صديق أم عدو... أم مجرد «علاقة براغماتية»؟

عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
TT

صديق أم عدو... أم مجرد «علاقة براغماتية»؟

عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)

لطالما كان للعلاقات التركية - الروسية عمق تاريخي يتسم في الغالب بالصراع، فقد خاضت الإمبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية عشرات الحروب، وكانتا خلال الحرب العالمية الأولى على طرفي نقيض، وقد تمتعت الاثنتان بعلاقات تتراوح بين المقبولة والجيدة خلال حرب الاستقلال التركية. ولكن حتى في ذلك الحين، لم تكن الأمور جيدة كما كانت تبدو.
فبعد الحرب العالمية الثانية، طالب السوفيات ببعض الأراضي التركية في شرق الأناضول، وشككوا في سيادة البلاد على المضائق التركية، فيما انضمت أنقرة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1952، وظلت في الجناح الجنوبي للحلف طوال فترة الحرب الباردة. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، دخلت تركيا وروسيا في منافسة على ما يحب بعضهم تسميته «اللعبة الجديدة الكبرى من أجل القوقاز وآسيا الوسطى».
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اضطر تتار القرم والشركس والنوغيين (مجموعة عرقية تركية تعيش في منطقة شمال القوقاز)، وغيرهم كثير من شعوب الإمبراطورية العثمانية المتقلصة، إلى الفرار من ديار أجدادهم بسبب التقدم الروسي. وهؤلاء الأشخاص الذين وجدوا في الأناضول مستقراً جديداً لهم كانوا أيضاً عاملاً في تشكيل العلاقات التركية - الروسية.
وبالنظر لهذه الخلفية، وفي إطار البيئة والتطورات الاستراتيجية الجديدة على الساحة الدولية، اكتسبت العلاقات التركية - الروسية زخماً جديداً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
- بوتين وإردوغان
ينظر كثيرون إلى الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان والروسي فلاديمير بوتين على أنهما متشابهان في طريقتهما في ممارسة السياسة بشكل عام. صحيح أنهما قد لا يكونان أفضل صديقين (الصداقة التي تحددها المثل العليا وأنماط الحياة المشتركة)، لكنهما أقاما شكلاً من أشكال علاقات العمل التي تقوم على أساس المصلحة والمنفعة المتبادلة، وهي العلاقة التي تؤدي دوراً رئيسياً، بل مركزياً، في إدارة العلاقات التركية - الروسية في الوقت الحالي.
وتبدو العلاقات الثنائية الآن بين البلدين نشطة للغاية، إذ يبلغ حجم التجارة بينهما 25 مليار دولار أميركي، في المتوسط، حيث بلغ في وقت ما نحو 30 مليار دولار أميركي. وعلى الرغم من انخفاض حصتها، لا تزال روسيا هي المورِّد الرئيسي للطاقة إلى تركيا، حيث توفر لها 34 في المائة من الغاز الطبيعي، و11 في المائة من النفط، فيما تتمثل الصادرات التركية إلى روسيا بشكل أساسي في المنتجات الزراعية والآلات والمركبات والمنسوجات.
وبشكل عام، فإن نحو 80 في المائة من حجم التجارة الثنائية يصب في صالح روسيا، ولكن تركيا تعوض هذا النقص في مجالات الخدمات والبناء، حيث لا تزال أنقرة هي الوجهة الرئيسية للروس الذين يعشقون منتجعاتها ذات الأسعار المعتدلة الشاملة للخدمات كافة، حيث وصل عدد السياح الروس إلى تركيا عام 2019 إلى 7 ملايين سائح. أما بالنسبة لقطاع البناء، فقد أنجزت تركيا حتى الآن نحو 1980 مشروعاً في موسكو، بقيمة إجمالية تبلغ نحو 75 مليار دولار أميركي.
وتُعد تركيا، أيضاً، بمثابة ناقل للغاز الطبيعي الروسي. وأحدث مشروع مشترك في هذه المنطقة هو مشروع «ترك ستريم» الذي تم افتتاحه رسمياً في عام 2020، والذي يربط روسيا وتركيا بخطين من خطوط الأنابيب البحرية بطول 930 كيلومتراً تحت البحر الأسود، ويجلب أحدهما الغاز الطبيعي إلى تركيا، فيما يعد الآخر مخصصاً للغاز الموجه إلى أوروبا.
وهناك كذلك محطة «أكويو» للطاقة النووية التي تقدر تكلفتها الإجمالية بـ20 مليار دولار أميركي، والتي تمثل مجال تعاون ذا قيمة استراتيجية أخرى بين البلدين. ومن المقرر أن يبدأ تشغيل مفاعلها الأول في عام 2023.
وعلى المسرح العالمي، تستمر روسيا وتركيا في مواجهة إحداهما الأخرى في أماكن مختلفة، مثل سوريا وأوكرانيا وليبيا وجنوب القوقاز، حيث تكونان في الغالب في جانبين متعارضين، كما أنهما في بعض الأحيان تؤذيان إحداهما الأخرى، ولكنهما نجحتا -بشكل عام- في إنشاء شكل من أشكال الحوار والتعاون في كل المسارح التي تتضمن وجودهما فيها معاً.
- صدع في إدلب
وتعد روسيا طرفاً فاعلاً رئيسياً في سوريا، كما أنها ناشطة عسكرياً في المعركة هناك. وقد مهدت عملية آستانة الطريق للتعاون بين أنقرة وموسكو، ولكن احتمال حدوث صدع لا يزال موجوداً إلى حد كبير، لا سيما في إدلب. فعلى الرغم من اتفاق عام 2018، استولى النظام السوري وروسيا على نصف المحافظة. وتضم المعارضة الموجودة في إدلب التي يتم استهدافها بشكل متكرر من قبل النظام آلاف المسلحين من «هيئة تحرير الشام» وغيرها من الجماعات المتطرفة في الغالب.
وفي مؤتمر صحافي عقده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو، يوم 9 سبتمبر (أيلول)، مع وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد، قال لافروف: «يحتاج الزملاء الأتراك إلى تنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها رئيسا روسيا وتركيا في سبتمبر (أيلول) 2018، وتنص هذه الاتفاقات على فصل المعارضة الطبيعية المعقولة عن الإرهابيين، وبشكل أساسي عن (هيئة تحرير الشام). صحيح أن هذا العمل جارٍ، ولكنه للأسف لم يكتمل بعد». وفي سياق التطورات الأخيرة في درعا، قال لافروف: «بالنسبة لدرعا، وعلى مستوى أوسع في سوريا، فإنه لا يجب أن تسيطر أي فصائل مسلحة غير الجيش السوري على أي أرض».
ويمكن اعتبار ما يقوله لافروف بمثابة رسالة لما يمكن توقعه في المستقبل. فما سيحدث لإدلب، وسكانها البالغ عددهم 3.4 مليون نسمة، في حال شن حملة عسكرية شاملة من قبل نظام الأسد والروس، يشير إلى احتمال المواجهة. وفي هذا الصدد، فإن الهجوم الذي تم على دورية تركية في إدلب، وأدى لمقتل جنديين تركيين، وإصابة 3 آخرين، يبدو أنه جاء في وقت حرج. فقد كانت حادثة 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، عندما أسقطت تركيا طائرة عسكرية روسية من طراز (SU-24) في سوريا، بمثابة مثال واضح على الكيفية التي يمكن أن تتحول بها الأمور بين البلدين، إذ أوقفت روسيا كل خدمات الشركات التركية تقريباً في أراضيها، فضلاً عن منع زيارة الروس لتركيا، كما تأثرت الأنشطة العسكرية التركية في سوريا بشكل خطير، وعززت روسيا وجودها في دمشق بمعدات عسكرية متطورة، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي. وقد تطلب إصلاح العلاقات كثيرًا من الجهد، واستغرق الأمر نحو عام.
وفي ليبيا، واجهت تركيا وروسيا إحداهما الأخرى بعناصر قتالية مختلفة. فقد أدى التدخل التركي، بطلب من حكومة الوفاق الوطني الليبية، إلى تغيير مسار الحرب. صحيح أن روسيا والدول المؤيدة لموقفها في ليبيا لم ينتهِ بهم الأمر إلى السيطرة على الأوضاع، ولكن لا يبدو أنهم غير راضين عن مجريات الأحداث، على الأقل في الوقت الحالي.
- صدام في القوقاز
وفي عام 2020، تمكنت أذربيجان، بدعم من تركيا، من استرجاع أراضيها الواقعة تحت الاحتلال الأرميني. وحينها، استطاعت أنقرة وضع بصماتها في القوقاز، لتثبت أنها قوة لها أهميتها هناك، كما عززت تحالفها مع أذربيجان، وسجلت نقاطاً عدة لدى حلفائها في القوقاز وآسيا الوسطى. ومن جانب روسيا، فإن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الذي لم يكن صديقاً لموسكو لم يتعلم الدرس. فقد تمكنت الأخيرة من هندسة قرار وقف إطلاق النار. وبموجب شروط الاتفاق، استرجعت أذربيجان أراضيها لأول مرة منذ عام 1990. وعلى أي حال، فقد لعبت كل من تركيا وروسيا دوراً جيداً في منع الأمور من اتخاذ شكل مختلف، والتحول إلى صراع فيما بينهما في هذه الساحة.
أما في أوكرانيا، فإن تركيا وروسيا تقفان على طرفي نقيض، وذلك لأن موقف أنقرة المعلن صراحة هو أنها لا تعترف بضم شبه جزيرة القرم. ولا يبدو أن روسيا تمانع في ذلك، ما دام أن المواقف السياسية لم تتحول إلى شكل من أشكال العمل الفعلي. ولكن الروس يتابعون ببعض الاستياء والقلق التعاون الدفاعي الأخير بين تركيا وأوكرانيا، لا سيما نقل الطائرات التركية المقاتلة من دون طيار.
وقد تصبح أفغانستان ملفاً آخر إما للتعاون أو المواجهة بين البلدين، وذلك حسب كيفية تطور الأمور هناك. والأسباب ليست واضحة تماماً للجميع، لكن يبدو أن تركيا حريصة على لعب دور في كابول الجديدة، فيما تنظر روسيا إلى أفغانستان -بشكل أساسي- من وجهة نظر أمنية، مع اهتمام خاص بدول آسيا الوسطى. فهذه المنطقة مهمة لروسيا، من حيث قيمتها الاستراتيجية، ولكونها الجوار الخارجي القريب منها، كما أنها مهمة لمنظمة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو.
وهناك قضية أخرى ذات أهمية خاصة، وذلك من زاوية حلف الأطلسي (الناتو)، وهي البحر الأسود واتفاقية مونترو (اتفاقية عقدت في مونترو في 1936، منحت تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين)، إذ لا تريد روسيا وجود سفن حلف شمال الأطلسي في البحر الأسود، وتصر على الحفاظ على الاتفاقية التي تنظم مرور السفن الحربية عبر المضيق التركي، وتحد من وجودها. وقد أثار مشروع قناة إسطنبول الذي تم تسويقه سياسياً من قبل الرئيس التركي بعض التساؤلات حول ما إذا كان سيتعين تغيير الاتفاقية أم لا. لكن لا يبدو أن موقف تركيا يتعارض مع موقف روسيا في هذه القضية.
- «إس ـ 400»
وكان أهم تطور في العلاقات الثنائية بين أنقرة وموسكو هو التداعيات بعيدة المدى لاستحواذ تركيا على أنظمة الدفاع الجوي «إس-400» من روسيا، حيث ردت الولايات المتحدة وبعض الحلفاء الآخرين في «الناتو» بقوة على الأمر، حتى ذهبوا إلى حد فرض عقوبات ينص عليها قانون مكافحة خصوم أميركا على تركيا، فيما تواصل كثير من الدول الغربية تقديم قضية «إس-400» بصفتها دليلاً آخر على ابتعاد تركيا عن «الناتو» والغرب.
أما الجانب التركي من القصة، فيبدو مختلفاً تماماً. فقد ظلت تركيا، لبعض الوقت، تشعر بمعاملة غير عادلة من قبل الاتحاد الأوروبي، والغرب بشكل عام، كما شعرت بأنها مهملة من قبل الحلفاء في عدد من المناسبات. وتشهد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي حالة من الجمود العميق، فيما أصبحت مبيعات الأسلحة من كثير من دول الحلفاء، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية وكندا وفرنسا وألمانيا، إما مقيدة أو محظورة تماماً في بعض الحالات.
وأكدت تركيا أنها حاولت شراء أنظمة دفاع جوي من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، لكنها قوبلت بالرفض. وفي المقابل، كانت روسيا مستعدة للغاية لبيع الأسلحة لأنقرة، واختارتها تركيا بصفتها المكان الذي يمكنها شراء النظام الدفاعي منه، والذي تشتد الحاجة إليه. حتى أن الأتراك، من مختلف المعتقدات السياسية، الذين نادراً ما يتفقون على أي شيء، لديهم الرأي نفسه القائل إن تحركات بلادهم ليست بدافع الحب لروسيا، ولكنها نتيجة للمعاملة السيئة لحلفائها الغربيين وشركائها.
وعلى أي حال، فإن روسيا تبدو سعيدة. فقد تمكنت من بيع أحد أنظمة أسلحتها التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وخلقت صدعاً داخل «الناتو»، وزادت من اضطراب العلاقات المتوترة بالفعل بين تركيا والغرب.
صحيح أن تركيا عضو في التحالف الذي تُعد روسيا التهديد الرئيسي له في البيئة الأمنية المتدهورة حالياً، ولكن لا يوجد ما يمنع أنقرة، أو أي دولة أخرى في «الناتو»، من الانخراط مع روسيا في مختلف المجالات، وذلك على أساس المنفعة والاحترام المتبادلين، بشكل لا يتناقض مع التزاماتها في الحلف.
وفي الختام، فإنه قد يكون لتركيا وروسيا مواقف متباينة بشأن عدد من القضايا التي يحمل بعضها احتمالات المواجهة المباشرة أو غير المباشرة، ولكن في الوقت الحالي يبدو أن البراغماتية هي التي تحكم علاقات الطرفين. وعلى الرغم من أنه قد تكون هناك حاجة إلى كثير من الصبر وغض الطرف من حين لآخر في هذه العلاقات، فإنه يبدو أن كلا البلدين يدرك أن الحوار والتعاون سيكون أفضل من المواجهة، ما دام ذلك ممكناً.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».