اجتاز مهرجان فينيسيا - 1 - 11 سبتمبر (أيلول) - المسافة بين البداية والنهاية من دون إصابة كوڤيد واحدة. أعلن ذلك مع نهاية دورته الأخيرة، مؤكداً أن التدابير المتخذة حالت بالفعل دون أي إصابة.
هذا ما حدث في العام الماضي أيضاً، ما دفعني هذا العام لسؤال بعض قاطني جزيرة ليدو التي يُقام فيها المهرجان عما إذا شهدوا حالات وباء ما بين العام الماضي وهذا العام. بعضهم قال «ولا حالة واحدة»، سيدة قالت إن هناك حالات سُجلت في منطقة فينيسيا «لكن ليس هنا» واثنان قالا: «حالة واحدة».
في مدينة تورنتو، حيث حط رحال العديد ممن كانوا في الليدو، الأمر يختلف. كندا كانت من أكثر الدول استعداداً لمكافحة الوباء وهي أغلقت حدودها حتى مع الولايات المتحدة قبل أن تُعيد فتحها قبل يومين من بداية المهرجان فقط، أي في السابع من الشهر الحالي.
معظم هؤلاء من الموزعين والمنتجين وأصحاب القرار في هوليوود وحول العالم. وبينما شهد مهرجان فينيسيا تقاطر عدد لا بأس به من السينمائيين من مخرجين وممثلين، خلا مهرجان تورنتو من الأسماء الكبيرة إلا بنسب محدودة.
إنه هو ذاته المهرجان الذي كان نجوم السينما يتقاطرون إليه في كل يوم. المهرجان الذي كان يعرض الأفلام حتى الثالثة بعد منتصف الليل بموازاة حفلات الليل العامرة. مقارنة المدينة اليوم بما كانت عليه قبل عامين وما قبل تدعو للحنين. وباء كورونا لم يترك للمهرجان إلا خيار التوجه صوب عروض صالات السينما المشتركة فيه لمن حضر وبيع التذاكر لمشاهدة الفيلم على الإنترنت لمن خاف الحضور.
قليل من النجوم تلألأت ثم مضت من بينهم جسيكا شاستين، وربيكا فرغوسن، وجامي دورنان، وبنديكت كمبرباتش. وباختفائهم اختفى كل شيء آخر: الصحافيون والمصورون ومصممو الحفلات وحتى الجمهور… أين هي الصفوف الطويلة التي كانت تمتد من مدخل الصالة في «المول» إلى خارج المبنى وتشاهد ذيلها في شارع آخر؟
هذا لا يعني أن المهرجان لم يطلق الأفلام التي حشدها لهذه الدورة. على العكس، كانت هناك العديد من الأفلام الجيدة أو على الأقل التي يعتبرها الناقد اكتشافات مثيرة. فقط لم يكن هناك المهرجان الموعود.
تسجيلي عن مغنية
واحد من الأفلام الأولى التي مرت بشاشات تورنتو هذا العام هو Don’t Make Me Over لدايڤ وولي. الفيلم تسجيلي عن حياة المغنية الأميركية دايان ووريك والعنوان ملازم لعنوان واحد من أشهر أغانيها. وولي ووورويك تعاونا سابقاً على كتابة سيرة ذاتية للمغنية، والفيلم هو اقتباس للكتاب مزدان بحضور المغنية في مقابلات وفي وثائقيات كما العادة في الأفلام التسجيلية التي تدور حول مشاهير.
يتابع الفيلم حياتها منذ أن كانت صغيرة. هي ابنة لواعظ في الكنيسة ولاحقاً ما غنت فيها قبل أن تنتقل للغناء مع فرقة The Drifters ثم كمغنية «صول» منفردة. يلمس الفيلم قليلاً بعض ما واجهته في الجنوب الأميركي من عنصرية. الرحلة ذاتها سريعة وبعض سرعتها تؤدي إلى ما يشبه الاستعراض البانورامي. يبقى العمل مثيراً بسبب موضوعه ولمن يريد أن يسمعها تغني في حفلات الستينات والسبعينات، لكن حياة الفيلم تبدو أقصر من أن تعيش طويلاً.
في فيلم آخر نتابع حياة شقيقين فعليين إنما في إطار درامي.
الفيلم هو «بركة» (Benediction) للبريطاني ترنس ديڤيز. ثاني فيلم بيوغرافي له بعد أن عمد إلى سرد حياة الشاعرة الأميركي إميلي ديكنسن في فيلمه السابق «شغف هادئ» (A Quite Passion) سنة 2016.
الشخصية الرئيسية التي اختارها ديڤيز لهذا الفيلم هي أيضاً شخصية شاعر. زيغفرايد ساسون كان جندياً بريطانياً بوسام شجاعة ناله خلال الحرب العالمية الأولى. كان أيضاً مثلي والمخرج يجول بين أحداث حياته وصفحات أشعاره. يوفر متتابعة للمعاناة العاطفية التي مر ساسون بها بسبب ميوله ووقوعه في حب شخصيات لم تكن على ذات الجدية في علاقتها معه.
الفيلم يصبو إلى تسجيل حالة وجدانية لشاعر تعامل والحرب كما لو كانت طحناً لذاته الرقيقة. نسمع شعره مقروءاً في مشاهد مختلفة تشي برأيه فيها وتمزج موقفه منها بموقفه من الحياة ذاتها.
يمر المخرج (وهو معروف بمثليته كذلك) على مفترق طرق متوالية في حياته. كل علاقة هي بمثابة بداية طريق ينتهي فجأة. لكن على اختلاف هذه المراحل يبقى الفيلم سرداً بلا تصاعد درامي. يتكل على ممثلين ربما تركوا أثراً أكبر لو سُمح لهم بالخروج من حالة جمود. ديڤيز رصد الكثير من تفاصيل الفترة الزمنية وأودعها نصاً مهماً لكن من دون وتيرة تصاعدية.
البشر في الدوامة
فيلم آخر مع خيط مشدود لشخصيات من الواقع هو «عينا تامي فاي» (The Eyes of Tammy Faye). إنها زوجة واحد من المبشرين الإنجليكيين الذين اكتسبوا شهرة كبيرة في أوساط اليمين المتدين وبين أترابه الذين استخدموا برامجهم الدينية لبث تعاليمهم. لا يتعرض المخرج الأميركي مايكل شوووتر للكنيسة الإنجليكية مباشرة لكنه يُثير التساؤلات حول حقيقة دعواها ومكانتها لدى الأميركيين عموماً، خصوصاً أن المبشر المذكور (جيم باكر) دخل السجن لاختلاسات مالية كبيرة جناها من وراء وخلال عمله.
التركيز هنا على شخصية زوجته تامي (تقوم بها جسيكا شاستين) وحياتها الرغيدة وعلاقتها مع زوجها جيم (إندرو غارفيلد). في هذا النطاق الفيلم لا يعدو أكثر من سيرة ذات شخصيات حقيقية لكن معالجتها من التقليد والروتين في السرد والتشخيص بحيث تبدو كما لو كانت حكاية متخيلة.
المشكلة في هذا الإطار هو أن السيناريو كُتب كمادة متهكمة أكثر منه بحثاً في التمدد اليميني للدعوات الدينية في الثمانينات. إنه الفترة الريغانية ولو أن الفيلم يمر عَرَضاً بكل ذلك ويقدم شخصيتيه الأساسيتين على نحو كوميدي أقرب للكاريكاتورية. لا شيء مجدياً هنا لا في نطاق النقد للفترة ولا لليمين أو لسواه.
بعد تجربة فلوريان زَلر في «الأب» التي قام فيها بتحويل مسرحيته «البشر» (The Humans) إلى فيلم سينمائي يقدم الأميركي ستيفن كَرَم على التجربة ذاتها. هو كاتب ومخرج مسرحي في الأساس وضع مسرحية فازت بجائزة توني (موازية للأوسكار على صعيد الأعمال المسرحية) وقرر تحويلها إلى فيلم.
وكما الحال في «الأب»، تقع معظم أحداث «البشر» في داخل منزل تحت مستوى الأرض. إليه تلجأ عائلة من ستة أفراد تمثل ثلاثة أجيال في مناسبة تكشف عن شقوق في الذوات بموازاة تلك الشقوق التي تملأ البيت القديم. المكان بذاته بائس لكن الشخصيات متآلفة ولو في البداية وبعض ألفتها عائد إلى أنها من بيئة اقتصادية واحدة تحاول البقاء على سدة الحياة لكن الظروف المعيشية تتفوق على محاولاتها دوماً.