لم تحقق ليليان نمري أحلاماً كثيرة، «بس مش زعلانة». حلمت أن تصبح طبيبة أطفال أو مديرة فرقة دبكة، وظلّ الحلم يتمايل في المخيلة. تناجي الله الساكن في أعماقها وتسأله الصحة، و«أن أموت من دون بهدلة». لم تطلب منه بيوتاً أو ثروة، مكتفية بأغلى هداياه: محبة الناس. الوحدة قاسية وفي داخلها تعب يوجعها، «لكن وجود الله يهوّن». تفقد الثقة بالبشر، وبضمير مرتاح تقول: «ما بحياتي أذيت نملة».
سرّها العفوية، «ولا أريد أن أتغيّر». قريبة من الناس، تسميهم رفاق الدرب، «والفنان من دونهم يزول». ليليان نمري في يومياتها «طبيعية، ولستُ كثيرة التبرّج»؛ تقصد الدلالتين المجازية والحقيقية. فالوجه ليس مطلياً بالمساحيق، والنفسية ليست كريهة. لسان صريح وقلب كبير. تعلّمها المهنة دروساً بعدما تذوّقت المرّ: «من نعمل معهم ليسوا دائماً أصدقاءنا. خلط العمل بالصداقات يكبّد العاطفيين خسائر. والإفراط في الصدق أثمانه مرتفعة». يؤلمها أنها «Correct» وملتزمة، فيما آخرون يعتبرون الالتزام ضعفاً. ألم يحن الوقت للتخرُّج من جامعة الدروس القاسية؟ «ربما، بس معليش. أتعلّم كل يوم. أحب المهنة، ولا أضع شروطاً على العطاء. أقوم بواجباتي على أكمل وجه».
ذريعة اللقاء: انضمامها إلى الجزء الثاني من «للموت» (رمضان 2022) وحلولها ضيفة شرف في «هروب» (المسلسلان لـ«إيغل فيلمز»). حقيقة اللقاء: شوقنا إلى قامات صادقة كالسنابل المتواضعة. تتكتّم عن شخصيتها في «للموت»: «لا أستطيع البوح بشيء. كل ما أقوله لـ(الشرق الأوسط) إنّها شخصية محض درامية، على عكس إطلالاتي الكوميدية». شخصية مكتوبة لها، وقد تعمّد مخرج العمل فيليب أسمر أن تؤدي دوراً لم تلعبه من قبل. تثق به. وحين تزورها الهواجس، يترك أماناً في داخلها.
وتصوّر أيضاً «هروب» مع نجوم من السعودية والكويت ولبنان. هي «فهيمة»، ميكانيكية سيارات تتورّط بمأزق خارج إرادتها. تتمنى ترك بصمة: «ليست مهمة الأدوار الكبيرة. همّي الدور الذي يُعلّم».
تحمل لفتة وفاء تجاه كل مخرج آمن بها: من باسم نصر وأنطوان ريمي وبدايات «تلفزيون لبنان»، إلى فيليب أسمر، نضج العنقود. وتضمّ الكاتبين شكري أنيس فاخوري وكلوديا مارشليان إلى قافلة الامتنان.
لم يتنبّه البعض لـ«ليلو» قبل عقد، فأتى «اقتحامها» الشاشة اللبنانية مثل منبّه يُصحّى الغافلين عن وجودها. أتعتبين، أم أنّ العمر يمتصّ العتب؟ لِمَ الأسماء الكبيرة كليليان نمري لا تحظى بالتقدير المُستَحق؟ نحو 55 سنة أمضتها في التمثيل، مسكونة بلفحات الزعل. سنة تلو السنة مرّت وهي في منزلها، لا يُعرض عليها مسلسل. وكانت كلما شاهدت أعمالاً، تساءلت: “كم يشبهني هذا الدور! لِمَ لم يطلبوني من أجله؟». إلى أن تركت العتب وراءها وصفحت عن الأوراق القديمة. أنصفها التلفزيون اللبناني قبل عشر سنوات فقط. عمر المسيرة 55 سنة. تأخّر الإنصاف كثيراً.
