صديق أم عدو... أم مجرد «علاقة براغماتية»؟

عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
TT

صديق أم عدو... أم مجرد «علاقة براغماتية»؟

عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)

لطالما كان للعلاقات التركية - الروسية عمق تاريخي يتسم في الغالب بالصراع، فقد خاضت الإمبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية عشرات الحروب، وكانتا خلال الحرب العالمية الأولى على طرفي نقيض، وقد تمتعت الاثنتان بعلاقات تتراوح بين المقبولة والجيدة خلال حرب الاستقلال التركية. ولكن حتى في ذلك الحين، لم تكن الأمور جيدة كما كانت تبدو.
فبعد الحرب العالمية الثانية، طالب السوفيات ببعض الأراضي التركية في شرق الأناضول، وشككوا في سيادة البلاد على المضائق التركية، فيما انضمت أنقرة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1952، وظلت في الجناح الجنوبي للحلف طوال فترة الحرب الباردة. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، دخلت تركيا وروسيا في منافسة على ما يحب بعضهم تسميته «اللعبة الجديدة الكبرى من أجل القوقاز وآسيا الوسطى».
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اضطر تتار القرم والشركس والنوغيين (مجموعة عرقية تركية تعيش في منطقة شمال القوقاز)، وغيرهم كثير من شعوب الإمبراطورية العثمانية المتقلصة، إلى الفرار من ديار أجدادهم بسبب التقدم الروسي. وهؤلاء الأشخاص الذين وجدوا في الأناضول مستقراً جديداً لهم كانوا أيضاً عاملاً في تشكيل العلاقات التركية - الروسية.
وبالنظر لهذه الخلفية، وفي إطار البيئة والتطورات الاستراتيجية الجديدة على الساحة الدولية، اكتسبت العلاقات التركية - الروسية زخماً جديداً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
- بوتين وإردوغان
ينظر كثيرون إلى الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان والروسي فلاديمير بوتين على أنهما متشابهان في طريقتهما في ممارسة السياسة بشكل عام. صحيح أنهما قد لا يكونان أفضل صديقين (الصداقة التي تحددها المثل العليا وأنماط الحياة المشتركة)، لكنهما أقاما شكلاً من أشكال علاقات العمل التي تقوم على أساس المصلحة والمنفعة المتبادلة، وهي العلاقة التي تؤدي دوراً رئيسياً، بل مركزياً، في إدارة العلاقات التركية - الروسية في الوقت الحالي.
وتبدو العلاقات الثنائية الآن بين البلدين نشطة للغاية، إذ يبلغ حجم التجارة بينهما 25 مليار دولار أميركي، في المتوسط، حيث بلغ في وقت ما نحو 30 مليار دولار أميركي. وعلى الرغم من انخفاض حصتها، لا تزال روسيا هي المورِّد الرئيسي للطاقة إلى تركيا، حيث توفر لها 34 في المائة من الغاز الطبيعي، و11 في المائة من النفط، فيما تتمثل الصادرات التركية إلى روسيا بشكل أساسي في المنتجات الزراعية والآلات والمركبات والمنسوجات.
وبشكل عام، فإن نحو 80 في المائة من حجم التجارة الثنائية يصب في صالح روسيا، ولكن تركيا تعوض هذا النقص في مجالات الخدمات والبناء، حيث لا تزال أنقرة هي الوجهة الرئيسية للروس الذين يعشقون منتجعاتها ذات الأسعار المعتدلة الشاملة للخدمات كافة، حيث وصل عدد السياح الروس إلى تركيا عام 2019 إلى 7 ملايين سائح. أما بالنسبة لقطاع البناء، فقد أنجزت تركيا حتى الآن نحو 1980 مشروعاً في موسكو، بقيمة إجمالية تبلغ نحو 75 مليار دولار أميركي.
وتُعد تركيا، أيضاً، بمثابة ناقل للغاز الطبيعي الروسي. وأحدث مشروع مشترك في هذه المنطقة هو مشروع «ترك ستريم» الذي تم افتتاحه رسمياً في عام 2020، والذي يربط روسيا وتركيا بخطين من خطوط الأنابيب البحرية بطول 930 كيلومتراً تحت البحر الأسود، ويجلب أحدهما الغاز الطبيعي إلى تركيا، فيما يعد الآخر مخصصاً للغاز الموجه إلى أوروبا.
وهناك كذلك محطة «أكويو» للطاقة النووية التي تقدر تكلفتها الإجمالية بـ20 مليار دولار أميركي، والتي تمثل مجال تعاون ذا قيمة استراتيجية أخرى بين البلدين. ومن المقرر أن يبدأ تشغيل مفاعلها الأول في عام 2023.
