«تحالف الخضر والحمر».. الذي أخرج السياسة السويدية من جادة الاعتدال

الأزمة مع السعودية ممتدة رغم تدخل القصر والوسطاء.. في انتظار اعتذار أو استقالة

«تحالف الخضر والحمر».. الذي أخرج السياسة السويدية من جادة الاعتدال
TT

«تحالف الخضر والحمر».. الذي أخرج السياسة السويدية من جادة الاعتدال

«تحالف الخضر والحمر».. الذي أخرج السياسة السويدية من جادة الاعتدال

في كتابه «الشعب النائم» يقول رئيس الوزراء السويدي رئيس حزب المحافظين السابق فريدريك راينفيلد الذي أدار دفة البلاد مدة 8 سنوات إن «موجة الرأي العام قد يصنعها مغفل يلقي نكتة سمجة في وجه الشرطة.. فتصنع كراهية الشرطة وإجراءاتها موجة رأي عام تصل إلى أعلى مراتب المسؤولية، لكن الأخطر أن يلقي تلك النكتة السمجة مسؤول حكومي محلف يثبت أنه يفتقد إلى اللياقة في اختيار العبارات الدبلوماسية التي تحفظ للشعب الرفعة وللبلاد المكانة».
ويبدو أن راينفيلد الذي اختار العزلة بعد 8 سنوات من إدارة شؤون السياسة السويدية، (2006 - 2014) اكتشف باكرا خطورة وأهمية التصريحات والكلمات التي يلقيها السياسيون أمام الرأي العام ووسائل الإعلام. وقد عصفت بالسويد خلال الأسابيع القليلة الماضية، أزمة دبلوماسية مع المملكة العربية السعودية، جراء تصريحات أطلقتها وزيرة الخارجية السويدية ضد القضاء في السعودية، كادت تطيح بثوابت السياسة الخارجية السويدية ومشاريع العمل الصناعي والتجاري المشترك مع مجموعة الدول العربية ودول الخليج والسعودية بشكل خاص. ويواجه تحالف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب البيئة وهو ما اصطلح عليه تحالف الخضر والحمر، مأزقا حرجا في وقت يبحث فيه عن مخرج للأزمة التي أخرج بها السياسة السويدية من جادة الاعتدال.

الخبير السياسي المختص بمتابعة تأثير اللوبي ومجموعات الضغط في السويد أردولان صميمي، قد أشار في أحد أحاديثه إلى «الخيط الرفيع الذي يمشي عليه الدبلوماسيون والمتحدثون الرسميون وهم يتحملون مسؤولية كل خطأ في الحديث أو إعلان البيانات المتعلقة بالسياسات الخارجية عند إعلانها أمام وسائل الإعلام» وشبه ذلك الخيط الرفيع بأنه «كالحبل الذي يمشي عليه مهرج السيرك.. إن اختل سقط وإن واصل توازنه عبر إلى الجهة الأخرى بسلام».
والحق هنا أن ما ذهب إليه رئيس الوزراء السويدي السابق أو الخبير السياسي، ينطبق تماما على حالة الارتجال التي مثلتها تصريحات وزيرة الخارجية السويدية «مارغوت فالستروم» ضد القضاء في المملكة العربية السعودية والتي أدت إلى أزمة دبلوماسية متواصلة لها أبعاد تجارية واقتصادية كبيرة مؤثرة في واردات السويد ونشاط شركاتها الاقتصادي.