ليليان نمري ابنة عائلة فنية عريقة علّمتها أنّ الجمهور هو الحكم، يقدّر حين يغفل الآخرون، يضع المراتب، يردّ الاعتبار ويعوّض ما فات: «الناس هم مَن يمنحونني حقي». لا تفارقها صورتا عبدو وعليا نمري، الفنانين الكبيرين. يسكنان في ضميرها وأفكارها، ويرافقان خطواتها. قد تصبح المرأة ستينية، بكامل الاختمار، لكنها طفلة من الداخل، مصحوبة دائماً ببركة والديها. إرثٌ معطّر بالإخلاص، تحمله الابنة في صوتها وصمتها؛ هي الشاهدة على تبدّل القيم وتقلّب المعايير. تتأسف لتحوّل الفن إلى تجارة، «وكثر يدخلون المجال من أجل المال. أما نحن، فنقاتل في المهنة عشقاً برسالتها وحباً بقيمها. ليت الاحترام يعود لكبار العمر، ولتاريخهم ووقتهم، فلا يُذلّون خلال التصوير. إننا نكبر، ومن المحزن أن نفقد قيمتنا أمام الجيل الجديد. بعض من عملتُ معهم ظنوا أنني آتية من مكتب كومبارس! هنا ألوم بعض شركات الإنتاج. فكما ترفع من شأن الضيوف الأجانب، عليها رفع شأننا. ضحّينا لبناء الاسم، ولن نقبل بالاستخفاف به».
ما النجم اليوم، والبعض فقاقيع وبالونات؟ تضع النقاط على الحروف: «النجم هو صانع استمراريته. وهو من يحترم اسمه ومكانته، فيُحسن انتقاء أدوار تليق بالجهد. النجومية ليست عملاً واحداً، هي البصمة والبقاء». لطالما تأكدتْ أنّ «المال ليس كل شيء، ولم أدّخر قرشي الأبيض ليومي الأسود. لكنني سعيدة. يكفي أنني حافظتُ على اسمي وسمعة عائلتي».
كيف تتحصّنين من الغرور، وبعض الفنانين «يا أرض اشتدّي ما حدا قدّي». تجيب أنّ الأصل هي التربية، «ويلي ما شبعان ببيت أهله ما رح يشبع وين ما كان». يستميت البعض للشهرة من دون خلفية فنية، «وهذا ساقط لا محالة». تتساءل: «لِمَ أنغرّ؟ أنا ابنة عليا نمري التي صوّرت فيلماً وهي حامل بي، فوقعت في أحد المَشاهد عن الحصان؛ وحين أنجبتني، كتبت الصحافة: ولدت ابنة الفنانة بعد الحادثة. ولدتُ مشهورة. الغرور مقبرة الفنان. وقد تربيتُ على الإيمان ومبدأ (كلو رايح). استخفّ بالمغرورين، ولا أحبهم».
في مراجعة مقتضبة للعمر والقرارات الخاطئة، تحمدُ الله: «أفكر قبل قراراتي، وإن تسرّعتُ في بناء صداقات ظننتها تشبهني، فآلمتني. منذ خمس سنوات بدأتُ أتخطّى ثقل الأذى في داخلي. صداقاتي اليوم قليلة، وأتعلّم عدم التسرّع في خياراتي».
الثقة مكلفة، أكان ضحية الخذلان الفرد أم الوطن. تكتب على «إنستغرام» جملة حقيقة: «من إيدنا وصلنا لهون»، قاصدة نحن اللبنانيين المنكوبين. «منذ ثلاثين سنة والثقة توضع بأشخاص ليسوا أهلاً لها، فأوصلوا البلد إلى الخسارة الكبرى. لقد قتلوا الأحلام، وحرموا الإنسان شيخوخته الكريمة». لم تفكر في الهجرة، لكن رائحتها تفوح اليوم فتوقظ في أعماقها بعض الندم: «عمري يصعّب قرار الرحيل. لا آخرة في لبنان؛ لا أمان ولا ضمان. وطني يؤلمني. الله في داخلي يهدّئ خوفي ويلطّف وحدتي. هو الخلاص، لا أثق إلا به».
ليليان نمري: الناس يردّون اعتباري ولا أثق بأحد
تبوح لـ «الشرق الأوسط» بالمكنونات
ليليان نمري: الناس يردّون اعتباري ولا أثق بأحد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة