هل لا يزال نجيب محفوظ «مهيمناً» على الرواية العربية؟

بعد 15 عاماً على رحيل صاحب جائزة نوبل

هل لا يزال نجيب محفوظ «مهيمناً» على الرواية العربية؟
TT

هل لا يزال نجيب محفوظ «مهيمناً» على الرواية العربية؟

هل لا يزال نجيب محفوظ «مهيمناً» على الرواية العربية؟

رغم رحيله قبل 15 سنة في مثل هذا اليوم، يرى بعض الروائيين والنقاد أن نجيب محفوظ لا يزال يحظى بهيمنة واسعة النطاق في المشهد الروائي العربي، بمعنى أنه لا يزال يغطي على كثير من الروائيين الجيدين. الكل يتفق أن صاحب «أولاد حارتنا» قد أرسى دعائم الرواية العربية الحديثة، وحقق عبر أعماله إنجازاً روائياً غير مسبوق، وأن روائيين كثيرين قد خرجوا من تحت معطفه، ولكن أيضاً هناك العديد من الروائيين في أكثر من بلد عربي قد حققوا منجزات مهمة، لكن لا يزال الحضور الطاغي الذي حققه محفوظ، يحجبهم إلى حد ما، حسب آراء أخرى.
هل يكمن السبب «في تنوع وثراء وحجم منجزه كماً وكيفاً، وبراعته في التعبير عن الجانب المظلم من النفس الإنسانية، فضلاً عن تنقله برشاقة بين العديد من المدارس والاتجاهات الإبداعية»، كما يعبر أحد الروائيين المشاركين في هذا الاستطلاع؟
أم أن الهيمنة والرهبة والمهابة التي حظي بها محفوظ، حولها البعض إلى «رهاب يحول دون إعادة النظر في أدبهِ، خشية الاتهام بالتطاول، أو البحث عن الشهرة أو الشوشرة أو الحسد والغيرة»، بحيث أصبح صاحب نوبل عصياً على المراجعة أو التقييم، ولا يتم الاقتراب منه إلا في سياق احتفالي؟ كما يعبر روائي آخر في هذا الاستطلاع.
هنا آراء عدد من الروائيين العرب من أجيال مختلفة:

كمال الرياحي (روائي تونسي): درس لم نستوعبه بعد
لم يكن نجيب محفوظ تجربة روائية واحدة لكي تطويها التجارب الأخرى. كان منجماً للتخييل والعطاء. اطلع على الشكل الروائي الغربي ولم يترك تياراً إلا واختبر نصه فيه؛ من الرواية الواقعية إلى التاريخية إلى الذهنية. لم يسقط في فخ الآيديولوجيا، وحمى نصوصه من «المباشرتية»، وظلت قوته في وعيه باللغة، فلم يحمل اللغة الروائية ما لا تحتمل وابتعد عن الاستعارة وبلاغة المجاز والشعرية فكانت اللغة عنده براغماتية وشعريتها في روائيتها، وروائيتها في إيهامها بالواقعية، تماست مع العامية دون أن تكونها ونطقت الشخصيات بأصواتها وهذا هو الدرس المحفوظي المفقود في الرواية العربية إلى اليوم، والذي لم يتعلمه بعض الروائيين وما زالوا يتحدثون عن البلاغة بمفاهيمها الشعرية على الرواية، بينما التقط الدرس عدد من الروائيين الآخرين وحققوا نجاحات مهمة مكنت نصوصهم من عبور العربية ذاتها.
كان محفوظ تلميذاً وفياً لبلزاك ولستاندال ومورياك، لكنه وطن الشكل الروائي الغربي في القاهرة. إن عبقريته تظهر بوضوح في إعادة اختراع الأمكنة وجعلها كائناً حياً عالمياً، ويكفي هنا الإشارة إلى «خان الخليلي». كتب محفوظ عن المهمشين من الفتوات في الحواري في «الحرافيش»، وعن المجرمين الصغار والغانيات. وضفر السياسة بذكاء في «اللص والكلاب»، وكتب عن المثقف والموظف البسيط والعامل والعاطل والفلاح والشخصية التاريخية. إن خطورة محفوظ كمفكر وفيلسوف في رواياته هو ما دفع بالمتطرفين إلى محاولة اغتياله لأنه أصبح ذهنية قوية تهدد ذهنية التحريم والتكفير التي يدينون بها.

محمد بركة (روائي مصري): التجاوز ورفض الوصاية
أعتقد أن نجيب محفوظ هو القدر السعيد الذي يلازم كل مبدع روائي في خطواته الأولى، فمثلما لا يمكن أن تكون مطرباً جيداً دون التعرف على عالم أم كلثوم، يصعب أن تكون روائياً مهماً دون أن تدلف عبر بوابة هذا الرجل الذي يستحق لقب «عميد الرواية العربية» بامتياز. والسبب ببساطة يكمن في تنوع وثراء وحجم منجزه كماً وكيفاً، وبراعته في التعبير عن الجانب المظلم من النفس الإنسانية، فضلاً عن تنقله برشاقة بين العديد من المدارس والاتجاهات الإبداعية، لكن ثمة مشكلة حقيقية تبرز في هذا السياق في اتجاهين أساسيين يحكمان نظرتنا لمنجز هذا الرجل: الأول يراه في سياق مقدس، يخلع عليه الكثير من الحصانة ضد النقد، بحيث يصبح صاحب نوبل برأيهم عصياً على المراجعة أو التقييم، ولا يتم الاقتراب منه إلا في سياق احتفالي تغشاه الأضواء المبهرة. الثاني ينال منه بشكل متعسف ولأسباب غير موضوعية تبدو أقرب إلى «الغيرة» و«مماحكات أبناء المهنة الواحدة».
من تجليات النوع الثاني ما وجدناه لدى يوسف إدريس في اتهامه الشهير لمحفوظ بأنه حصل على «نوبل» نظراً لميوله السياسية وموقفه المؤيد للسلام مع إسرائيل، وأن الرواية هي فن المدينة، لكن نجيب محفوظ حوّلها إلى فن الحارة من خلال أعمال «بلزاكية» تقليدية تفتقر إلى العمق والحداثة، وكذلك الكاتب المغربي محمد شكري في كتابه «غوايات الشحرور الأبيض»، حيث اتهم محفوظ بـ«الأسلوب المتلاعب»، و«النقص في التجربة العميقة»، فضلاً عن انتقاص الناقد د. لويس عوض الذي لم يَرَ في روايات محفوظ سوى أنها وصف آخر لمصر، على غرار كتاب «وصف مصر» الذي وضعه فنانون وباحثون فرنسيون رافقوا حملة بونابرت على مصر.
نحن بحاجة إلى طريق ثالث في النظر إلى الإرث المحفوظي يعلي من قيمته لكن يركز على قيمة تجاوزه وعدم البقاء طويلاً تحت وصاية أبوته، تلك القيمة التي نستشرفها من تجارب الرجل نفسه فقد تجاوز جميع أساتذته ثم معاصريه، بل سعى لتجاوز ما سبق أن قدمه هو ذاته، ساعتها سيظل محفوظ مهيمناً على الفضاء الإبداعي العربي عبر الدروس المهمة التي نستخلصها من مسيرته مثل الاستمرارية والدأب والتخطيط والصرامة في إدارة الوقت.

هوشنك أوسي (روائي كردي سوري): هيمنة بحاجة إلى مراجعة
لا يزال نجيب محفوظ يحظى بهيمنة واسعة النطاق في المشهد الروائي العربي، بشكل عام، وفي مصر على وجه الخصوص. ويكاد يتحول إلى رمز قومي مصري أو عربي. ويمكنني إحالة خلفية تلك الهيمنة إلى أسباب ثلاث هي:
أولاً: الجهد الإبداعي الثري والمهم الذي بذله محفوظ، خلال مسيرته، قبل فوزه بجائزة نوبل. ما يعني أن خزانته من التجارب الإبداعية غنية ومتنوعة، أمنت وتؤمن له رصيداً ورأسمالاً أدبياً كبيراً، يمنح أدبه التفويض في استمرار السلطان والهيمنة.
ثانياً: صحيح أن نجيب محفوظ هو نجيب محفوظ، مع أو بدون جائزة نوبل. لكن، الصحيح أيضاً أنه لا يمكن إغفال دور ووزن وأهمية جائزة نوبل للآداب، التي حصل عليها بعرق جبينه وكد يمينه، في ترسيخ وتكريس محفوظ روائياً ذا مهابة وسلطة وهيمنة على المشهد، تكاد تصل لحد العصمة والرهبة.
ثالثاً: حركة النقد التي كانت (مع وضد) محفوظ، قبل فوزه بجائزة نوبل، أصبحت بعد وفاته معه وزادت من ترسيخه وتكريسه، وكأنه «ليس كمثله شيء» في عالم والأدب والرواية، ناهيك عن حصر الإبداع في «السلف الصالح» من الأدباء، وفي طليعتهم نجيب محفوظ. وبعد مرور عقد ونصف العقد على رحيله، لا نكاد نعثر على ملمح من ملامح النقد (المثلبي) الذي يرى في أدب نجيب محفوظ ما يمكن تسجيل النقاط عليه، وليس تسجيل المزيد من النقاط له. ليس هذا وحسب، بل كل مَن يحاول إعادة النظر في أدب محفوظ، بنسبة أقل افتتاناً، ويشير إلى بعض نقاط الضعف في تجربته الروائية، نرى بعض النقاد أو أغلبهم، يستشيطون غيظاً وغضباً، ويردون: مَن يمكنه انتقاد نجيب محفوظ، يجب أن يكون من وزنه! وحتى لو توفر ذلك الشرط المنتقد، لأثيرت الشبهة على الناقد، وتم التعامل معه على أنه يستهدف مصر أو الأدب العربي.
إن الهيمنة والرهبة والمهابة التي حظي بها محفوظ، حولها بعض النقاد إلى رهاب يحول دون إعادة النظر في أدبهِ، خشية الاتهام بالتطاول، أو البحث عن الشهرة أو الشوشرة أو الحسد والغيرة؛ وهذا ليس انتقاصاً من أهمية ووزن محفوظ، بل رغبة في التعامل معه، بمزيد من الإنصاف والتوازن.

هيلانة الشيخ (روائية سعودية): جماليات لا تنتهي
مات كل الحكاءين ولم يمت نجيب، وهل كان محفوظ حكاءً أم روائياً؟ هذا السؤال يراودني كلما مرت ذكرى وفاته، رغم يقيني أنه الروائي العربي الوحيد الذي لم ولن يموت. وأتساءل: هل خلدت جائزة نوبل نجيب محفوظ؟ أم خلدها هو؟ لولا انفراد محفوظ بهذه الجائزة المثيرة للشك لما أصبحت هاجس كل روائي أو شاعر عربي. كنت طفلة عندما تردد اسم هذا النجيب فأثار فضولي فبدأت أقرأ له بنهم، بعدها استوعب عقلي أن بعض الأفلام التي أعشقها هي صنيعة قلمه الجبار، وأصبت بعشق الكتابة والقراءة، ولما نضجت سرقني إحسان عبد القدوس من نجيب لوهلة وقلت: لماذا مات إحسان عبد القدوس ولم يمت نجيب؟ ومع مرور السنوات أيقنت أن نجيب محفوظ هو الروائي الوحيد المُخلد في كل الأجيال مهما حاول الحاقدون اقتلاع جذوره من رؤوسنا.
خمسة عشر عاماً على وفاته في كل عام يحتفي العالم بذكراه التي يُغضب المصريون المساس بها، مات بعد ثمانية عشر عاماً من حصوله على نوبل. وقعت عيني على قصته «زعبلاوي» التي ربما لم تحظ بشهرة باقي أعماله لكني وجدت فيها ما لم أجده في سواها؛ كيف ابتدعها هذا الرجل وكتبها بهذه الفلسفة العبثية قبل حوالي ستين عاماً، ونحن اليوم نسير كالسلاحف الهرمة نحمل أسفارنا ونبحث عن الحداثة! اختزل في هذه القصة كل مناهج الحداثة فبدأ رحلته من الفوق إلى الأسفل، من المعرفة إلى الجهل، والبحث عن الوجودية محاكاة مع رواية «في انتظار غودو» للآيرلندي صمويل بيكيت، توغل نجيب في هذه القصة في فلسفة عبثية بين الواقعية والخيالية، ستون عاماً وما زلت أنبش في سطوره عن جماليات السرد وعوالم وسحر الرواية ولم أنته.

ريم بسيوني (روائية مصرية): الحارة الشعبية طريقه للعالمية
نجيب محفوظ سيظل مهيمناً على فضاء الرواية العربية بسبب اتساع «قماشة» أعماله وشموليتها وتنوع الموضوعات التي قام بمعالجتها عبر حقبات تاريخية مختلفة. صحيح أنه اتخذ من الحارة الشعبية مسرحاً لأعماله، إلا أنه استطاع بمهارة فائقة أن يصل للعالمية من خلال تجسيد صراعات البشر وأشواقهم للحرية في كل مكان وزمان عبر أحلامهم وتمزقهم بين الخير والشر. قدم الرجل قوالب روائية متنوعة مثل عالم الواقعية السحرية في «ليالي ألف ليلة»، وقضايا الوجود الإنساني كما في «قلب الليل» و«الشحاذ» ورواية الجريمة كما في «اللص والكلاب»، كما مزج الواقعية السحرية بالتاريخ في «أولاد حارتنا» و«الحرافيش». أضف إلى كل ذلك لغته الواضحة السلسلة التي لا تتنازل عن الفصحى ولكنها تبقى سهلة الوصول للقارئ العادي.

الغربي عمران (روائي يمني):
كان وسيظل مهيمناً
محفوظ ليس مجرد أديب عابر. فمن قبل أن ينال نوبل، وهو أستاذ لجيل عريض من الأدباء العرب. سيل إبداعه مثل حالة لم تتكرر في الأدب العربي، موضوعياً وفنياً، خاصة بعد أن تحولت أكثر أعماله إلى أعمال فنية تلفزيونية وسينمائية ليتجاوز النخبوية إلى الشعبية، إذ أن الأعمال المأخوذة عن رواياته أوصلته وبقوة إلى جميع الشرائح حتى الأميين في أقطارنا العربية. وبهذا وصلت أعماله وانتشرت لتسهم وبقوة في تشكل الوعي الجمعي للمجتمعات. محفوظ برقي أعماله من خلال نوبل إلى العالمية وترجمتها أضحى في مصاف العظماء عربياً وعالمياً والسفير الأوحد للأدب العربي. خدم الرجل الأدب العربي بل غير الكثير في الوعي الإنساني بغوصه في أعماق الشخصية العربية. كان مهيمناً وإلى اليوم وسيظل كنجم كبير تتبعه نجوم كبيرة؛ استطاع أن يحتوينا جميعاً، وسبر أغوار المجتمع من خلال شخصياته الروائية المتنوعة. أيضاً ألاعيبه الفنية نهل الجميع منها، لا سيما قدرته على تصوير ورسم الشخصيات من الداخل. فكل كاتب في بداية طريقه يتأثر بمحفوظ وفنه، ثم يسعى كلما نضج لتجاوز أبوته والبحث عن ذاته.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.