعلام. وقد عصفت بالسويد خلال الأسابيع القليلة الماضية، أزمة دبلوماسية مع المملكة العربية السعودية، جراء تصريحات أطلقتها وزيرة الخارجية السويدية ضد القضاء في السعودية، كادت تطيح بثوابت السياسة الخارجية السويدية ومشاريع العمل الصناعي والتجاري المشترك مع مجموعة الدول العربية ودول الخليج والسعودية بشكل خاص. ويواجه تحالف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب البيئة وهو ما اصطلح عليه تحالف الخضر والحمر، مأزقا حرجا في وقت يبحث فيه عن مخرج للأزمة التي أخرج بها السياسة السويدية من جادة الاعتدال.

الخبير السياسي المختص بمتابعة تأثير اللوبي ومجموعات الضغط في السويد أردولان صميمي، قد أشار في أحد أحاديثه إلى «الخيط الرفيع الذي يمشي عليه الدبلوماسيون والمتحدثون الرسميون وهم يتحملون مسؤولية كل خطأ في الحديث أو إعلان البيانات المتعلقة بالسياسات الخارجية عند إعلانها أمام وسائل الإعلام» وشبه ذلك الخيط الرفيع بأنه «كالحبل الذي يمشي عليه مهرج السيرك.. إن اختل سقط وإن واصل توازنه عبر إلى الجهة الأخرى بسلام».
والحق هنا أن ما ذهب إليه رئيس الوزراء السويدي السابق أو الخبير السياسي، ينطبق تماما على حالة الارتجال التي مثلتها تصريحات وزيرة الخارجية السويدية «مارغوت فالستروم» ضد القضاء في المملكة العربية السعودية والتي أدت إلى أزمة دبلوماسية متواصلة لها أبعاد تجارية واقتصادية كبيرة مؤثرة في واردات السويد ونشاط شركاتها الاقتصادي.
وغمز الباحث والدبلوماسي السويدي السابق بير أندشون، من قناة، وزيرة الخارجية السويدية «فالستروم»، حين انتقد تصريحاتها ضد القضاء السعودي قائلا إنها تصريحات تفتقد إلى اللياقة الدبلوماسية لأنها أثارت أزمة دبلوماسية عارمة كادت تطيح بثوابت السياسة الخارجية السويدية ومشاريع العمل الصناعي والتجاري المشترك مع مجموعة الدول العربية ودول الخليج والسعودية بشكل خاص، وتابع يقول: «ثم جاء موقف الحكومة في إيقاف اتفاقية التعاون مع السعودية من طرف واحد وهو الأمر الذي زاد من تأزم العلاقات بين بلدينا».
لم تمض هذه الخطوات بشكل سلس، بل جوبهت بحملات مضادة قاسية، أكبرها من «مجموعة الثلاثين» والتي تعرف اختصارا باسم «كيميفيك» والمكونة من أكبر 31 شركة سويدية كبرى، حيث أصدرت بيانا على لسان «كرستينا ستينبيرك» عارضت فيه تصريحات الوزيرة فالستروم ودعت إلى أهمية احترام الاتفاقات والمواثيق التي تضمن العلاقات المشتركة مع السعودية. غير أن الحكومة السويدية تصرفت بطريقة تفتقد إلى التوازن حين ألغت الاتفاقية من جانب واحد يوم 10 مارس (آذار) 2015 مما حدا بتجمع الشركات الثلاثين إلى إصدار بيان يشير إلى خطأ الحكومة السويدية ومعارضة هذا الإجراء الذي يعرض مصالح السويد الكبرى إلى الخطر.
كانت السعودية قد وقعت في أبريل (نيسان) من عام 2005 اتفاقية ثنائية مع مملكة السويد للتعاون الفني والصناعي والتجاري أيام رئيس الوزراء الأسبق «يوران بيرشون» في شهر أبريل من نفس العام، ثم دخلت حيز التنفيذ في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته. وتضم الاتفاقية فصولا وأبوابا تنظم العمل المشترك بين البلدين الذي اعتبرت السعودية إثر تفعيله ثالث أفضل المتعاملين تجاريا مع السويد في إطار الاتفاقية.
