في وداع أكرم صاغيّة

أكرم صاغيّة
أكرم صاغيّة
TT

في وداع أكرم صاغيّة

أكرم صاغيّة
أكرم صاغيّة

اسمحوا لي أن أُخبركم أشياء قليلة عن أكرم الذي نلتقي اليوم لتكريمه. والحال أنّني حين أذكر أكرم، أذكر عدداً من الصفات العريضة التي لا يتّسع لها شخص واحد.
فأكرم، قبل أيّ شيء آخر، كان صانع نفسه، أو مخترع نفسه. لم يكن يعنيه كثيراً ما حمله وما ورثه من أسماء أو دلالات، أو من أمكنة صدر عنها. فالعالم، عنده، ظلّ مسرحاً كبيراً للاختبار وللتجريب، يسأله ويسائله ويتغيّر بموجبه ويحاول أن يغيّر فيه. حتّى اسمه كان اسمين، واحداً ورثه، وهو أكرم، وآخر صنعه، وهو مارك، وفي أحيان أخرى ماركو. وأظنّ أنّ هذا الاسم الأخير استوحاه من ماركو بولو، ذاك التاجر والرحّالة الذي غادر البندقيّة في أواخر القرن الثالث عشر وراح يجوب بلدان آسيا. فحين عاد إلى بلده إيطاليا، عرَّف أهلها بالصين واليابان والهند وبلاد فارس.
يومذاك كان العالم صغيراً، فكبَّره ماركو بولو بأخبار الناس المختلفين وأخبار المدن والبحار. وأكرم كان يعشق المدن التي يكتشفها سيراً على القدمين، وكان متوسّطيَّ الروح تستهويه الشطآن البعيدة في الإسكندريّة كما في مارسيليا أو برشلونة، كما تستهويه اللغات الأخرى والشعوب الأخرى بثقافاتها وسياساتها، بملابسها وعاداتها وأغانيها ومآكلها، ودائماً بحسّ الدعابة لديها. كان يكره الانحصار في مكان ما والاكتفاء بهويّة بعينها، أو التعصّب لدين أو جماعة أو وطن، فكان حرًّا بالمطلق، يعيش كما لو أنّه مُنتَدَب إلى الحرّيّة، أو منفيُّ في الحرّيّة، وهذا ما أعطاه وجه الغريب الدائم في عالم يزداد فيه تقوقع النفس على نفسها والولاء للموروث والمعطى.
هكذا اختار أكرم لنفسه المهن التي تتيح له أن يدافع عن إنسانيّة الإنسان، لا عن لونه أو دينه أو قومه. اختار «أمنستي إنترناشونال» لأنّها تقف مع من يُقهَر بسبب رأيه، كائناً ما كان هذا الرأي، واختار أن يكتب لجريدة «الحياة» مقالات تعرِّف بما يجدّ في الإعلام وفي وسائل التواصل، وهي مهمّةٌ بلغت مداها في مجلّة «كورييه إنترناسيونال»، حيث تولّى لعشرين سنة مسؤوليّة تعريف القارئ الفرنسيّ بالشرق الأوسط، تماماً كما كان يفعل أستاذه ماركو بولو قبل أكثر من سبعة قرون.
وكان يسخر من الأفكار التي لا يستسيغها، لكنّه نادراً جدّاً ما حقد على أصحابها أو كرههم. وكان كريماً ومتواضعاً، بالغ الشعور بفرديّته وعديم الشعور بأنانيّته.
لا يتحدّث عن نفسه ولا يطلب لنفسه إلاّ أقلّ ممّا تستحقّ، يتذكّر القليل الذي يُعطى له ويذكِّر به فيما ينسى الكثير الذي يعطيه لسواه. أمّا العواطف فكان يحبسها في صدره دون أن يُثقل بها على الآخرين. وربّما كان من أبلغ ما قيل فيه عبارة كتبتها الأديبة دومينيك إدّه: «رجلٌ كبير أراد أن يكون لا أحد».
وحين رحل أكرم، مشى على رأس أصابعه كي لا يزعجنا. دخل غرفته وأغمض عينيه ونام وتركنا ساهرين.



نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.