وغمز الباحث والدبلوماسي السويدي السابق بير أندشون، من قناة، وزيرة الخارجية السويدية «فالستروم»، حين انتقد تصريحاتها ضد القضاء السعودي قائلا إنها تصريحات تفتقد إلى اللياقة الدبلوماسية لأنها أثارت أزمة دبلوماسية عارمة كادت تطيح بثوابت السياسة الخارجية السويدية ومشاريع العمل الصناعي والتجاري المشترك مع مجموعة الدول العربية ودول الخليج والسعودية بشكل خاص، وتابع يقول: «ثم جاء موقف الحكومة في إيقاف اتفاقية التعاون مع السعودية من طرف واحد وهو الأمر الذي زاد من تأزم العلاقات بين بلدينا».
لم تمض هذه الخطوات بشكل سلس، بل جوبهت بحملات مضادة قاسية، أكبرها من «مجموعة الثلاثين» والتي تعرف اختصارا باسم «كيميفيك» والمكونة من أكبر 31 شركة سويدية كبرى، حيث أصدرت بيانا على لسان «كرستينا ستينبيرك» عارضت فيه تصريحات الوزيرة فالستروم ودعت إلى أهمية احترام الاتفاقات والمواثيق التي تضمن العلاقات المشتركة مع السعودية. غير أن الحكومة السويدية تصرفت بطريقة تفتقد إلى التوازن حين ألغت الاتفاقية من جانب واحد يوم 10 مارس (آذار) 2015 مما حدا بتجمع الشركات الثلاثين إلى إصدار بيان يشير إلى خطأ الحكومة السويدية ومعارضة هذا الإجراء الذي يعرض مصالح السويد الكبرى إلى الخطر.
كانت السعودية قد وقعت في أبريل (نيسان) من عام 2005 اتفاقية ثنائية مع مملكة السويد للتعاون الفني والصناعي والتجاري أيام رئيس الوزراء الأسبق «يوران بيرشون» في شهر أبريل من نفس العام، ثم دخلت حيز التنفيذ في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته. وتضم الاتفاقية فصولا وأبوابا تنظم العمل المشترك بين البلدين الذي اعتبرت السعودية إثر تفعيله ثالث أفضل المتعاملين تجاريا مع السويد في إطار الاتفاقية.
وكانت الاتفاقية قد كرست في ديباجتها «أهمية العمل الثنائي بين السويد والسعودية من أجل إنماء فرص الإنتاج وتطوير الوسائل المستخدمة في التنمية والبناء» كما كشفت بعض الوثائق الصحافية عام 2008.
وكان الكاتبان بو غوران ودانيال أومان «قد كشفا عام 2008 بنودا مختلفة من الاتفاقية وأشارا إلى محاولات حكومة المحافظين يومذاك برئاسة (فريدريك راينفيلد) تعويق تنفيذ بعض بنود الاتفاقية والحد من فرص تنفيذ الجانب العسكري المتعلق بالتصنيع من تلك الاتفاقية مع الرياض».