وكانت الاتفاقية قد كرست في ديباجتها «أهمية العمل الثنائي بين السويد والسعودية من أجل إنماء فرص الإنتاج وتطوير الوسائل المستخدمة في التنمية والبناء» كما كشفت بعض الوثائق الصحافية عام 2008.
وكان الكاتبان بو غوران ودانيال أومان «قد كشفا عام 2008 بنودا مختلفة من الاتفاقية وأشارا إلى محاولات حكومة المحافظين يومذاك برئاسة (فريدريك راينفيلد) تعويق تنفيذ بعض بنود الاتفاقية والحد من فرص تنفيذ الجانب العسكري المتعلق بالتصنيع من تلك الاتفاقية مع الرياض».

* جذور الأزمة
* تعود جذور الأزمة إلى مشكلة تجديد اتفاقية التعاون المشترك التي وقعها البلدان لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد، وتنظم التبادل التجاري والصناعي واستثمارات الشركات السويدية وتوريداتها لمشاريع التنمية السعودية. وكانت السعودية قد أبلغت الجانب السويدي عن رغبتها بمراجعة بنود الاتفاقية أكثر من مرة قبل أن تجددها حكومة المحافظين عام 2010 وأصبحت نافذة لغاية عام 2015.
وتضم الاتفاقية بنودا تخص الصناعات العسكرية إلى جانب التنصيص على مدى واسع من الميادين المدنية والفنية والتكنولوجية للاستثمارات والخبرات السويدية. وقد بلغ حجم الواردات السويدية جراء ذلك خلال السنوات العشر المنصرمة، أكثر من 13 مليار دولار سنويا، فضلا عن عمل المئات من المتخصصين والفنيين السويديين في مشاريع الإنماء والسكن والصناعة والصحة والتعليم وغيرها من ميادين العمل في السعودية. وبلغت المشتريات وفق الاتفاقية عام 2014 نحو 37 مليون يورو بحيث احتلت السعودية ثالث أكبر مشتر من السويد، وكان ماركوس لنبيري المتحدث باسم شركة ساب، قد وصف ذلك بأنه تعبير عن مستوى الثقة التي تحظى بها الصناعة السويدية لدى السعودية كدولة مهمة من دول الشرق الأوسط.
وفي أوائل مارس 2015 أبلغت الإدارة السعودية المختصة الحكومة السويدية عبر الوسائل الدبلوماسية أن للسعودية وجهات نظر فنية على بنود الاتفاقية التي ستنتهي مدتها في مايو (أيار) 2015 وطلبت إعادة النظر فيها أو إلغاءها. وإثر ذلك صرح رئيس الوزراء السويدي «ستيفان لوفين» في الرد على أسئلة وسائل الإعلام أنه هو والمختصون سيعكفون على مراجعة بنود الاتفاقية دون تأثيرات للرأي العام أو التجاذبات السياسية حرصا على مصالح السويد العليا.
ولكن من دون أية تمهيدات وقفت وزيرة الخارجية السويدية «مارغوت فالستروم» في جلسة مجلس النواب السويدي يوم 6 مارس وطالبت بإلغاء الاتفاقية ووجهت انتقادات للسعودية وألصقت التهم دون أي اعتبار لقواعد الدبلوماسية، ظنا منها أنها تحقق رصيدا لدى الرأي العام السويدي الذي كانت تشحنه وسائل إعلام وأحزاب ومجموعات عنصرية ضاغطة إلى جانب حزب البيئة الحليف في إدارة الحكومة الذي نادى بإلغاء الاتفاقية دون أي اعتبار سياسي أو دبلوماسي.
وقد واجهت المجموعة العربية في الجامعة العربية الحكومة السويدية ووزارة الخارجية باعتراضات شديدة على تصريحات الوزيرة وأبلغ الكثير من السفراء المعتمدين لدى السويد وزارة الخارجية عدم رضا البلدان العربية والإسلامية وقد تجاوزت الاعتراضات مدى جاوز المنظمات الإقليمية إلى دول حليفة وصديقة وقفت مع السعودية ضد اختراق قواعد الدبلوماسية بحجج حرية التعبير ضد السعودية.
