مهرجان «الساحل الشرقي».. ملحمة تاريخية

يجسد ماضي شرق السعودية.. ويستقبل زواره بقرع الطبول والمواويل

جانب من فعاليات المهرجان المقام حاليا شرق السعودية
جانب من فعاليات المهرجان المقام حاليا شرق السعودية
TT

مهرجان «الساحل الشرقي».. ملحمة تاريخية

جانب من فعاليات المهرجان المقام حاليا شرق السعودية
جانب من فعاليات المهرجان المقام حاليا شرق السعودية

عبر لوحات تمثيلية وغنائية يجسد مهرجان «الساحل الشرقي» الذي يقام حاليا شرق السعودية ملحمة إبداعية تحكي تاريخ وحضارة أبناء الساحل، في أهازيج تصدح بها حناجر نحو 800 مشارك في العروض الاستعراضية التي حصدت الكثير من الإبهار والإعجاب، حيث تراقصت أرض المهرجان على وقع الأهازيج القديمة، مثل «توب يا بحر - ما تخاف من الله يا بحر - أخذت وليدي يا بحر - أربعة والخامس دخل - وحمامة نودي نودي»، وغيرها من أغان رافقت رواد البحر في الماضي.
ويقدم حشد الجموع الاستعراضية عملا دراميا بحريا يوميا، يحكي قصة البحارة والغواصين على إيقاع «اليامال»، برفقة مجسمات متقنة للمنازل التراثية والدكاكين القديمة، والمجالس الشعبية، ووسط الهواء الطلق الذي أسهم في إنجاح الفعاليات، حيث تمتاز أجواء المنطقة الشرقية حاليا بأجواء معتدلة يزينها نسيم الهواء البارد ليلا وبعض قطرات الأمطار الخفيفة، تزامنا مع إجازة الربيع حاليا في السعودية.
وعلى الرغم من أن البعض قد لا يستهويه صخب الكرنفالات، فإن مهرجان «الساحل الشرقي» كسر هذه القاعدة، حيث أجمع زواره من مختلف الفئات بأن هناك متعة وتشويقا لافتا في جنبات المهرجان، رغم ضجيج المكان الذي يستقبل زواره بقرع الطبول والأهازيج والمواويل البحرية الصاخبة، التي تضرب في أعماق تاريخ المنطقة الساحلية التي تستعرض في هذا المهرجان محطات مهمة لماضي رجالاتها.
فمن مجلس النوخذة «ربان السفينة» إلى مكتب الطواش «بائع اللؤلؤ»، مرورا بالنجار والحداد والمتمرس في أعمال الفخار وحائك السجاد وصانع شباك الصيد.. رحلة ماتعة ينقلها المهرجان إلى زواره من خلال مجموعة من كبار السن الذين امتهنوا هذه الأعمال وبرعوا بها، حيث يقدمون معلومات قيمة عن تاريخ كل حرفة للزوار ويجيبون على استفساراتهم في لقاءات حيوية مباشرة، تنعش أجواء المهرجان الواقع في متنزه الملك عبد الله على ضفاف بحر مدينة الدمام.
كل ذلك في بلدة شعبية واسعة أعدتها إدارة المهرجان لتكون موازية لساحل الخليج العربي، وتم تقسميها لعدة أجنحة، وحظيت بمشاركة أكثر من 5 فرق للفلكلور الشعبي ونحو 25 مركبا شراعيا، وتضمنت العروض في مجملها استرجاعا لماضي الصيد والغوص التي تمثل العلامة البارزة في تاريخ المنطقة الشرقية.
وفي جولة لـ«الشرق الأوسط» بين أركان البيع في المهرجان، تبين أن معظم المنتجات انتهت أو شارفت على الانتهاء قبل ساعات من نهاية اليوم، نتيجة الإقبال الكبير من قبل الزوار الذين تجمهروا حول مختلف الأركان وأبدوا إقبالا لافتا على المنتجات، مما يظهر تعطش أهل المنطقة لهذه الفعاليات، وهو ما دعا أم محمد (بائعة مأكولات شعبية مشاركة بالمهرجان)، إلى أن تشرك ابنتيها في العمل معها، معتبرة المهرجان منفذا قويا للبيع ومصدرا للحفاظ على التراث الشعبي واسترجاع الأطباق القديمة لدى الجيل الجديد.
وجاء على رأس قائمة المأكولات الأكثر تداولا في المهرجان: البليلة، وورق العنب، والملفوف، والجريش، والهريس، والعصيدة، والثريد، والبلاليط، وأطباق المعكرونة المتنوعة. في حين بدا لافتا انتشار أركان بيع البهارات المصنوعة منزليا، حيث تفيد إحدى السيدات المشاركات أن هذا المهرجان ينافس في حجم مبيعاته كل البازارات والمعارض التي شاركت فيها، واصفة الإقبال على شراء البهارات المنزلية بالكبير جدا.
ويأتي مهرجان الساحل الشرقي الثالث ليكون بمثابة النافذة التسويقية لبيع إنتاج أكثر من 100 أسرة منتجة من الدمام، والخبر، والقطيف، يجنين كل يوم ما يتراوح من 2000 إلى 2500 ريال، بحسب ما تكشف وكالة الأنباء السعودية (واس)، في حين يؤكد عدد من السيدات المشاركات انتظارهن هذا الموسم للإعلان عن المشاركة في مهرجان الساحل الشرقي، لافتات النظر إلى أن ذلك يعود إلى ما يتميز به موقعه وتوقيته والأعداد الهائلة من الزوار الذين يقصدون المهرجان من أهالي المنطقة الشرقية ومن خارجها من الزوار داخل المملكة وخارجها من دول مجلس التعاون الخليجي.
تجدر الإشارة إلى أن الهيئة العامة للسياحة والآثار أنهت مع شركائها في المناطق الإعداد لعدة مهرجانات تتنوع فعالياتها ما بين اجتماعية وتراثية ورياضية وترفيهية وثقافية وأنشطة تناسب كافة شرائح المجتمع، حيث يقام في المنطقة الشرقية 5 مهرجانات منوعة هي: مهرجان الساحل الشرقي للتراث البحري ولمدة 9 أيام، مهرجان ربيع الشرقية بالدمام والخبر، مهرجان كلنا الخفجي، مهرجان التراث للأسر المنتجة في الجبيل، ومهرجان العلوم والتقنية السابع بالخبر.
وتستقبل منطقة حائل مهرجان رالي حائل الدولي الذي يستمر حتى الجمعة 27 مارس (آذار)، وفي منطقة مكة المكرمة تجري فعاليات مهرجان هيا جدة للتسوق، ومهرجان الحارة المكية الثاني، أما منطقة المدينة المنورة فتستضيف 3 مهرجانات، حيث يقام مهرجان ينبع البحري في ينبع، مهرجان الزهور بالمدينة المنورة، ومهرجان الذهب بمهد الذهب.
وتشهد منطقة القصيم فعاليات مهرجانات عنيزة مثل المسوكف التراثي، ومهرجان الغضا، وملتقى الحرفيين الثاني، إضافة إلى مهرجان الكليجا والمنتجات الشعبية في بريدة. في حين يقام في منطقة عسير مهرجان ربيع أبها، ومنطقة تبوك مهرجان خيل وهيل، وتحتفي منطقة الحدود الشمالية بإجازة الربيع من خلال مهرجان طريف، وتستقبل منطقة جازان مهرجان القرية التراثية، وبمنطقة نجران يقام مهرجان كلنا نحب التراث.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)