لقاء الثقافات الإسلامية والصينية في «اللوفر أبوظبي»

يستكشفها معرض بعنوان «التنين والعنقاء»

تمثال حادي إبل على ظهر جمل من القرن السابع من شمال الصين  (المتحف الوطني للفنون الآسيوية – غيميه)
تمثال حادي إبل على ظهر جمل من القرن السابع من شمال الصين (المتحف الوطني للفنون الآسيوية – غيميه)
TT

لقاء الثقافات الإسلامية والصينية في «اللوفر أبوظبي»

تمثال حادي إبل على ظهر جمل من القرن السابع من شمال الصين  (المتحف الوطني للفنون الآسيوية – غيميه)
تمثال حادي إبل على ظهر جمل من القرن السابع من شمال الصين (المتحف الوطني للفنون الآسيوية – غيميه)

لمعرضه الثاني هذا العام اختار متحف اللوفر أبوظبي أن يستكشف العلاقات التاريخية بين الثقافات الإسلامية والصينية، وعبر 200 قطعة فنية يخلق المعرض حواراً ثرياً ممتعاً. المعرض سيفتتح أبوابه للجمهور في السادس من شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ويستمر حتى 12 فبراير (شباط) 2022.
المعرض من تنظيم «اللوفر أبوظبي»، بالتعاون مع المتحف الوطني للفنون الآسيوية – غيميه ووكالة متاحف فرنسا، ويخلق حواراً بين قطعٍ فنية من عالمين يزخران بالثقافة والفنون والعلوم: الصين (التنين) من جهة، والعالم الإسلامي (طائر العنقاء) من جهة أخرى. ويبين الروابط والتأثيرات الفنية والقصص الرائعة التي لم يروها أحد من قبل، والتي تتمحور حول أكثر من 800 عام من التبادل عبر طرق التجارة البرية والبحرية على حد سواء، منذ أن أنشأ التجار العرب أول مقرات لهم في كانتون في القرن الثامن وحتى بداية القرن الثامن عشر.
المعرض من تنسيق صوفي مكاريو، رئيسة المتحف الوطني للفنون الآسيوية – غيميه، بدعم من الدكتورة ثريا نجيم، مديرة إدارة المقتنيات الفنية وأمناء المتحف والبحث العلمي في «اللوفر أبوظبي»، وغيليم أندريه، أمين متحف رئيسي لقسم الفنون الآسيوية وفنون العصور الوسطى في «اللوفر أبوظبي».

القطع الفنية
يضم المعرض مجموعة متنوعة من القطع الفنية تشمل على سبيل المثال قدحاً نادراً بعروة على هيئة تنين مصنوعاً من الذهب يعود إلى سلالة يُوان في الصين (1279 - 1368)، وقد ابتُكرت هذه التحفة الفنية التي تعود إلى مجموعة اللوفر أبوظبي لشخص رفيع المستوى من الرحالة شمال الصين على الأرجح. كما يشمل المعرض مجموعة من أروع الأقمشة الحريرية الفاخرة التي عرفها التاريخ، مثل حرير باني تارتاريشي (التتار)، وهو حرير بخيوط ذهبية من منسوجات إمبراطورية المغول، مُستعار من المتحف الوطني للفنون الآسيوية - غيميه، يعكس بوضوح التأثر بمنسوجات مناطق مثل إيران والشرق الأدنى وآسيا الوسطى. إضافة إلى ذلك، يقدم المعرض لزواره حيواناً خرافياً مصنوعاً من الفضة، يُعتقد أنه تنين، من مجموعة المتحف الوطني للفنون الآسيوية - غيميه، يبرز أسلوب النقر بالإزميل على الفضة المطلية بالذهب، وهو إبداع نادر من سلالة لياو (906/907 - 1125). كما يسلط المعرض الضوء على «لقاء القلمين»، الفرشاة من الصين وقلم القصب من العالم الإسلامي، وذلك من خلال مجموعة رائعة من الرسومات والمخطوطات واللوحات المرسومة بالحبر، بغية إظهار أوجه التشابه بين تقاليد الكتابة في الثقافتين، والمعاني الروحية التي يحملها الخط.

أقسام المعرض الخمسة
يأخذ القسم الأول من المعرض الزائر في رحلة ما بين القرن الثامن والقرن العاشر، حين نشأت الصلات بين الحضارتين عبر الطرق البحرية والبرية. ويُطلع هذا القسم الزائر على رحلات المسافرين والتجار من الغرب، وعلى السلع والتقنيات التي رأت النور نتيجة هذا اللقاء بين الثقافات. وتجسد القطع الفنية في هذا القسم التجار الذين سلكوا هذه الطرق، مثل تمثال حادي إبل على ظهر جمل من القرن السابع من شمال الصين (مُستعار من المتحف الوطني للفنون الآسيوية - غيميه)، إلى جانب أوانٍ إسلامية على نمط الخزفيات المزججة بثلاثة ألوان وأوانٍ فضية صينية ذات زخارف غربية بشكل واضح.
أما القسم الثاني، فهو يُعنى بجماليات سلالة سونغ الصينية والجماليات السلجوقية (القرن الحادي عشر - القرن الثالث عشر)، ويبين الظروف التي تم في سياقها اللقاء بين السلالتين الناشئتين. فقد ألهمت الجماليات البوذية رموز القوة في العالم الإسلامي الشرقي، لا سيما من حيث تمثيل الحكام والملوك. ويظهر ذلك جلياً، على سبيل المثال، في طبق مزخرف بمشهد عَرش يعود لأواخر القرن الثاني عشر، وفي ورقة من مخطوطة شعرية لأمير جالس على العرش وحاشيته حوله من القرن الرابع عشر، وهما عملان مُستعاران من متحف اللوفر. يُظهر الاستخدام المتزايد لطريق الحرير البحرية في عهد سلالة سونغ الحاكمة تصدير المنتجات الصينية على نطاق واسع عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر عبر مراكب الداو الشراعية التقليدية التي استخدمها العرب في رحلاتهم التجارية. كما يشهد السيراميك الذي وُجد على شواطئ شرق أفريقيا ومدغشقر وجنوب شرقي آسيا والفلبين على هذه التبادلات التجارية. بالنسبة إلى القسم الثالث من المعرض، فهو مخصص للتفاعلات الفنية التي نشأت في ظل السلالات المغولية (القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر) وتأثيراتها على الشرق الإسلامي. ففي هذه الحقبة الزمنية ظهر الخزف الأزرق والأبيض الشهير من الأفران الإمبراطورية في جينغدتشن في الصين. يسلط هذا القسم الضوء على استخدام اللون الأزرق الكوبالت المستورد من غرب آسيا إلى الصين، والجماليات الجديدة المحسنة التي اعتمدها الخزافون الصينيون. ففي هذه الفترة، عززت الصين إنتاج سلع الكماليات التي تصدرها، وذلك خصيصاً لتلبية طلبات العالم الإسلامي. ويضم هذا القسم على سبيل المثال طبقاً كبيراً صُنع في القرن الرابع عشر في ظل حكم سلالة يوان، مُستعاراً من المُتحف الوطني للخزف - سيفر، وهو يُعتبر أكبر طبق من نوعه مزخرف بالأبيض والأزق ومصنوع بما يتناسب مع عادات مجتمعات آسيا الوسطى. إضافة إلى ذلك، تشهد الأعمال ذات الطبقة المزججة بلون أخضر زيتوني والأعمال الخزفية الأخرى على التبادل الفني النشط بين الحضارتين. ففيما يرى الزائر طبقاً مزخرفاً بحلقة أسماك من إيران (مُستعار من متحف اللوفر)، يرى في المقابل طبقاً بطبقة مزججة بلون أخضر زيتوني من لونغشوان في الصين (مُستعار من المتحف الوطني للفنون الآسيوية - غيميه). تُظهر القطعتان بوضوح زخارف مشتركة بما في ذلك الحيوانات الخرافية، مثل التنين والعنقاء والكيلين الأسطوري الصيني، إلى جانب الأنماط النباتية، مثل العنب والفاوانيا ومخطوطات الكرمة، التي تشهد على النقل المتكرر للرموز والأشكال. كما تشكل الأقمشة مثالاً إضافياً على هذه التبادلات في الوقت الذي وضع فيه المغول قواعد الموضة الإسلامية والأوروبية في القرن الرابع عشر، وسهلوا تجارة الحرير في فترة معاهدة باكس منغوليكا.
أما القسم الرابع من المعرض، بعنوان «المبادلات المتآلفة»، فهو يضع تحت المجهر التبادلات الفنية التي شهدتها الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر، إذ تأثرت كل ثقافة بالأخرى، وهو أثر جلي من خلال القطع الفنية المعروضة في هذا القسم. فابتداءً من القرن الخامس عشر، بدأت الأفران الإمبراطورية في جينغدتشن في الصين بتقليد أشكال الأواني المعدنية المصنوعة في العالم الإسلامي، مثل الإبريق المزخرف بصور الأبراج الفلكية من هرات (من مجموعة اللوفر أبوظبي). ويبرز ذلك التبادل بين الحضارتين جلياً في قطع مثل الخزف الأزرق والأبيض من سلالة مينغ (1368 - 1644). فتقليد هذه الأشكال الفنية يسلط الضوء على ظاهرة انتشرت في ذلك الوقت، وهي المجموعات الصينية من الأواني المعدنية الإسلامية المطعمة. إلى جانب ذلك، يوضح هذا القسم تأثير الخزف الصيني في فيتنام والإنتاج الفني في جنوب شرقي آسيا الإسلامي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)