وقد فوجئت الوزيرة خلال استضافتها في اجتماعات الجامعة العربية في القاهرة أن خطابها المقرر أمام مجلس الأمناء قد ألغي بضغط الدول الأعضاء والاكتفاء بحضورها ضيفة على الاجتماع. لكن التداعيات تجاوزت ذلك حين استدعت السعودية سفيرها المعتمد في السويد للتباحث ثم تلتها دولة الإمارات العربية، كما توافد سفراء الدول العربية المعتمدون على مقر الخارجية السويدية لإبلاغ اعتراضاتها على التصريحات غير المسؤولة التي أطلقتها الوزيرة المذكورة. والتقطت المعارضة السويدية القفاز وطالبت بسحب الثقة عن الحكومة، غير أنها فشلت في إدراك النصاب في البرلمان. وتطالب جهات الوزيرة السويدية الاعتذار، أو الاستقالة للخروج من الأزمة.
وحين ألغت السعودية عقب ذلك منح تأشيرات الدخول لرجال الأعمال والصناعيين والفنيين السويديين، قامت الدنيا عند مجتمع رجال الأعمال والمال السويديين، واتضحت تأثيرات الأزمة على الاقتصاد السويدي والشركات الإنتاجية والاستثمارية في السويد حتى بلغ ذلك الشركات المملوكة من قبل الأجانب المقيمين في السويد بصفتها شركات تنفيذية ميدانيا وأصبح مجموع الواردات التي سيحرم منها الاقتصاد السويدي حينئذ قرابة 15 مليار دولار سنويا فضلا عن تأثر أسواق الأسهم والمال داخل السويد بتلك النتائج السلبية الكبيرة لأخطاء الارتجال السياسي وكسر قواعد التعامل الدبلوماسي بين الشركاء.
ولم تتوقف تداعيات الأزمة، بل اتسعت لتشمل المفوضية الدائمة للاتحاد الأوروبي التي حاولت الاتصال بالجامعة العربية للتدخل لدى السعودية لتليين موقفها إزاء الأزمة. كما حاولت دول صديقة التواصل مع الجهات الدبلوماسية لتوفير جو من الحوار الثنائي. وشكلت 70 شركة سويدية مجموعة اتصال بالسعودية كما أعلنت الحكومة السويدية عن اجتماعات أزمة متعددة للوصول إلى حلول ممكنة.
واستدعت قوى المعارضة في البرلمانات وزيرة الخارجية مارغوت فالستروم إلى جلسة تحقيق مفتوحة حول جذور الأزمة ووجهت للوزيرة انتقادات حادة مما حدا بالوزيرة إلى محاولة تليين المواجهة البرلمانية والأزمة الدبلوماسية بالحديث عن استمرار التعاون الإيجابي مع السعودية كونها من أكبر الدول المانحة والدول التي تحارب العنف والإرهاب.

* حقائق
* يعطي المراقبون صورة واقعية لحاضر المجتمع والسياسة في السويد، وهو واقع يشكل حاضنة اجتماعية وسيكولوجية لحركة الفكر والسياسة، ويصفون المجتمع السويدي بشكل عام، بأنه مجتمع انطوائي، وربما هو مجتمع يميل إلى العزلة والفردية إلى حد ما. وقد تكرست تلك الصفة لزمن طويل بفعل الطبيعة الإسكندنافية الباردة والصعبة والمعزولة قرب القطب الشمالي وبفعل الجغرافيا القصية التي حفرت في الشخصية الإسكندنافية عميقا لأكثر من ألف عام وليس بفعل اختيار واع عام.
وتبدو الشخصية السويدية عموما غير واضحة نسبيا خلال عملية التواصل الاجتماعي مع الآخر، إما بفعل الخجل أو التردد في الوقوف أمام ثقافات أخرى كما يقولون.
ويؤكد المراقبون أن تلك العزلة الصعبة قد حولت المزاج السويدي إلى مزاج متقلب يميل إلى التغيير والتنقل والبحث عن التجديد للخروج من العزلة إلى فضاءات أخرى. وقد تجلى ذلك ليس فقط في ميل الشخصية السويدية لتغيير أماكن العمل أو عناوين السكن والهوايات ووجهات السفر في الإجازات الكثيرة التي يتمتع بها السويدي بل في الميل إلى تغيير الوجوه والصداقات والحكومات أيضا.
ولذلك كان واضحا في انتخابات سبتمبر (أيلول) عام 2014 أن الكفة تميل إلى انتخاب تحالف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب البيئة وهو ما اصطلح عليه تحالف الخضر والحمر، بعد 8 سنوات من حكم تحالف يمين الوسط برئاسة حزب المحافظين التي امتلأت بكثير من المواجهات السياسية والفضائح والإشكالات.
وبالكاد أسفرت نتائج الانتخابات السويدية عن حكومة ذات أقلية برلمانية تتكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب البيئة، ولكنها حملت معها مفاجأة غير سارة إذ تقدم الحزب العنصري المضاد للعرب والأجانب والديانات «ديمقراطيو السويد» في الانتخابات واستطاع الحصول على 13 في المائة من مقاعد البرلمان إلى جانب الأغلبية المعارضة لتحالف يمين الوسط وهو أمر أخل بحلم الحمر والخضر في إدارة البلاد كما يشاءون.
ومنذ اليوم الأول حاول الحزب العنصري إسقاط الحكومة في البرلمان وتصدى للتصويت للميزانية التي قدمتها حكومة الحمر والخضر وأسقطها وكاد ذلك أن يعصف بالتحالف الحاكم لولا تدخل تحالف يمين الوسط التي فاز مشروع ميزانيته البديلة أو ميزانية الظل بالتصويت في البرلمان، واتفق التحالف اليميني مع الحمر والخضر، تحاشيا لفوضى سياسية تتطلب انتخابات تكميلية، قد تهدد بفوز ساحق للتيار العنصري وهكذا أصبحت حكومة الأقلية الفائزة حكومة موظفين من رئيس الوزراء ستيفان لوفين ورهط الوزراء من تيار اليسار الاشتراكي وعشاق البيئة.
وتأتي الأزمة الدبلوماسية والاقتصادية التي فجرتها تصريحات وزيرة الخارجية ضد القضاء في السعودية لترسم صورة عن هشاشة في النظر إلى الحقائق الدولية الكبرى ونقص في اللياقة الأدبية رغم دعاوى الحقوق وحرية التعبير، ولتعطي حكومة الأقلية البرلمانية درسا في التروي في تقييم علاقات البلدان الثنائية وبخاصة مع مجموعات الدول المؤثرة والسعودية كدولة محورية في الشرق الأوسط والعالم.
وقد كتب محللون من بينهم المحلل السياسي المعروف «ستيفان هايمر ستون» مقالة مهمة بعنوان «وزيرة خارجية السويد بحاجة إلى وسائل امتصاص الصدمات» قال فيها: «إن الدبلوماسية السويدية تعرضت إلى واحدة من أخطر الأزمات غير المسبوقة حين وقفت وزيرة الخارجية أمام وسائل الإعلام لتلقي بيان يشبه خطب الهواة الذين يفتقدون إلى قواعد الدبلوماسية التي تتميز بانتقائية اللغة وحيادية الخطاب لتعرض علاقات بلادنا مع السعودية إلى أزمة لسنا بحاجة إليها.. ويبدو أنها سوف تكلفنا الكثير». ويبدو أن القصر الملكي السويدي هو الملاذ الأخير الذي لجأت إليه الحكومة، لتلافي تلك الأزمة الدبلوماسية والاقتصادية الكبيرة مع السعودية، من خلال ما يتمتع به الملك كارل غوستاف السادس عشر، بحسب بيان القصر الملكي السويدي، من صلات تاريخية مع القيادة السعودية والتي تعبر عن مستوى رفيع من الترابط والعمل الثنائي المشترك مع الرياض.. لعل وعسى أن تجد طوق نجاة قبل أن تغرق في بحر مصير مجهول لا تحمد عقباه.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».