عفاف راضي تطرب القاهرة بعد غياب دام 11 عاماً

قالت لـ«الشرق الأوسط» إن حفاوة الجمهور «أشعلت حماسي»

عفاف راضي خلال الحفلة
عفاف راضي خلال الحفلة
TT

عفاف راضي تطرب القاهرة بعد غياب دام 11 عاماً

عفاف راضي خلال الحفلة
عفاف راضي خلال الحفلة

عادت المطربة الكبيرة عفاف راضي للحفلات الغنائية بعد 11 عاماً لم تظهر فيها على المسرح، وجاءت عودتها مع الاحتفال بذكرى رحيل الموسيقار بليغ حمدي، الذي اكتشف موهبتها، وتبناها فنياً، واستحوذ صوتها على أكبر عدد من ألحانه.
وشهد الحفل الذي أُقيم بمسرح «النافورة المفتوح» بدار الأوبرا بالقاهرة، حضور وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم، التي صعدت إلى المسرح في ختام الحفل لتهنئ المطربة الكبيرة بعودتها، كما حضره جمهور غفير من عشاق فنها، ازدحم بهم المسرح، ووقف الحضور يصفقون لدقائق بمجرد صعودها على المسرح. وغنّت عفاف خلال الحفل الذي امتدّ حتى منتصف الليل عشر أغنيات من ألحان بليغ، بدأتها بأغنية «سلم سلم»، ثم «تساهيل»، و«كله في المواني»، و«جرحتنى عيونه السودة»، و«قضينا الليالي»، و«ردوا السلام»، و«يمكن على باله حبيبي»، و«لمين يا قمر»، و«وحدي قاعدة في البيت»، واختتمتها بأغنية «هوا يا هوا»، وكانت مفاجأة الحفل مشاركة ابنتها المطربة الشابة مي كمال في دويتو غنائي.
وقاد الأوركسترا المايسترو اللبناني سليم سحاب الذي قال مخاطباً الجمهور بالحفل: «لا أقدم مي لأنها ابنة عفاف راضي، بل لأنها موهبة حقيقية ستدركون حجم موهبتها حين تسمعون صوتها، أغمضوا عيونكم لتسمعوا صوتها»، حيث قدمتا معاً أغنية «عطاشي» التي كتبها الشاعر عبد الرحيم منصور ولحّنها بليغ، وغنّتها عفاف في سبعينات القرن الماضي، وبدا الانسجام واضحاً بين المطربة الكبيرة وابنتها على المسرح.
وعبّرت عفاف في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» عن سعادتها بالحفاوة الكبيرة التي لقيتها في الحفل قائلة: «الحقيقة أن الجمهور استقبلني بشكل رائع، وأسعدني كثيراً أنه لا يزال يتمسك بالأغاني التي بها أصالة وبالألحان الخالدة، مما (أشعل حماسي)، كما أنني كنت في اشتياق للجمهور، لذا حرصت على أن أقدم باقة من أجمل أغنياتي التي حملت إبداعات الموسيقار بليغ، فهو فنان كبير، وألحانه لا تزال تتردد في كل مكان، فقد كان غزير الموهبة. وأتوجه لدار الأوبرا بالشكر لأنها تقوم بإحياء ذكرى عظماء الفن والموسيقى الذين أثْروا وجدان الجمهور، لقد كان بليغ سابق عصره لذا فإن ألحانه ستبقى خالدة».
وحول الدور الذي لعبه الموسيقار الراحل في حياتها. قالت عفاف: «لقد منحني أعذب الألحان، وحين سمع عني، ولم يكن يعرفني، أخذ يبحث عني وقرر أن يتباني فنياً، وكان مهتماً بتقديمي في الحفلات الغنائية وعبر الإذاعة، وبخلاف الأغنيات الرائعة التي لحّنها لي وتنوعت بين الأغاني العاطفية والشعبية، فقد قدمنا معاً أعمالاً في المسرح الغنائي».
ونفت راضي أن «تكون عودتها للغناء بصفة استثنائية»، مؤكدةً أنها «ستواصل طريقها كمطربة، خصوصاً في ظل التكريم الذي حظيت به من السيدة انتصار السيسي حرم الرئيس المصري، وفي ظل الاستقبال الكبير من الجمهور الذي شجعها كثيراً»، مشيرةً إلى أنها «غابت بعد تغير الأجواء الفنية، وغياب موسيقيين كبار عملت معهم مثل، بليغ، والموجي، وكمال الطويل، وعمار الشريعي». وأضافت: «لكن المهم أن أجد ألحاناً جميلة لا تقل عمّا قدمته من قبل، وأتمنى أن أتعاون مع جميع الملحنين». وعبّرت المطربة الكبيرة عن سعادتها بمشاركة ابنتها في الحفل وظهورها الأول من خلال مسرح الأوبرا، مؤكدةً أنها «تشجعها على تنمية موهبتها بدأب وإصرار»، قائلة: «أتمنى لها مسيرة ناجحة، وأشجعها على تقديم أغنيات خاصة بها، وأتمنى أن تحظى بمؤلفين وملحنين جيدين»، منوهة: «نحن تعلمنا على يد أساتذة احتضنوا مواهبنا، الآن الوضع صعب ومعقّد، فلا يوجد إنتاج أغاني بالإذاعة، ولا توجد شركات إنتاج تساند المطرب، بل بات هو المسؤول الأول والأخير عن نفسه».
من جهتها، قالت مي لـ«الشرق الأوسط» إن «وقوفي على المسرح بجوار والدتي لحظة كنت أترقبها، وأشعر بالمسؤولية تجاهها، لأنني أقف أمام مطربة كبيرة، وجمهور الأوبرا المتذوق للفن، لذا كنت أركز تماماً خلال البروفات، لكنني كنت أيضاً أشعر بقلق تبدد تماماً مع تشجيع الحضور وتصفيقهم».
ودرست مي التسويق وإدارة الأعمال بالجامعة الأميركية، ثم قررت احتراف الغناء. وتقول: «كنت أغنّي منذ زمن طويل، وحينما قررت الغناء بشكل احترافي، وجهتني والدتي لمركز تنمية المواهب بالأوبرا كما تعهدتني بالرعاية، وكانت شديدة جداً معي، الأمر الذي أفادني كثيراً».
وتسعى مي لتصوير أغنيات والدتها، بعدما صورت أغنية «عطاشي» في مدينة أسوان، ولاقت نجاحاً، مؤكدةً أنها تعمل في نفس الوقت لتقديم أغنيات خاصة بها، وحسبما تؤكد: «أنا أشبه أمي كثيراً، وأحب الغناء الشرقي بلمحة غربية مثلها، كما أحب موسيقى الجاز، وقمت مؤخراً بتسجيل أغنية بعنوان (أضحك لها) من ألحان ماهر الملاخ، وسأقدم حفلاً خاصاً بي بالأوبرا ديسمبر (كانون الأول) القادم، سأقدم فيه أغنيتين لي، وسأعيد تقديم بعض أغنيات والدتي وأغنيات لفيروز».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)