وعلى المسرح العالمي، تستمر روسيا وتركيا في مواجهة إحداهما الأخرى في أماكن مختلفة، مثل سوريا وأوكرانيا وليبيا وجنوب القوقاز، حيث تكونان في الغالب في جانبين متعارضين، كما أنهما في بعض الأحيان تؤذيان إحداهما الأخرى، ولكنهما نجحتا -بشكل عام- في إنشاء شكل من أشكال الحوار والتعاون في كل المسارح التي تتضمن وجودهما فيها معاً.
- صدع في إدلب
وتعد روسيا طرفاً فاعلاً رئيسياً في سوريا، كما أنها ناشطة عسكرياً في المعركة هناك. وقد مهدت عملية آستانة الطريق للتعاون بين أنقرة وموسكو، ولكن احتمال حدوث صدع لا يزال موجوداً إلى حد كبير، لا سيما في إدلب. فعلى الرغم من اتفاق عام 2018، استولى النظام السوري وروسيا على نصف المحافظة. وتضم المعارضة الموجودة في إدلب التي يتم استهدافها بشكل متكرر من قبل النظام آلاف المسلحين من «هيئة تحرير الشام» وغيرها من الجماعات المتطرفة في الغالب.
وفي مؤتمر صحافي عقده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو، يوم 9 سبتمبر (أيلول)، مع وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد، قال لافروف: «يحتاج الزملاء الأتراك إلى تنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها رئيسا روسيا وتركيا في سبتمبر (أيلول) 2018، وتنص هذه الاتفاقات على فصل المعارضة الطبيعية المعقولة عن الإرهابيين، وبشكل أساسي عن (هيئة تحرير الشام). صحيح أن هذا العمل جارٍ، ولكنه للأسف لم يكتمل بعد». وفي سياق التطورات الأخيرة في درعا، قال لافروف: «بالنسبة لدرعا، وعلى مستوى أوسع في سوريا، فإنه لا يجب أن تسيطر أي فصائل مسلحة غير الجيش السوري على أي أرض».
ويمكن اعتبار ما يقوله لافروف بمثابة رسالة لما يمكن توقعه في المستقبل. فما سيحدث لإدلب، وسكانها البالغ عددهم 3.4 مليون نسمة، في حال شن حملة عسكرية شاملة من قبل نظام الأسد والروس، يشير إلى احتمال المواجهة. وفي هذا الصدد، فإن الهجوم الذي تم على دورية تركية في إدلب، وأدى لمقتل جنديين تركيين، وإصابة 3 آخرين، يبدو أنه جاء في وقت حرج. فقد كانت حادثة 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، عندما أسقطت تركيا طائرة عسكرية روسية من طراز (SU-24) في سوريا، بمثابة مثال واضح على الكيفية التي يمكن أن تتحول بها الأمور بين البلدين، إذ أوقفت روسيا كل خدمات الشركات التركية تقريباً في أراضيها، فضلاً عن منع زيارة الروس لتركيا، كما تأثرت الأنشطة العسكرية التركية في سوريا بشكل خطير، وعززت روسيا وجودها في دمشق بمعدات عسكرية متطورة، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي. وقد تطلب إصلاح العلاقات كثيرًا من الجهد، واستغرق الأمر نحو عام.
وفي ليبيا، واجهت تركيا وروسيا إحداهما الأخرى بعناصر قتالية مختلفة. فقد أدى التدخل التركي، بطلب من حكومة الوفاق الوطني الليبية، إلى تغيير مسار الحرب. صحيح أن روسيا والدول المؤيدة لموقفها في ليبيا لم ينتهِ بهم الأمر إلى السيطرة على الأوضاع، ولكن لا يبدو أنهم غير راضين عن مجريات الأحداث، على الأقل في الوقت الحالي.
- صدام في القوقاز
وفي عام 2020، تمكنت أذربيجان، بدعم من تركيا، من استرجاع أراضيها الواقعة تحت الاحتلال الأرميني. وحينها، استطاعت أنقرة وضع بصماتها في القوقاز، لتثبت أنها قوة لها أهميتها هناك، كما عززت تحالفها مع أذربيجان، وسجلت نقاطاً عدة لدى حلفائها في القوقاز وآسيا الوسطى. ومن جانب روسيا، فإن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الذي لم يكن صديقاً لموسكو لم يتعلم الدرس. فقد تمكنت الأخيرة من هندسة قرار وقف إطلاق النار. وبموجب شروط الاتفاق، استرجعت أذربيجان أراضيها لأول مرة منذ عام 1990. وعلى أي حال، فقد لعبت كل من تركيا وروسيا دوراً جيداً في منع الأمور من اتخاذ شكل مختلف، والتحول إلى صراع فيما بينهما في هذه الساحة.
أما في أوكرانيا، فإن تركيا وروسيا تقفان على طرفي نقيض، وذلك لأن موقف أنقرة المعلن صراحة هو أنها لا تعترف بضم شبه جزيرة القرم. ولا يبدو أن روسيا تمانع في ذلك، ما دام أن المواقف السياسية لم تتحول إلى شكل من أشكال العمل الفعلي. ولكن الروس يتابعون ببعض الاستياء والقلق التعاون الدفاعي الأخير بين تركيا وأوكرانيا، لا سيما نقل الطائرات التركية المقاتلة من دون طيار.
