أصدرت أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا المصرية، بالاشتراك مع المركز القومي للبحوث، أول موسوعة لتوثيق الغذاء المصري، بهدف رصد تاريخ الأطعمة التراثية في مصر، وتوثيق العناصر الغذائية بها، وطرق تحضيرها، إضافة إلى إبراز مخاطر اندثار هذه الثقافات الغذائية.
الموسوعة تأخذ القارئ إلى قلب البيت المصري وتدعوه على مائدة دسمة من الأصالة والثقافة والتاريخ والطعام بأنواعه المتعددة، فعبر أكثر من 550 صفحة يتزود القارئ بمادة علمية تتميز بسرد مشوق لقصص نادرة عن المطبخ المصري، التي تكتسب أهميتها من كونها حكايات تروى لأول مرة بشكل أكاديمي كنتاج لمجهود بحثي كبير، يغوص في التراث ويفتش في الملفات المنسية، وينتقل من المادة المكتوبة إلى مئات الصور الميدانية الخاصة بإعداد الطعام تفصيلياً على الطريقة المصرية إلى جانب عشرات الخرائط والأشكال الجغرافية.
كما تتضمن موسوعة «الأغذية المصرية الشعبية» في مجلدها الأول الذي جاء تحت عنوان «الخبز والمخبوزات» عرضاً لمجموعة كبيرة من صور مجسمات الخبز المصرية في المتاحف العالمية.
الدكتور مجدي السيد، الرئيس الأسبق لشعبة الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث وعضو اللجنة الوطنية للتغذية، يقول لـ«الشرق الأوسط»، «تجاوزت الدول النظر إلى الغذاء كأداة للوصول إلى قوة الجسد ودعمه عبر وجبة متكاملة متوازنة إلى ما هو أكثر شمولاً من ذلك المفهوم الضيق، إذ أصبح يمثل نوعاً من النفوذ المادي والهيمنة الرأسمالية عبر استغلال أطباقها الشهيرة في الرواج الثقافي والسياحي للبلد، استناداً إلى أن الغذاء جزء أصيل من ثقافة الشعوب، إضافة إلى أن أول ما يسترعي انتباه أي سائح هو مطاعم مقصده السياحي، وما تقدمه من أكلات مميزة بنكهات مختلفة، حتى أصبح ذلك مدعاة للتفاخر بين الدول وساحة لمعارك طاحنة بين البلاد حول أصل ونشأة أكلة ما».
لكن السيد يرى أن التراث الغذائي المصري مهدد بالاندثار، ويقول: «في الوقت الذي قامت الحضارة الفرعونية بتوثيق كل ما يخص الغذاء على جدران المعابد والمقابر صانعة بذلك إرثاً ثقافياً عظيماً، فإن الإنسان المصري الحديث أهمل هذا التوثيق، فيما يمثل تهديداً بطمس الهوية الوطنية، لأن التأريخ للأكلات الشعبية المتوارثة عبر العصور لا يقتصر على التأريخ للبعد الغذائي، إنما يتضمن أيضاً توثيقاً للأبعاد السياسية والدينية والجغرافية والاقتصادية التي مرت بها البلاد كذلك، كما أنه يشكل جانباً محورياً من حضارتنا الحديثة التي ينبغي علينا كعلماء متخصصين القيام بدورنا في الحفاظ على طابعها المميز وتراثها العريق».
«خبز بعبق التاريخ» تنطبق هذه الجملة تماماً على الخبز المصري، لا سيما خبز الصعيد تحديداً، فيكاد القارئ يتنفس رحيق أصالة آلاف السنين في صورة «عيش» طازج لذيذ خرج للتو من الفرن البلدي على يد سيدة مصرية في منزلها الدافئ بحميمية ناسه تماماً كحرارة الفرن، من خلال صفحات الموسوعة نتعرف على حكاية «العيش الشمسي»، وهو من أشهر أنواع الخبز في الصعيد، توارث الأهالي صناعته من أجدادهم قدماء المصريين، حيث وجدت الطريقة على جدران المعابد والمقابر، كما يتعرف القارئ أيضاً على «البتاو» الصعيدي، وهو يشبه «الشمسي» في طريقة إعداده، ويختلف عنه بأنه مصنوع إما من دقيق القيضي، وهو الذرة الرفيعة أو الشامية، وحجمه في حجم كف اليد أو أصغر قليلاً. وترتبط أصل تسميته بالحضارة الفرعونية، وفي الجنوب نجد أنواعاً أخرى من الخبز منها عيش «الفتى الأسواني» و«الشدى»، ولا يقل روعة في مذاقه وأصالته عيش «الملتوت النوبي»، وعيش «الدشيشة»، وفطائر «الدماسي» التي تُخبز في قرى سوهاج.
ويبرز مجلد «الخبز والمخبوزات» كذلك بعض أنواع الخبز البدوي، التي من بينها «الفراشيح» و«القابوري» و«اللبة» و«الرقاق» وخبز «الصاج»، الذي يصنع من دقيق القمح وهو من شمال سيناء، ومن أنواع الخبز المصري أيضاً خبز «الإنجيل»، وهو خبز مصنوع من التمر والدقيق يصنع في المنزل، ويقدم في حفلات الزفاف، لقيمته العالية في سيوة، وخبز «المطبق» الذي يشبه الفطير المشلتت المتعارف عليه، حيث يتم رش الكثير من السكر عليه، ويصنع في مناطق الصعيد والدلتا. ويأخذنا الخبز إلى حكايات أخرى من الأصالة مثل «الصيادي» في المنصورة، و«المجردق» في مرسى مطروح.
وفي نهاية المجلد، يعثر القارئ على مفاجأة أخرى، هي صفحات مصورة عن الأدوات التي تستخدم في مراحل تصنيع الخبز والمخبوزات، إلى جانب خريطة مصورة، مع ربط أنواع المخبوزات بجغرافيتها، ويُعد ذلك كله بداية لجهد بحثي ساهم فيه 12 باحثاً يتقدمهم د. محمود صقر رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجي، وهو جهد لن يتوقف حتى يتم الانتهاء من توثيق كافة جوانب التراث الغذائي المصري وفق د. نهال سامح رمضان عضو لجنة الثقافة العلمية بالمركز القومي للبحوث، التي بررت صدور الموسوعة باللغة الإنجليزية، قائلة: «حرصنا على ذلك حتى تصبح المعلومات والأفكار الواردة بها كفيلة بمخاطبة النشر والتداول المعلوماتي الدولي، وفي الوقت نفسه قدمنا ملخصاً وافياً باللغة العربية».
فيما يقدم د. عاطف معتمد، الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة خلاصة أسفاره الميدانية وما سجله من ملاحظات عن الجوانب الثقافية شارحاً بشكل مبسط حقيقة علمية مفادها على حد وصفه لـ«الشرق الأوسط»: «عمق تأثير المقومات الطبيعية المختلفة على ثقافات الطعام، وأنواعه، والعادات الغذائية المختلفة، باختصار كيف يمكن أن يصطبغ الغذاء بالهوية المكانية».
موسوعة «الأغذية الشعبية»... توثيق «أكاديمي» للأطعمة المصرية
المجلد الأول يُبرز أنواع الخبز الصعيدي والبدوي والريفي
موسوعة «الأغذية الشعبية»... توثيق «أكاديمي» للأطعمة المصرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة