اللبنانيون يتخذون الريف ملاذاً من الأزمات

عشرات الآلاف تركوا مدنهم... والسبب انقطاع الكهرباء والبطالة

ينزح اللبنانيون في شكل متزايد من المدينة نحو الجبال
ينزح اللبنانيون في شكل متزايد من المدينة نحو الجبال
TT

اللبنانيون يتخذون الريف ملاذاً من الأزمات

ينزح اللبنانيون في شكل متزايد من المدينة نحو الجبال
ينزح اللبنانيون في شكل متزايد من المدينة نحو الجبال

كان حلم أهل الريف اللبناني في الماضي التوجه إلى المدينة لتحقيق أحلامهم ولتحفيز طموحات أبنائهم. فالخدمات التي تقدمها لهم قراهم قليلة، ولا تجاري التطور والحداثة اللذين يبحثون عنهما لمستقبل مضيء. اليوم، ومع توالي الأزمات في لبنان من معيشية واقتصادية، وانقطاع التيار الكهربائي والوقود، وما إلى هناك من مشكلات جمّة، انقلبت حياة اللبنانيين رأساً على عقب. فالإقامة في الريف صارت اليوم هدفهم الرئيسي، وطاقة الأمل التي يستطيعون التنفس منها. لا تتوفر أرقام دقيقة حول أعداد العائدين إلى القرى والأرياف بشكل نهائي. وبحسب «الدولية للمعلومات»، فإنه من الممكن رصد ذلك من خلال عيّنات أُخذت من عشرات القرى، بحيث يشكل العائدون من سكانها ما نسبته 5 إلى 7 في المائة.
وإذا ما اعتبرنا أن عدد المقيمين في القرى والأرياف يقارب نسبة 25 في المائة من اللبنانيين المقيمين، أي نحو1.1 مليون لبناني، فإنّ عدد العائدين يتراوح ما بين 55 ألف شخص و77 ألف شخص، وهذه الأعداد مرشحة للازدياد مع اشتداد الأزمة وتفشي البطالة وارتفاع كلفة المعيشة في المدن مقارنة بالقرى.
وتقول ليا سعد، وهي طالبة جامعية نزحت مع عائلتها من منطقة فرن الشباك البيروتية إلى بلدة بطلون الشوفية «إن ما دفعني وأهلي للنزوح إلى الريف يعود لأسباب عديدة». وتتابع لـ«الشرق الأوسط»، «انقطاع التيار الكهربائي شكّل السبب الرئيسي لقرارنا هذا، سيما وأننا في فصل الصيف والطقس حار جداً. أما المولدات الكهربائية فأطفأها أصحابها بسبب عدم توافر مادة المازوت. وبالتالي، أصبح والدي عاطلاً عن العمل، هو الذي كان يشتغل سائقاً عمومياً؛ وذلك بسبب ندرة مادة الوقود. حسمنا أمرنا وانتقلنا إلى منزلنا الريفي، وهنا افتتحنا بسطة لبيع الخضراوات والفواكه. صحيح أن حياتنا انقلبت رأساً على عقب، ولكننا في الريف نستطيع أن نتدبر أمرنا بشكل أفضل، وأن نعيش كل يوم بيومه إلى حين انتهاء هذه الأزمات».
أما نبيل من بلدة الحمصية الجنوبية، فيشير إلى أنه استأجر منزلاً صغيراً له ولعائلته ليمضي فيه فصل الصيف. لماذا؟ يوضح لـ«الشرق الأوسط»، «لقد تدبرت عملاً لي في أحد مطاعم بلدة جزين، بعدما أقفل المقهى الذي كنت أعمل فيه وسط بيروت. فهذه الأخيرة أصبحت كمدينة أشباح في ظل انقطاع التيار الكهربائي وإقفال المقاهي والمطاعم فيها». ويتابع «هنا أتنفس الصعداء بفضل طقس أكثر برودة بعيداً عن الحرارة المرتفعة التي نعاني منها في بيروت. وزوجتي تعمل في مجال الخياطة، ولكنني بالتأكيد سأعود إلى بيتي في بيروت، والأمر يرتبط بالأوضاع».
ومن يقوم بجولة عابرة على بعض البلدات الكسروانية والمتنية لا بد أن يلفته الازدحام في ساحاتها وعلى شرفات بيوتها. وهي ظاهرة، تذكرنا بحِقْبات سابقة شهدت فيها الجبال اللبنانية نزوحاً لأهل المدينة، هربا من الحروب التي كانت تدور هناك.
ويرى ربيع الهبر، صاحب شركة «ستاتيكتيس» للإحصاء، أن ما نراه اليوم في لبنان ونزوح الآلاف إلى الريف هو بمثابة ظاهرة مؤقتة، ينتهي مفعولها مع عودة الحياة الطبيعية إلى المدينة. ويضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»، «إن شركتنا بصدد القيام بدراسة حول هذا الموضوع. وهناك مبدئياً نحو 20 في المائة من سكان بيروت أي نحو 120 ألف شخص نزحوا إلى الريف. ولعل الأسباب الأولى التي أدت إلى ذلك انقطاع التيار الكهربائي. فسكان الطوابق العليا بات من الصعب عليهم التحرك كعادتهم. وهم رأوا في الريف حلّاً مؤقتاً يبتعدون خلاله عن الحرارة المرتفعة حالياً، فهم لا يستطيعون تحملها من دون مكيف. وأعتقد أنه مع نهاية فصل الصيف وعودة الطقس البارد سيعودون إلى المدينة من جديد». ويرى الهبر، أن تمضية فصل الشتاء في الريف هو أمر مكلف جداً، خصوصاً أن مادتي المازوت والبنزين مفقودتان. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»، «كل ما يقال عن نية عدد لا يستهان به من سكان بيروت البقاء في الجبال القريبة أو الريف هو كلام غير دقيق. حالياً، وفي ظل فصل الصيف، يمكنهم أن يبقوا لفترة في تلك المناطق. ولكنهم فيما بعد سيضطرون إلى ممارسة أعمالهم في المدينة؛ وهو ما سيدفعهم للعودة القريبة إليها».
ومن ناحيته، يقول جورج حنا من بلدة كرخا شرقي صيدا، إنه اتخذ قراره في العودة إلى بلدته الأم منذ بداية أزمة انقطاع التيار الكهربائي في بيروت، ويشرح «أسكن في الطابق الثامن لعمارة في منطقة الدكوانة. لقد تعبنا من سجن أنفسنا في البيت بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وهو ما لا يساعدنا على التحرك براحة. وعندما رأيت ابنتي المراهقة تبكي وتطالبني بالهجرة من لبنان، لم أستطع إلا أن أفكر بحلّ يمكنه أن يريحها؛ إذ لا أملك القدرة المادية التي تخولني الهجرة إلى الخارج. لذا انتقلت إلى العيش في بلدتي، هنا ابتعدت ابنتي عن ضغوط المدينة التي نعيشها بسبب انقطاع التيار الكهربائي. فالطقس يميل إلى البرودة وفي استطاعتنا تمضية وقت أطول مع الأقرباء. ولكننا بالتأكيد سنعود إلى بيروت مع بداية الفصل الدراسي».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».