وقد تصبح أفغانستان ملفاً آخر إما للتعاون أو المواجهة بين البلدين، وذلك حسب كيفية تطور الأمور هناك. والأسباب ليست واضحة تماماً للجميع، لكن يبدو أن تركيا حريصة على لعب دور في كابول الجديدة، فيما تنظر روسيا إلى أفغانستان -بشكل أساسي- من وجهة نظر أمنية، مع اهتمام خاص بدول آسيا الوسطى. فهذه المنطقة مهمة لروسيا، من حيث قيمتها الاستراتيجية، ولكونها الجوار الخارجي القريب منها، كما أنها مهمة لمنظمة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو.
وهناك قضية أخرى ذات أهمية خاصة، وذلك من زاوية حلف الأطلسي (الناتو)، وهي البحر الأسود واتفاقية مونترو (اتفاقية عقدت في مونترو في 1936، منحت تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين)، إذ لا تريد روسيا وجود سفن حلف شمال الأطلسي في البحر الأسود، وتصر على الحفاظ على الاتفاقية التي تنظم مرور السفن الحربية عبر المضيق التركي، وتحد من وجودها. وقد أثار مشروع قناة إسطنبول الذي تم تسويقه سياسياً من قبل الرئيس التركي بعض التساؤلات حول ما إذا كان سيتعين تغيير الاتفاقية أم لا. لكن لا يبدو أن موقف تركيا يتعارض مع موقف روسيا في هذه القضية.
- «إس ـ 400»
وكان أهم تطور في العلاقات الثنائية بين أنقرة وموسكو هو التداعيات بعيدة المدى لاستحواذ تركيا على أنظمة الدفاع الجوي «إس-400» من روسيا، حيث ردت الولايات المتحدة وبعض الحلفاء الآخرين في «الناتو» بقوة على الأمر، حتى ذهبوا إلى حد فرض عقوبات ينص عليها قانون مكافحة خصوم أميركا على تركيا، فيما تواصل كثير من الدول الغربية تقديم قضية «إس-400» بصفتها دليلاً آخر على ابتعاد تركيا عن «الناتو» والغرب.
أما الجانب التركي من القصة، فيبدو مختلفاً تماماً. فقد ظلت تركيا، لبعض الوقت، تشعر بمعاملة غير عادلة من قبل الاتحاد الأوروبي، والغرب بشكل عام، كما شعرت بأنها مهملة من قبل الحلفاء في عدد من المناسبات. وتشهد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي حالة من الجمود العميق، فيما أصبحت مبيعات الأسلحة من كثير من دول الحلفاء، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية وكندا وفرنسا وألمانيا، إما مقيدة أو محظورة تماماً في بعض الحالات.
وأكدت تركيا أنها حاولت شراء أنظمة دفاع جوي من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، لكنها قوبلت بالرفض. وفي المقابل، كانت روسيا مستعدة للغاية لبيع الأسلحة لأنقرة، واختارتها تركيا بصفتها المكان الذي يمكنها شراء النظام الدفاعي منه، والذي تشتد الحاجة إليه. حتى أن الأتراك، من مختلف المعتقدات السياسية، الذين نادراً ما يتفقون على أي شيء، لديهم الرأي نفسه القائل إن تحركات بلادهم ليست بدافع الحب لروسيا، ولكنها نتيجة للمعاملة السيئة لحلفائها الغربيين وشركائها.
وعلى أي حال، فإن روسيا تبدو سعيدة. فقد تمكنت من بيع أحد أنظمة أسلحتها التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وخلقت صدعاً داخل «الناتو»، وزادت من اضطراب العلاقات المتوترة بالفعل بين تركيا والغرب.
صحيح أن تركيا عضو في التحالف الذي تُعد روسيا التهديد الرئيسي له في البيئة الأمنية المتدهورة حالياً، ولكن لا يوجد ما يمنع أنقرة، أو أي دولة أخرى في «الناتو»، من الانخراط مع روسيا في مختلف المجالات، وذلك على أساس المنفعة والاحترام المتبادلين، بشكل لا يتناقض مع التزاماتها في الحلف.
وفي الختام، فإنه قد يكون لتركيا وروسيا مواقف متباينة بشأن عدد من القضايا التي يحمل بعضها احتمالات المواجهة المباشرة أو غير المباشرة، ولكن في الوقت الحالي يبدو أن البراغماتية هي التي تحكم علاقات الطرفين. وعلى الرغم من أنه قد تكون هناك حاجة إلى كثير من الصبر وغض الطرف من حين لآخر في هذه العلاقات، فإنه يبدو أن كلا البلدين يدرك أن الحوار والتعاون سيكون أفضل من المواجهة، ما دام ذلك ممكناً.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر
TT

