The Card Counter
***
إخراج: بول شرادر
الولايات المتحدة (2021)
دراما | مهرجان فينيسيا
منذ أن كتب المخرج بول شرادر سيناريو «تاكسي درايڤر» الذي حققه مارتن سكورسيزي سنة 1976، وهو يعالج مسألة الفرد وتبعات مشاكله حيال الأوضاع التي يعايشها المجتمع الأميركي. بعد ذلك الفيلم كتب Obsession الذي أخرجه برايان دي بالما في العام نفسه، ثم Rolling Thunder في العام التالي (فيلم رائع ومنسي من إخراج جون فلِن).
لن نجد الكثير من شخصية تراڤِز بيكل (اسم الشخصية الأولى في «سائق التاكسي» كما أداها روبرت دينيرو) في هذين الفيلمين لكن أول ما أتيحت له فرصة الانتقال من وراء الآلة الطابعة (آنذاك) إلى وراء الكاميرا في Blue Collar سنة 1978 حتى بدأ يوخز مجدداً في خصر المجتمع الأميركي متناولاً تلك العلاقة بين الفرد والمجتمع.
في Hardcore تأكد هذا المنوال: جورج س. سكوت يبحث عن ابنته التي اختفت ويجدها سجينة عصابة تتاجر بها في سوق الدعارة. الفيلم كان عودة إلى «تاكسي درايڤر» لكن من باب آخر: عوض سائق تاكسي يلحظ وجود تلك الفتاة المهدورة فيثور، إنه الأب الذي سيعمد إلى الجريمة أيضاً لأجل إنقاذ ابنته.
بطريقة غير خفية كان الدين موجوداً دائماً في أعماله، لكنه لم يكن العامل الرئيس في رصد التأثير الديني على الفرد. هذا الخط تدرج في «راحة الغرباء» (The Comfort of Strangers) سنة 1990 ووصل إلى سدته في فيلمه الرائع Affliction («محنة»، 1997) وبعد عشر سنوات باتت الشاغل الأول في First Reformed عندما وجدنا إيثان هوك يواجه شكوكه وهو في الرداء الأسود كأب كنيسة.
بطل فيلم شرادر الجديد «عداد ورق اللعب» ليس رجل دين، لكن الأسئلة حول الجريمة والثواب والبحث عن العلاقة المخفية بين الإنسان وخالقه. تلك، كما تجسدها الشخصيات، الحافلة بالشعور بالذنب والبحث عن العقاب النفسي المناسب أو الهروب منه.
لكن «عداد ورق اللعب» يطفو هنا على سوابق المخرج في كونه عملاً سياسياً في الوقت ذاته.
يحمل بطله اسم ويليام تل (يقوم به الموهوب أوسكار آيزاك) وهو اسم خفي ابتدعه والعلاقة ليست خافية. في التراث الجرماني ويليام تل كان ماهراً في تصويب السهم وإصابة الهدف. ما لم يكن عليه هو قيامه بتعذيب السجناء في سجن أبو غريب وهذا كان حال ويليام تل في الفيلم. كان مجنداً في فرقة تعذيب خاصة تم إرسالها إلى العراق خلال الاحتلال ونكلت بالأسرى العراقيين في ذلك السجن. نرى ذلك بكاميرا ذات عدسة واسعة (بخلاف باقي المشاهد) تنقل مشاهد من التعذيب مصحوبة بإدانة الكاتب - المخرج لها. لكنها ليست مجرد عروض لا مناسبة لها إلا تقديم شكوى مصورة عن فضيحة إنسانية مر عليها الزمن سريعاً الآن، بل هي ذكرى قابعة في باطن ووجدان ويليام تل لأنه كان من بين المنتمين إلى تلك الفرقة.
تبعات أبو غريب
الآن، هو متشرد باختياره. لا يملك عملاً محدداً بعدما حوكم وطُرد ككبش فداء لتغطية المسؤولين الفعليين يمثلهم القائد العسكري المتحول إلى السياسة غوردو (ويلم دافو) بل هاوية يستثمرها كعمل يدر عليه معيشته ويتركه منتقلاً بسيارته في أرجاء الولايات القريبة.
هو لاعب «بلاك جاك» نموذجي. يفهم قوانين اللعبة وما لا يعرفه معظم اللاعبين. يستطيع بمراقبة حثيثة ومستمرة إحصاء أوراق اللعب الضرورية كمفتاح للربح. وهو لا يلعب لكي يربح الكازينو بل ليكتفي ببعض المئات من الدولارات قبل أن يتجه إلى باب الكازينو مغادراً. ذلك لأن من شروط الربح أن تبقى رابحاً بعيداً عن الإغراء الذي قد يقود للخسارة أو لوضع الرابح على قائمة سوداء تمنعه من العودة.
الحكاية هنا هي أنه في مدى أيام يتعرف على شخصين: امرأة أفرو - أميركية تعرض عليه رأسمال يمكنه من الانتقال من الربح الصغير إلى الربح الكبير (تيفاني هاديش) وشاب (تاي شريدان) يريده أن ينتقم من غوردو. ذلك لأن والد الشاب عاش كابوساً لا ينقطع بسبب أفعاله في سجن أبو غريب أدى إلى هدم العائلة ثم إلى انتحاره. مثل ويليام تل، والد الشاب كان واحداً من أفراد الفرقة التي نكلت بالسجناء ثم تم إلقاء تبعية الجرائم عليهم وطردهم من الخدمة بعد الإشهار بهم.
هناك محطات واهنة فيما سبق ذكره وما يليه من أحداث. ما مر هنا مجرد تثبيت الأرضية التي سيسير عليها الفيلم حتى النهاية وهي عملية دؤوبة يتخللها بعض الهوان في الإيقاع. لكن بما أننا لا نشاهد فيلم إثارة وتشويق، فإن الإيقاع المنتخب لهذا العمل مقبول وما يجمعه في سياق جيد هو قلة شخصياته الرئيسية (ثلاث) وقيادة أوسكار أيزاك لها. تمثيله يعمد إلى المدلول وليس إلى إظهار النوايا. صوته هادئ النبرة كذلك تعابيره. والمخرج اختار أن يكشف المزيد عما يجول في داخله عبر استخدام تعليق صوتي للشخصية (كما فعل كذلك في فيلمه السابق «فيرست ريفورم».
تسقط بعض أوراق الفيلم من بين يدي المخرج عندما يخفق في إقناعنا بالسبب الذي قرر فيه ويليام تل تبني الشاب الذي لجأ إليه ليقنعه بمشاركته الانتقام. في البداية يرفض ويليام تل وهذا مفهوم، لكن لماذا يقرر أن يعرض على الشاب رعايته وتدريبه على اللعب؟ الوارد مبتسر ولا يكفي.
بذلك الفيلم يقترب من الدراسة في شخصية رجل واقع بين الثواب والعقاب والاستدارة صوب الخطيئة من جديد. لكن ما يرد في الفيلم من تبريرات ليس كاملاً. هو فعل وصفي أكثر منه إتقان المقومات التي تساعد على شحن المواقف بقوة أعلى.
على ذلك، «عداد ورق اللعب» فيلم مهم كيفما نظرت إليه.كبحث عميق للروح الساقطة في منحدر وكفيلم آخر لمخرجه حول الفرد والشؤون الدنيوية والدينية وكعمل يُضاف إلى أعمال مخرج له بصمته الخاصّة في الفيلم، كما كعمل بمزايا إخراج وتمثيل وتوزيع حقائب وعناصر بصرية معبّرة وأخّاذة.