طارق الترك أول محترف رقص عامودي عربي: أشعر بالحرية

وصل إلى ألمانيا بـ {قوارب الموت}... ولا آفاق لأحلامه

«سبايدرمان العرب» طارق الترك
«سبايدرمان العرب» طارق الترك
TT

طارق الترك أول محترف رقص عامودي عربي: أشعر بالحرية

«سبايدرمان العرب» طارق الترك
«سبايدرمان العرب» طارق الترك

على ارتفاع 150 متراً عن سطح برلين، يفتح طارق الترك، أول محترف رقص عامودي عربي، قلبه للكون الواسع. ناس في شوارع المدينة المزدحمة، يسيرون في كل اتجاه. يطير الهواء شعر محاورته سماح الطويل، مقدمة برنامج «عندي حكاية» عبر شاشة «دوتشيه فيله» الألمانية. تغريه المرتفعات وتمنح العمر معنى. شاب من فلسطين، «ابن غزة» كما يحب تسميته، يصل إلى أوروبا بعد 9 أيام أمضاها في قوارب الموت. يأتي مُحملاً ببساطة الأحلام: «تأمين الحياة ومساعدة الأهل». ثم يحلق كأنه وجد نفسه. «أنا الآن أشعر بجسدي. بعضلاتي. بأنفاسي. أشعر بالحرية».
والداه لاعبا جمباز محترفان، فتخيل النشأة: «نحن رياضيون بالوراثة. أمارس الجمباز منذ الطفولة، فظننتُ أن العالم الخارجي بأسره يحترف هوايتي». في ألمانيا، شعر بمساحته. أصبح له مكان ليطير ويحلق. وليرقص بين السماء والأرض. «شعور خاص بالسعادة»، تلمع عيناه. تسأله محاورته: «ترى، بمَ تفكر وأنت في العلو؟». يفكر في انطلاق الجسد نحو اللاحدود، وفي فسحة الروح ومساحاتها المطلقة. ينتقل الفضاء ليصبح مسرحه. بلا جدران ولا اختناق. يحدق في الانشراح ويقول: «المسافات الشاهقة تمنحني نظرة مختلفة». الحياة هنا، عند هذا الاختلاف.
يجمع الفنين: المسرح مع الرقص العامودي: «أتميز بهما». ماذا عن الخوف؟ ألا يلدغك كأمثالنا من البشر؟ ألا يقوضك؟ ويقيدك؟ يخبرها عن تلاشي المخاوف والتغلب على ما يقص أجنحته. الخوف حالة غريزية تتعلق بالدواخل والمسكوت عنه. وبالتربية والممنوع، لكن طارق الترك تغلب على مخاوفه بتكثيف التدريب وبصلابة الإرادة واللحاق بالطموح في كل مكان. وإن بمراكب الموت. وإن فر المهربون وتركوا البشر لأقدارهم. وإن هجم دوار البحر وجاعت الأمواج وقل الطعام وهرب النوم من العيون الخائفة.
الأرض في الأسفل والجسد حر في الأعلى يعاين المسافات. هنا المرء كتلة أدرينالين طليقة. تبلغ الذروة وتنفلش. تتقد وتُطير الشرر. لم يُخفِ خوفه في البداية: «شعرتُ بنهاية الحياة». ثم روضه وانتصر عليه. كيف؟ «بالثقة بالنفس، بالإمكانات، وبالفريق. أركز على فني وعملي. وعلى جسدي وتحركاتي. لم أعد أركز على الخوف». ينساه ويقفز فوقه، يصبح الأقوى.
يطير لنحو 10 أو 12 متراً، ويرقص على طول هذا الامتداد. يخاطب الجمهور: قد يُؤخذ بالسرعة، فيظن المسافة قليلة. هي في الحقيقة طويلة: «تمنحني عيش الحرية». تتطلع سماح الطويل نحو الشاب الحالم، وتسأله عن أجمل العروض. «لقد كان العرض الأول. تجربة لا تُنسى». يخبرها أنه سمع شهقات الناس من شدة الإعجاب والدهشة. ويتحدثان عن شرارة الانطلاق والتحليق للمرة الأولى. وعن ألمانيا التي أتاحت الفرص وفتحت الآفاق. هناك على ارتفاع 150 متراً، حيث المشهد مختلف والهواء يغمر الإنسان كأنه احتواء، والعين تسرح كالطفولة في خطواتها الأولى من دون دراية بالهموم والآلام.
عن ألمانيا، يقول: «هذا هو مكاني». شاب عربي يحلم نيابة عن الشباب المقتول ببلاده. من حرب إلى حرب، ومن غزة إلى سوريا التي يسميها بلده الثاني. الشباب الذي يلاحقه الإحساس بكونه ضحية، وبالمظلومية والاضطهاد ومصادرة الأحلام. الوصول ليس مستحيلاً. تكفي المحاولات، مرة وأكثر من مرة. ويكفي الإصرار والتمسك بالأهداف لبلوغها.
بدأ التحليق على ارتفاع 30 متراً، «والتمرينات خطوة بخطوة». شكل أعضاء الفريق عيناً إشرافية أحدهم على الآخر. يتذكر اليوم، وعلى ارتفاع نحو أربعة أضعاف من نقطة البداية، صعوبة المرة الأولى والخوف الكبير. شغل بال الأهل: «تليفونات أول بأول». وبعدها استعد وتمكن، وانطلق بين المسارح والأماكن. «سبايدرمان العرب»، لقبه.
درس الأدب الإنجليزي في دمشق، ثم التحق بواحدة من أشهر فرقها الاستعراضية: فرقة «إنانا». يخبر محاورته عن السفرة الأولى معها إلى مسقط والعرض في عُمان: «شعرتُ أن ثمة ما يتحقق. كنت أفقد شيئاً فوجدته». ووجد أيضاً الحب. فالناس صفقت طويلاً لعرض قدمه في برنامج «أرابس غوت تالنت». يروي انتقاله من ألمانيا إلى بيروت في عام 2019، حيث الشاشة والأضواء والجمهور والحكام: «كان تحدياً. لم تستطع الفرقة الالتحاق بالعرض. كنتُ أمام محنة. أردتُ تأمين فرقة بديلة بوقت قياسي. تحديتُ نفسي ووصلت. الطموح يتحقق حين نؤمن به. أحياناً، لا نعرف كيف، لكن لا مفر من اللحاق به».
اعتاد معاندة الظروف، منذ النشأة في غزة حين لم يجد معدات كافية لإتمام التمرينات. ومنذ أن صعب الاحتلال تنقله وسفره. اليأس ممنوع: «من اللامكان، أوجد مكاناً ومن اللامعدات، أصنع معدات». أين هو اليوم؟ في ألمانيا، وقد تنقل بين مسارحها، يمزج الرقص بالأكروبات بابتكار.
أسس فرقة «الراقصون المحلقون» في عام 2016، ليبلغ فنه العالم. عروض قدمها في ميونيخ وأوطان العرب، والحلم يكبر في داخله. يذكر الراحلة ريم البنا التي ألهمته اسم فرقته. شجعته مع كل فيديو ينشره عبر «فيسبوك». حين امتلأ المركب بمياه البحر وأمضى والراكبون ساعات ينقذون أرواحهم، أراد أمنية واحدة: «أن أسمع صوت أمي». لا بد أنها فخورة به. نجاح الأبناء عوضُ الأهل.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».