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

تدور حرب باردة بين نوري المالكي ومحمد شياع السوداني. يتحرك الاثنان بسرعة نحو حلبة الانتخابات المقبلة. هناك، سيكون الصراع مؤذياً ومفتوحاً، كما يرجح سياسيون في حزب «الدعوة الإسلامية»، و«الإطار التنسيقي». إلا إذا حدثت صفقة بينهما.

من المفترض أن ينتخب العراقيون، العام المقبل، ممثليهم في البرلمان، لكنَّ رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، يدفع لجعلها مبكرة. في الحالتين سيتفاوض اللاعبون على قانون انتخابات جديد ينسجم مع المتغيرات، ومحاولة السوداني مزاحمة الكبار أبرز متغير في اللعبة.

مع أن كثيرين يشككون في إمكانية الاقتراع المبكر، إلا أن التلويح به قد يكون ورقة ضاغطة على السوداني في سياق الحرب الناعمة، فالأهم من موعد الانتخابات هو قانونها الجديد.

المالكي هو أكثر السياسيين الذين يُظهرون شغفاً بصياغة القانون. يقول مقربون منه وأشخاص عملوا لصالحه في كتابة صياغات ومقترحات، إن الرجل يفكر في «نصب الأفخاخ» للسوداني، الذي يطمح لولاية ثانية، أكثر من انشغاله حتى بحظوظه الشخصية في البرلمان المقبل.

المالكي «الأب المؤسس»

ينظرُ المالكي إلى نفسه على أنه صانع لملوكٍ غير متوجين. ملوك يعملون لديه، في خدمة مشروع بدأ عام 2006، يوم توَّجته ظروف وأقدار برئاسة الحكومة. جاء وقتها بديلاً مغموراً لإبراهيم الجعفري الذي نبذته المعادلة الإيرانية - الأميركية في العراق.

أنصار «الإطار التنسيقي» يرفعون صورة المالكي خلال مظاهرة بالقرب من المنطقة الخضراء في بغداد 12 أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

«تَعلم المالكي أكثر من غيره فنوناً في السياسة»، يقول أشخاص عملوا معه وخاصموه خلال العقدين الماضيين. المناورة والتنقل السلس بين الأقطاب أبرز ما يجيده، إلى جانب «انحيازه المذهبي، وريبته الشديدة»، اللذين يجذبان إليه كل «الشيعة الطامحين والخائفين».

حتى بعد خروجه من الحكومة، بقي المالكي عرَّاباً للمشروع السياسي الشيعي، تلجأ إليه أحزاب «الطائفة» كلما تعرض النظام لتهديد، حتى لو كان من الشيعة أنفسهم. بهذا المعنى هو «الأب المؤسس، وكل الآخرين أبناء وأحفاد»، على حد تعبير قيادي سابق في «حزب الدعوة».

قدم المالكي نفسه «منقذاً لشيعة العراق المعاصر». آخر مرة كان قد لملم شتاتهم حين حاول زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الانقلاب عليهم، وطردهم من الحكومة بعدما حاول التحالف مع السنة والكرد (2020). يرى كثيرون أن دور المالكي في «الإطار التنسيقي» منذ أن تشكلت حكومة محمد شياع السوداني، عزز صورته راعياً لدولة الشيعة العميقة. وفي عقل المالكي أنه عمقها الوحيد.

يتوقع رئيس الوزراء الأسبق من حلفائه عدم تجاوز مكانته التاريخية وحدود زعامته، لكن ما الذي يمكن أن يحدث حين يتمرد أشخاص صنعهم المالكي وخلق مشروعهم السياسي؟ ماذا لو قرر السوداني الترشح لولاية ثانية؟

«الابن الضال»

كان السوداني مهندساً زراعياً يعمل لصالح الحكومة في محافظة ميسان (جنوب) حين احتلت القوات الأميركية العراق وأسقطت نظام صدام حسين. ولأنه موظف بدرجة رفيعة وابن عائلة شيعية معارضة، عُيّن منسقاً بين إدارة المدينة وسلطة الحاكم الأميركي في بغداد، لتسيير الأعمال.

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (رويترز)

في السنوات اللاحقة، تدرج السوداني في الإدارات العامة. كان من الواضح أن الرجل يجيد الحياة داخل المؤسسات الحكومية، ويمكنه الصمود أمام تقلباتها. إنه «مسلكي» على نحو متمرس، كما يصفه سياسيون موالون له.

يبدو أن المالكي شعر بأن السوداني هو «رجله المناسب». تحول إلى ركن ثابت في الحكومات اللاحقة؛ وزيراً لحقوق الإنسان والتجارة والعمل والصناعة في 3 حكومات. كان الرجل من الصف الثاني أو أقل، لكنه راسخ في الواجهة العامة للمشروع الشيعي على مدار سنوات.

عام 2019، احتج مئات الآلاف من الشبان الشيعة على الحكومة. قفز السوداني من سفينة حزب «الدعوة»، وصعد قارباً صغيراً. أسس حزب «تيار الفراتين» وأراد دخول نادي الشيعة الكبار. بعد عامين، وقع عليه الاختيار رئيساً للحكومة بصفقة صعبة.

في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، دخل السوداني منزل هادي العامري وفي يده ورقة دوّن فيها التزامات يطلبها من رعاة الحكومة في «الإطار التنسيقي». كان المالكي وقيس الخزعلي، زعيم حركة «عصائب أهل الحق» قد جهزا في المقابل ورقة التزامات «ينفذها السوداني ما دام في المنصب».

فحوى الورقة التي سُلمت للسوداني كانت تعكس «عقل المالكي»، الذي تسرب لاحقاً إلى خطاب «الإطاريين» بأن «مهندساً زراعياً كُلف مهام رئاسة الوزراء».

السوداني أراد أن يصبح أكثر من هذا، وأكبر. لقد بدأ عمله في الحكومة هادئاً، لأن أيام الولاية الأولى كانت مخصصة لتصفية تراث سلفه مصطفى الكاظمي. على الأقل كانت «التعليمات» القادمة من «الإطار» تشدد على ذلك.

طموحات السوداني

لاحقاً، أظهر السوداني لمحة قوية عن طموحاته. قدم نفسه وعدد من وزرائه على أنه شخص يريد التركيز على الخدمات والتنمية، بعد أن حصل على تأمين الموازنة الثلاثية، بسقف مالي غير مسبوق.

بالنسبة إلى «الإطار التنسيقي»، لا خطر سياسياً من حكومة تقدم الخدمات، بل «لا معنى لهذا في خلق الأوزان السياسية» كما يقول سياسيون شيعة. كانوا يرون ذلك «خدمة عكسية لصالحهم»، مع إبقاء «العين مفتوحة» على طموحات السوداني.

«انفجر السوداني». يقول سياسيون إنه بعد عامين من الحكم بات يسيطر على نحو 50 نائباً انشقوا «عملياً» عن «الإطار التنسيقي»، ويُلوِّح بأن «كل نائب سابق هو شريك محتمل» في كتلة السوداني الجديدة، في البرلمان المقبل.

الضربة الموجعة للإطار والمالكي –هكذا يأمل السوداني أن تكون– هي تحالفه مع المحافظين الثلاثة الأقوياء، أسعد العيداني في البصرة، ومحمد المياحي في الكوت، ونصيف الخطابي في كربلاء. جميعهم متمردون على «الإطار التنسيقي».

تحدثت «الشرق الأوسط» مع قيادات شيعية مشغولة بتقدير أوزان الفاعلين بالأرقام، رجحوا وزن السوداني بنحو 60 نائباً، وهناك من يتفاءل بأكثر من هذا.

«ودائع في حساب» المالكي

المالكي سيقطع طريق السوداني. في مارس (آذار) الماضي، ضرب في نفسه مثالاً ليشرح مصير السوداني. قال في مقابلة تلفزيونية: «فزت بـ103 مقاعد في انتخابات 2014. لم أحصل على رئاسة الحكومة (...) لأن الوفاق السياسي لم يحدث، فما معنى أن يحصل أي أحد الآن على 60 مقعداً؟ لا شيء. فالأرقام وحدها لا تكفي».

بالعودة إلى ذلك التاريخ، كان المالكي فائزاً بالفعل، ولأنه فشل في الحصول على إجماع الشيعة والكرد، اضطر إلى إخراج حيدر العبادي من أدراج «الدعوة»، بديلاً من «الصف الثاني»، بوجه ناعم، تماماً كالسوداني الآن. الفارق أن العبادي، ورغم أنه تحمَّل مشقة الحرب ضد «داعش» وموازنة شبه خاوية، عاد إلى صفوف الإطار ولم يغامر بأكثر من هذا، إلا ما ندر.

لماذا يصر المالكي على تضييق الخناق على رئيس الوزراء الحالي؟ يعتقد زعيم ائتلاف «دولة القانون» أنه «من غير المقبول أن يسحب شخص ينتمي إليك الأموال من حساب شركة تملكها». بهذه البساطة يقدم سياسي مطلع هذه الاستعارة ليشرح كيف يفكر المالكي الآن.

لقطة من فيديو تُظهر غاضبين يُنزلون صورة المالكي عن أحد مقرات «حزب الدعوة» جنوب العراق

يعتقد المالكي أن السوداني «يختلس» من رصيده السياسي، ويستخدم أدوات الدولة العميقة، ويمد يديه إلى جمهوره الشخصي، ويخلق تحالفات جديدة خارج المعادلة، خارج التحالف الأهم في العراق. المالكي حين يراقب هذه المتغيرات يتذكر أنه هو «من صنع السوداني وهو مَن عليه إعادته إلى النظام». في الحقيقة إنه مؤمن بذلك.

مع ذلك، لا يستطيع المالكي خوض معركة مفتوحة مع السوداني الآن. إنه مكبّل بتقاليد تيار اليمين الشيعي في العراق وضرورات نموه وازدهاره، كما أن رئيس الحكومة لم يعد سهلاً، ليس هو نفسه الذي دخل بيت العامري بورقة «حقوق وواجبات». لقد تحول إلى مركز للتوافق الإيراني - الأميركي، وهو أفضل دور يجب أن يلعبه رئيس وزراء في العراق. ألم يكن المالكي كذلك في ولايته الأولى؟

ما يستطيع المالكي فعله الآن للإيقاع برفيقه السابق السوداني، هو -على المدى البعيد- صياغة قانون انتخابات جديد يجرِّد رئيس الحكومة من أي صلاحية ومنفذ وقدرة على استخدام موارد السلطة في الانتخابات. هذا ما يقوله، وما يريده حرمان السوداني من فرصة تَمتعَ بها المالكي عام 2010، على سبيل المثال.

تقول المصادر إن خبراء انتخابات يعملون مع المالكي منذ شهرين على صياغة قانون جديد للانتخابات. لقد وصل الآن إلى مرحلة متقدمة، خصوصاً بعد إشراك لاعبين سنة وكرد في الأجواء.

لكن اللافت أن المالكي مستعد لصياغة قانون لا يوفر له فرص الفوز، بل يكرس خسارة السوداني.

على المدى القريب، يحاول المالكي، أيضاً، اصطياد حلفاء السوداني والإيقاع بهم. يقول صناع قرار في الإطار التنسيقي إن السوداني حين يصل إلى الأمتار الأخيرة من الانتخابات المقبلة سيكون محظوظاً لو احتفظ بواحد من المحافظين الثلاثة الأقوياء. «سيطيح بهم المالكي»، يقول سياسي عراقي.

السوداني ليس سهلاً

يعرف رئيس الحكومة أن الشيعة في الانتخابات المقبلة سيواجهون ديناميكية جديدة، قد تنتهي فيها صيغة «الإطار التنسيقي» بالانشطار أو بالتحول إلى مراكز ثقل جديدة؛ وجزء من خطة السوداني أن يكون على رأس أحدها.

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (أ.ف.ب)

يمكن للسوداني قطع الطريق على قانون الانتخابات الجديد وإحباط جهود حزب «الدعوة». يقول مقربون إن «رئيس الحكومة سيخوض حوارات شاقة مع السنة والكرد. ثمة تسويات عديدة قد تُقنعهم بمغادرة مطبخ المالكي».

ورغم أن الحفاظ على الحلفاء ليس مضموناً في العراق، فإن السوداني سيكافح للحفاظ عليهم، بينما يعمل على كسب مزيد من عتاة المرشحين الشيعة، لا سيما المحافظين والعسكر.

«السوداني يتعلم من المالكي»، وجزء من الاضطراب داخل الإطار التنسيقي هو «غرور الآباء المؤسسين وانزعاجهم من جرأة التلاميذ»، يقول قيادي شيعي، ويعتقد أن السوداني ليس المتمرد الوحيد، فالخزعلي يشق الطريق ذاته في محاولة عبور المالكي.

يقول، وهو مطلع على أجواء الحرب الباردة مع المالكي ويميل إلى كفة السوداني، إن الأخير يقدم نفسه «شريكاً موثوقاً للاعبين أساسيين في المنطقة، بما فيهم إيران»، وإنه «يقف على طريق شراكات واعدة مرتبطة باتفاقات تهدئة، وشكل جديد للشرق الأوسط، أساسه الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في العراق».

«مشانق» الانتخابات

في السنة الأخيرة من عمر الحكومة، ستنتقل الحرب الناعمة إلى شكل آخر أكثر سخونة. يشكك كثيرون بأن الاضطرابات الأخيرة في العراق على وقع «قضايا الفساد وتورط موظفين حكوميين في ملفات مشبوهة»، مجرد إحماء وتحضير لما سيحدث.

لقد جرب المالكي والسوداني مواجهات محدودة بينهما. السوداني تفوق في جولات محدودة، لكنّ زعيم «دولة القانون» سجل نقاطاً.

يضرب سياسي كردي مثالاً على ذلك: «خلال الأشهر الماضية، حاول السوداني اختراق الحكومتين المحليتين في ديالى وكركوك برعاية تفاهمات مع فائزين في الانتخابات المحلية، لكن المالكي المتمرس حسم منصب المحافظ في الأولى، وكسر توافقات السوداني في الثانية».

«من الآن وصاعداً سيبدأ نصب المشانق الانتخابية» يقول سياسي سُني يشارك في مفاوضات سرِّية حول تعديل قانون الانتخابات، ويتوقع خريطة جديدة للشيعة، ستتأثر بها القوى السنية والكردية.

مع ذلك، فإن ما يسربه السياسيون الشيعة بشأن الحرب الناعمة بين السوداني والمالكي، وما توشك أن تتحول إليه محاولات «كسر عظام»، يكشفان عن قلق تيار اليمين الشيعي على مستقبله بعد عامين من الزهو والنفوذ.

لا يمانع المالكي كتلة صغيرة يقودها السوداني في البرلمان المقبل. «لا بأس بنموذج عمار الحكيم وهادي العامري وآخرين، يدورون في فلك عشرة مقاعد»، يقول القيادي في الإطار، لأن المعركة الآن تتعلق بـ«لعبة الأرقام»، كل شيء يستعر حول تحديدها وتحجيمها لمنع خريطة «مفاجآت».

«سلطة الأرقام تتفوق»، لأن الاعتقاد الشيعي السائد يفيد بأن عوامل التأثير الكلاسيكية بدأت تضمحل في المشهد الانتخابي، مثل المرجعية الدينية والأميركان، «أما إيران فتفضل التدخل، في اللحظة الأخيرة بعد صبر ومراقبة شديدة».

لكن كيف يتصور القادة الشيعة نهاية هذه الحرب الباردة؟ يتحدث كثيرون عن ثلاثة خيارات؛ أن يصمد السوداني، أو يعقد صفقة مع المالكي برعاية طرف ثالث، أو يخرج أحدهما بإصابات سياسية بليغة.