رفيف الظل: يَدٌ تقضمُ أصابعها

رفيف الظل: يَدٌ تقضمُ أصابعها
TT

رفيف الظل: يَدٌ تقضمُ أصابعها

رفيف الظل: يَدٌ تقضمُ أصابعها

ها هو الذبحُ إذًا، وها هي طاولته تباغت الأطفال، تكتبُ دمَهم سطرًا سطرًا، تحت أقدام النخيل.
من نعزّي؟ الحرفَ الذي جفَّ قبل أن يكتمل، أم التمرَ الذي اخترقَ العارُ صدرَه؟! هم الذين أعدّوا الصحن والطاولة، وربّوا لنا الذبح واستعانوا على الهم بالدم. ينصحون السكين ويضعون النصل في الجرح. هل رأيتم يدًا تقضم أصابعها؟ كلما تكلمنا اندلعتِ الجراحُ من حناجرنا لفرط الصمت المهيمن. لا أحد يسمع، لا أحد يريد أن يسمع، كانت الغابةُ هي البيت والمدينة وحدود البلاد. وإلى متى لن تزل؟ كان صوتُنا يقطرُ بكاءً، كان يرى عَشرَة جبالٍ شامخاتٍ ينسفهنَّ هواءٌ عابرٌ، وعشرَ رايات بيض تحرقهنَّ رايةٌ سوداء. كان صوتنا يرى، وكانوا يقولونَ أضغاثُ أقلام. هل نحن صفحةٌ في كتاب الانقراض؟ هل عبثُ الآلهة يطالنا كلما قصّرنا عن أحلامها؟
يتخلّقُ الدينُ ليمنح البشرَ طاقة مضاهاة الأساطير والأحلام. فماذا يحدث لنا؟ ليلنا ظلام وأحلامنا أقصر من النوم. حقائبنا أشبعوها نبشًا، ما لهم ولحقائبنا؟! حتى إذا وجدوا تذكارًا خبأه أجدادنا، دون خيار لنا، أطلقوا الدمَ على رؤوسنا. لم يعد لأحد أن يسافر، سوى عارٍ من أمتعة ماضيه وحاضره ومسقبله لكي ينجو من قناصيهم، ولن ينجو.
النجاة من ذوي الأمر هي النجاة. أمّا الحياة فربما نقدر على تفاديها كلما صعبتْ أو تعثّرت أو كادت. على ذوي الأمر المخلّدين أن يحلّوا عن سمانا، ويخفّوا عن كواهلنا، لكي نتولى أمرنا بأحلامنا. لدينا ما يكفي من خرائط الطريق والزمان والمكان.
هل للأمر ذوو؟ لو كان كذلك، لما تحلّت السماءُ بالقبر، ولما سرى العرفُ على من شطَّ للأعلى. دعهم إنهم بلا أضلاع، ومن كلماتهم يسيح اللين. كانوا أولا ثلاثة، والشيطان يسابق أنفه لوصولهم، والريح بجناحين تحمل الأول، ثم وُلدَ الزمان لحظيًا. كم هذه اللحظةُ موجعة، إنّها في نسيج ذكرانا الأولى، نهبط من الأعالي، وهو فاردٌ جناحيه، لا يخشى ألمَ السقوط المحتمل، أو وجعَ الصحراء القاحلة، إذ نتقاتلُ من أجل مائها وليلها، وهو هناك، قد تربّع على عرش جماجمنا، ظافرًا بغنائم المهلة الأبدية.
إلى من يلجأ المحتار، ومن حوله غاباتُ عسس مدججين بالفتك. كيف نهزمه بالوداعة، وقد ابتلع للتو لقمة الشيطان؟ صبر المسافة أن تُطوى في خطوة الريح، فأين صبر المشلول؟ وأنت أيها الملثم؛ بتنا نعرف وجهك الدموي، ولا أحد ينتظر ابتسامةَ الخوف حين تجيء. دع الثكلى تتعفر في رماد حزين، دع المصلي طاهرًا ولا تقلّد ظله. عرفناك أيها الملثم، يا ابن جحر، فلقد طردتك العصافير من شروقنا، طَرَدتْكَ خيرَ طردة، وها روحكَ السوداءُ تتمزّق على لثامكَ الملطخ بالمخالب، وهي ترى قتلاكَ يعودونَ للحياة، في قصيدةٍ تتلوها النخيلُ على الشوارع المحتفلة بالنور والتمور.
اذهب أيها الملثمُ للحمم التي تليقُ بك، ودَعْنا لمشرقنا الحميم.



حدود الإبداع

حدود الإبداع
TT

حدود الإبداع

حدود الإبداع

ثمة مصطلحات في الثقافة العامة تبدو واضحة، لكن مع التدقيق والبحث يتضح أنها أوسع مما تبدو بكثير، منها مصطلحا الفن والإبداع. فعندما تمر بذاكرتنا مفردة «فن» نتخيل نوعاً من الأنشطة الإنسانية كالسينما أو كتابة الروايات أو تأليف دواوين الشعر، إلا أن هذه المفردة بالأحرى علامة على مساحات أكبر في حياتنا يمكن أن يغمرها الإبداع. هذا ما سنحاول أن نسلط عليه المشاعل في هذه المساحة.

الإبداع نشاط يسمو بحياة البشر ويخرجها من الروتين المرتبط بحبل مشيمة مع كل ما مضى وما زلنا عالقين فيه. أعني أن الإبداع مستقبلي في أساس تكوينه. تتكلس الحياة أحياناً فيأتي الإبداع لكي يعيد الحيوية إليها من جديد، كالشعور بالحب. وهكذا يمكن أن نعرّف «الفن» بأنه حياة تسبح في عالم من الإبداع الواعد بكل ما هو جديد مُجدد. هذا العالم الخاص لا يهدأ أبداً فالمبدعون يشبهون الفراشات التي تحوم حول النار حتى الاحتراق، إنه فتنة لا يجد المفتون منها انفكاكاً. هو دائماً وأبداً مشغول بمشروع جديد يجعل العالم كله يبدو جديداً باستمرار في حُلة قشيبة، ففي اللغة أن الإبداع يكون على غير مثال سابق وهنا يكمن بعده الثوري في مجاله. تأثير يتخلل كل المجالات ولا يخلو من تأثير حتى على نظرية المعرفة، رغم ما بينها وبين الفن من اختلاف، فالإبداع يغيّر نظرتنا إلى العالم الخارجي. العالم بعد نيوتن ليس هو العالم قبله. لقد تغيرت حياة الناس تماماً وبصورة جوهرية جذرية.

في الأزمنة القديمة كان بنو الإنسان ينظرون إلى البحر على أنه شيء ممتد مخيف يبتلع الناس ولا يلفظهم، فمن سافر فيه لم يرجع، إلا أن أهازيج البحارة وروايات السرديين وقصص البطولة والملاحم جعلت الناس يدخلون في مقاربة مختلفة وعلاقة جديدة مع البحر بحيث أصبح السفر فيه عشقاً لا رعباً. وصار ثمة شريحة من البشر ترتبط بالبحر ارتباطاً عميقاً ويكتبون له القصائد المملوءة بالعتب والشجن. وآخرون نظروا إليه وكأنه نافذتهم على الشهرة والثروة.

الناس مفتونون بما يصدر عن الفنان من إبداع، رغم خفائه، وأن الاستمتاع به يبدو أحياناً وكأنه حل لغز. لكي تستمع بلوحة لبيكاسو لا بد أولاً أن تفهم إلام ترمز. ولا يقف التفاعل مع الفن عند حدود الفهم. الناس يتفاعلون معه ولا يكتفون بالفهم. فجأة كتب أحدهم «جزيرة الكنز» فوافق هذا ميلاً عند الجماهير، ليس فقط في تقدير أبطال القصة، بل أصبح من الجماهير من يطمح أن يكون هو من يجد خريطة ذلك الكنز ومن يحظى به. ولا ننسى الحدث الكبير عندما قرر هيرمان ميلفيل أن يكتب «موبي ديك» فالبحث عن الحوت استعارة تدل على البحث المعرفي، بحث الإنسان عن المعنى في عالم من المظاهر الخادعة والأوهام القاتلة وحدود المعرفة العلمية واستحالة تحقيق اليقين.

لكن في جميع الحالات عندما يخرج الإبداع نشعر بأنه كان موجوداً من قبل وأننا كنا نعرفه قبل أن يصرّح به المبدع، وفي أحيان لا يكون الإبداع مأخوذاً من العدم المحض، مثلما نعرف أن اليونيكورن هو حصان بجناحي إوزة. إنها عملية إعادة لتشكيل العالم في صورة جديدة تقتحم المجهول. وقد نشعر بأنه كان من الواجب أن يقال هذا الشيء الجديد، مع أنه على الحقيقة لا يوجد واجب على الإطلاق، فالمسألة محض تفضل من المبدع عندما قرر أن يشارك الناس في إبداعه.

وقد يظهر لنا الإبداع حلاّلاً للمشكلات، مثلما قرر فتغنشتاين أن كل مشكلاتنا الفلسفية ناتجة من سوء استخدامنا للغة، وأننا إذا التزمنا بنظرية (حدود لغتي هي حدود عالمي)، فإن المشكلات كلها سوف تتساقط. لكن الإبداع لا يحل المشكلات فحسب؛ بل إنه يخلق أو يكتشف أيضاً مشكلات جديدة كما فعل فتغنشتاين مرة أخرى.

لا شك أن الإبداع كان يأخذ وقته لكي يُحدث التطور المنشود في الحياة البشرية، ولا بد أن الإسكيمو مكثوا زمناً قبل أن يكتشفوا أن مفردة واحدة للثلج لا تكفي للوصف المتداول اجتماعياً، وهذا ينطبق أيضاً على العربي مع الجمل، ففي كلتا الحالتين كانت هناك ضرورة إلى مزيد من إبداع المفردات اللغوية.

عندما نتصور الإبداع بمفهومه الواسع قد نلاحظ أنه يملأ علينا حياتنا ويُدخل نفسه في كل شيء بحيث يمكنك أن تكون مبدعاً عندما تفعل أي شيء تقريباً، في طريقة كسبك الأصدقاء الجدد أو في اختيارك لألوان ملابسك، ثمة مبدعون أخفياء في هذه المساحة. وهذا معناه أننا نعمل باستمرار على إعادة تشكيل حياتنا من خلال أعمال الإبداع. إنه يجعل الحياة ممكنة مثل الماء الذي يساهم في بناء قلعة رملية، فمن دون الماء تنهار القلعة. والحياة الروتينية الخالية من الإبداع ليست حياة على الإطلاق. فيها يتشبه الإنسان بالآلة، بدلاً من العكس الذي يتمناه الذكاء الاصطناعي، أعني تشبه الآلة بالإنسان. وعندما يتحول الإنسان آلة محروماً من الإبداع الذي اختُص به، يصبح أقرب ما يكون من الموت. جسد آليٌ بلا روح. لا يمكن أن أتصور فناناً لا يؤمن بالروح، عالم الممكن المفتوح.

المبدع أشبه ما يكون بالبخور الذي يحترق جلده لكي يستمتع الناس برائحته. لكن يبقى الإبداع سلاحاً ذا حدين وقد يدمّر المبدعَ سعيُه للإبداع، فهو طريق محفوف بالمخاطر بطبيعته. قد يتحطم في الفنان كل شيء عندما يجد أن الإبداع مخاتل وموارب، وأنه لا يستطيع أن يصل إليه وأنه عاجز أن يكون من المبدعين. المبدع قد يفشل فشلاً ذريعاً في الوصول إلى الناس رغم كونه مبدعاً حقيقياً. وهنا، لا بد له أن يدرك أن لا ملاذ من المخاطرة بالألم والفشل مثلما يحدث في قصص الحب. لا حب بلا مغامرة والإبداع حقاً حب، ولهذا يحطم القلوب.

* كاتب سعودي