* جذور الأزمة
* تعود جذور الأزمة إلى مشكلة تجديد اتفاقية التعاون المشترك التي وقعها البلدان لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد، وتنظم التبادل التجاري والصناعي واستثمارات الشركات السويدية وتوريداتها لمشاريع التنمية السعودية. وكانت السعودية قد أبلغت الجانب السويدي عن رغبتها بمراجعة بنود الاتفاقية أكثر من مرة قبل أن تجددها حكومة المحافظين عام 2010 وأصبحت نافذة لغاية عام 2015.
وتضم الاتفاقية بنودا تخص الصناعات العسكرية إلى جانب التنصيص على مدى واسع من الميادين المدنية والفنية والتكنولوجية للاستثمارات والخبرات السويدية. وقد بلغ حجم الواردات السويدية جراء ذلك خلال السنوات العشر المنصرمة، أكثر من 13 مليار دولار سنويا، فضلا عن عمل المئات من المتخصصين والفنيين السويديين في مشاريع الإنماء والسكن والصناعة والصحة والتعليم وغيرها من ميادين العمل في السعودية. وبلغت المشتريات وفق الاتفاقية عام 2014 نحو 37 مليون يورو بحيث احتلت السعودية ثالث أكبر مشتر من السويد، وكان ماركوس لنبيري المتحدث باسم شركة ساب، قد وصف ذلك بأنه تعبير عن مستوى الثقة التي تحظى بها الصناعة السويدية لدى السعودية كدولة مهمة من دول الشرق الأوسط.
وفي أوائل مارس 2015 أبلغت الإدارة السعودية المختصة الحكومة السويدية عبر الوسائل الدبلوماسية أن للسعودية وجهات نظر فنية على بنود الاتفاقية التي ستنتهي مدتها في مايو (أيار) 2015 وطلبت إعادة النظر فيها أو إلغاءها. وإثر ذلك صرح رئيس الوزراء السويدي «ستيفان لوفين» في الرد على أسئلة وسائل الإعلام أنه هو والمختصون سيعكفون على مراجعة بنود الاتفاقية دون تأثيرات للرأي العام أو التجاذبات السياسية حرصا على مصالح السويد العليا.
ولكن من دون أية تمهيدات وقفت وزيرة الخارجية السويدية «مارغوت فالستروم» في جلسة مجلس النواب السويدي يوم 6 مارس وطالبت بإلغاء الاتفاقية ووجهت انتقادات للسعودية وألصقت التهم دون أي اعتبار لقواعد الدبلوماسية، ظنا منها أنها تحقق رصيدا لدى الرأي العام السويدي الذي كانت تشحنه وسائل إعلام وأحزاب ومجموعات عنصرية ضاغطة إلى جانب حزب البيئة الحليف في إدارة الحكومة الذي نادى بإلغاء الاتفاقية دون أي اعتبار سياسي أو دبلوماسي.
وقد واجهت المجموعة العربية في الجامعة العربية الحكومة السويدية ووزارة الخارجية باعتراضات شديدة على تصريحات الوزيرة وأبلغ الكثير من السفراء المعتمدين لدى السويد وزارة الخارجية عدم رضا البلدان العربية والإسلامية وقد تجاوزت الاعتراضات مدى جاوز المنظمات الإقليمية إلى دول حليفة وصديقة وقفت مع السعودية ضد اختراق قواعد الدبلوماسية بحجج حرية التعبير ضد السعودية.
وقد فوجئت الوزيرة خلال استضافتها في اجتماعات الجامعة العربية في القاهرة أن خطابها المقرر أمام مجلس الأمناء قد ألغي بضغط الدول الأعضاء والاكتفاء بحضورها ضيفة على الاجتماع. لكن التداعيات تجاوزت ذلك حين استدعت السعودية سفيرها المعتمد في السويد للتباحث ثم تلتها دولة الإمارات العربية، كما توافد سفراء الدول العربية المعتمدون على مقر الخارجية السويدية لإبلاغ اعتراضاتها على التصريحات غير المسؤولة التي أطلقتها الوزيرة المذكورة. والتقطت المعارضة السويدية القفاز وطالبت بسحب الثقة عن الحكومة، غير أنها فشلت في إدراك النصاب في البرلمان. وتطالب جهات الوزيرة السويدية الاعتذار، أو الاستقالة للخروج من الأزمة.
وحين ألغت السعودية عقب ذلك منح تأشيرات الدخول لرجال الأعمال والصناعيين والفنيين السويديين، قامت الدنيا عند مجتمع رجال الأعمال والمال السويديين، واتضحت تأثيرات الأزمة على الاقتصاد السويدي والشركات الإنتاجية والاستثمارية في السويد حتى بلغ ذلك الشركات المملوكة من قبل الأجانب المقيمين في السويد بصفتها شركات تنفيذية ميدانيا وأصبح مجموع الواردات التي سيحرم منها الاقتصاد السويدي حينئذ قرابة 15 مليار دولار سنويا فضلا عن تأثر أسواق الأسهم والمال داخل السويد بتلك النتائج السلبية الكبيرة لأخطاء الارتجال السياسي وكسر قواعد التعامل الدبلوماسي بين الشركاء.
ولم تتوقف تداعيات الأزمة، بل اتسعت لتشمل المفوضية الدائمة للاتحاد الأوروبي التي حاولت الاتصال بالجامعة العربية للتدخل لدى السعودية لتليين موقفها إزاء الأزمة. كما حاولت دول صديقة التواصل مع الجهات الدبلوماسية لتوفير جو من الحوار الثنائي. وشكلت 70 شركة سويدية مجموعة اتصال بالسعودية كما أعلنت الحكومة السويدية عن اجتماعات أزمة متعددة للوصول إلى حلول ممكنة.
واستدعت قوى المعارضة في البرلمانات وزيرة الخارجية مارغوت فالستروم إلى جلسة تحقيق مفتوحة حول جذور الأزمة ووجهت للوزيرة انتقادات حادة مما حدا بالوزيرة إلى محاولة تليين المواجهة البرلمانية والأزمة الدبلوماسية بالحديث عن استمرار التعاون الإيجابي مع السعودية كونها من أكبر الدول المانحة والدول التي تحارب العنف والإرهاب.

* حقائق
* يعطي المراقبون صورة واقعية لحاضر المجتمع والسياسة في السويد، وهو واقع يشكل حاضنة اجتماعية وسيكولوجية لحركة الفكر والسياسة، ويصفون المجتمع السويدي بشكل عام، بأنه مجتمع انطوائي، وربما هو مجتمع يميل إلى العزلة والفردية إلى حد ما. وقد تكرست تلك الصفة لزمن طويل بفعل الطبيعة الإسكندنافية الباردة والصعبة والمعزولة قرب القطب الشمالي وبفعل الجغرافيا القصية التي حفرت في الشخصية الإسكندنافية عميقا لأكثر من ألف عام وليس بفعل اختيار واع عام.
وتبدو الشخصية السويدية عموما غير واضحة نسبيا خلال عملية التواصل الاجتماعي مع الآخر، إما بفعل الخجل أو التردد في الوقوف أمام ثقافات أخرى كما يقولون.
ويؤكد المراقبون أن تلك العزلة الصعبة قد حولت المزاج السويدي إلى مزاج متقلب يميل إلى التغيير والتنقل والبحث عن التجديد للخروج من العزلة إلى فضاءات أخرى. وقد تجلى ذلك ليس فقط في ميل الشخصية السويدية لتغيير أماكن العمل أو عناوين السكن والهوايات ووجهات السفر في الإجازات الكثيرة التي يتمتع بها السويدي بل في الميل إلى تغيير الوجوه والصداقات والحكومات أيضا.
ولذلك كان واضحا في انتخابات سبتمبر (أيلول) عام 2014 أن الكفة تميل إلى انتخاب تحالف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب البيئة وهو ما اصطلح عليه تحالف الخضر والحمر، بعد 8 سنوات من حكم تحالف يمين الوسط برئاسة حزب المحافظين التي امتلأت بكثير من المواجهات السياسية والفضائح والإشكالات.
وبالكاد أسفرت نتائج الانتخابات السويدية عن حكومة ذات أقلية برلمانية تتكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب البيئة، ولكنها حملت معها مفاجأة غير سارة إذ تقدم الحزب العنصري المضاد للعرب والأجانب والديانات «ديمقراطيو السويد» في الانتخابات واستطاع الحصول على 13 في المائة من مقاعد البرلمان إلى جانب الأغلبية المعارضة لتحالف يمين الوسط وهو أمر أخل بحلم الحمر والخضر في إدارة البلاد كما يشاءون.
ومنذ اليوم الأول حاول الحزب العنصري إسقاط الحكومة في البرلمان وتصدى للتصويت للميزانية التي قدمتها حكومة الحمر والخضر وأسقطها وكاد ذلك أن يعصف بالتحالف الحاكم لولا تدخل تحالف يمين الوسط التي فاز مشروع ميزانيته البديلة أو ميزانية الظل بالتصويت في البرلمان، واتفق التحالف اليميني مع الحمر والخضر، تحاشيا لفوضى سياسية تتطلب انتخابات تكميلية، قد تهدد بفوز ساحق للتيار العنصري وهكذا أصبحت حكومة الأقلية الفائزة حكومة موظفين من رئيس الوزراء ستيفان لوفين ورهط الوزراء من تيار اليسار الاشتراكي وعشاق البيئة.
وتأتي الأزمة الدبلوماسية والاقتصادية التي فجرتها تصريحات وزيرة الخارجية ضد القضاء في السعودية لترسم صورة عن هشاشة في النظر إلى الحقائق الدولية الكبرى ونقص في اللياقة الأدبية رغم دعاوى الحقوق وحرية التعبير، ولتعطي حكومة الأقلية البرلمانية درسا في التروي في تقييم علاقات البلدان الثنائية وبخاصة مع مجموعات الدول المؤثرة والسعودية كدولة محورية في الشرق الأوسط والعالم.
وقد كتب محللون من بينهم المحلل السياسي المعروف «ستيفان هايمر ستون» مقالة مهمة بعنوان «وزيرة خارجية السويد بحاجة إلى وسائل امتصاص الصدمات» قال فيها: «إن الدبلوماسية السويدية تعرضت إلى واحدة من أخطر الأزمات غير المسبوقة حين وقفت وزيرة الخارجية أمام وسائل الإعلام لتلقي بيان يشبه خطب الهواة الذين يفتقدون إلى قواعد الدبلوماسية التي تتميز بانتقائية اللغة وحيادية الخطاب لتعرض علاقات بلادنا مع السعودية إلى أزمة لسنا بحاجة إليها.. ويبدو أنها سوف تكلفنا الكثير». ويبدو أن القصر الملكي السويدي هو الملاذ الأخير الذي لجأت إليه الحكومة، لتلافي تلك الأزمة الدبلوماسية والاقتصادية الكبيرة مع السعودية، من خلال ما يتمتع به الملك كارل غوستاف السادس عشر، بحسب بيان القصر الملكي السويدي، من صلات تاريخية مع القيادة السعودية والتي تعبر عن مستوى رفيع من الترابط والعمل الثنائي المشترك مع الرياض.. لعل وعسى أن تجد طوق نجاة قبل أن تغرق في بحر مصير مجهول لا تحمد عقباه.



بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.