حافلة قديمة تنطلق من تركيا إلى الحدود الغربية تحمل مهاجرين غير شرعيين يبحثون عن ملاذ آمن. تخترق بدراية سائقها البلد تلو الآخر وصولاً إلى نهاية الرحلة في عاصمة غربية. يجمع السائق جوازات سفر الركّاب وأموالهم بحجة تدبير إقامات لهم ثم يفر بما جمعه تاركاً رجالاً ونساءً وأطفالاً في تلك الحافلة المتوقفة الآن في شارع وسط المدينة.
خلال النهار هم داخل الحافلة مختبئين وراء ستائر النوافذ المسدلة خشية الخروج إلى الحياة. في الليل يتسرّبون من الحافلة كما الجرذان يبحثون في القمامة عما يأكلونه. اللقطة الأخيرة للحافلة من بعيد ما زالت في مكانها وبمن فيها بانتظار يوم مجهول.
هذا ملخص لفيلم تركي شوهد لأول مرّة في مهرجان قرطاج السينمائي (خارج المسابقة) بعد عام من تاريخ إنتاجه سنة 1975. من إخراج باي عكان وموقع IMDB يصنّفه خطأً كفيلم كوميدي وهو أبعد ما يكون عن الكوميديا، بيضاء أو سوداء.
محتوى هذا الفيلم الجيد ينخرط تماماً في موجة الأفلام الحديثة التي تتناول موضوع الهجرة غير الشرعية غالباً من بلاد مشرقية إلى غربية. الموضوع له جانبان مهمّان: الأول المهاجرون الآتون من بلاد عصفت بها الحروب وضاقت فيها سبل العيش والأمان، والثاني الدول التي تستقبل هذا الزحف من طالبي الهجرة الذين يصلون إلى شواطئ أو أراضي تلك الدول بلا تأشيرات، مما يجعلهم لاجئين غير شرعيين حتى يتم البت بأمرهم.
هجرة أميركية
لكن الهجرة، شرعية أو غير شرعية، ليست حكراً على قارة واحدة ولا حتى على بلد دون آخر. طلب الأمان والسعي لحياة أفضل حرّك عشرات الملايين الناس من مكان إلى آخر في مراحل عديدة من الحياة على الأرض. في الواقع لا يوجد بلد بلا مهاجرين أمّوه سواء أكان هذا البلد عربياً أو آسيوياً أو أفريقياً أو أميركياً أو أوروبياً. عبر التاريخ دول الجوار أوردت أو تسلمت مهاجرين كُثرٌ. هذا عدا عن الهجرات التي ارتبطت سياسياً واقتصادياً، بنظم وقوى عالمية.
أول فيلم مهم تناول حكاية مهاجرين كان «المهاجر» لتشارلي تشابلن. هو فيلم قصير (24 دقيقة) حول تشارلي تميل به والركاب الباخرة التي تقلّهم إلى أرض الميعاد. سُحابة عاطفية تتم عندما يتعرّف على مهاجرة (إدنا بوريفانس) ويساعدها. هي رحلة تحد وحين تصل الباخرة إلى نيويورك تستمر على هذا المنوال.
هناك أكثر من فيلم حول العالم بالعنوان نفسه، وأحدها هو فيلم أميركي آخر عن رِحال أوروبي في مطلع القرن أخرجه جيمس غراي سنة 2013 من بطولة الفرنسية ماريون كوتيار والأميركي يواكين فينكس الذي يحاول مساعدتها ضد شخص يريد الاستيلاء على مصيرها في البلاد الجديدة كونها وحيدة.
بين هذين الفيلمين أنجز السويدي يان ترووِل فيلمين عن الموضوع هما «المهاجرون» (1971) و«الأرض الجديدة» (1972) ودار حول أقدار عائلة سويدية هاجرت إلى الغرب الأميركي. ما عرضه ترووِل في نحو 400 دقيقة (مجموع دقائق الفيلمين) لا يقوم على حس المغامرات، بل على نقل واقعي لما قد يحدث لعائلة لاجئة في بلد جديد عليها بكل نظمه الاجتماعية والأخلاقية.
نستطيع أن نجد هجرة ومهاجرين في أفلام من أنواع مختلفة: أفلام وسترن، أفلام كوميدية، أفلام عن المافيا (يتصدّرها «العراب 2») وأخرى عن لاجئين من أميركا اللاتينية أو من آسيا أو من بلد عربي كما حال فيلم «الموريتاني» لكَفِن مكدونالد (2021) مع طاهر رحيم في دور العربي الذي التقط في المطار حال وُصوله.
هجرة شرقية
لكن الهجرة العربية إلى الدول الأوروبية هي التي تسود حكايات ومواضيع أفلام اليوم. وقد سبق لهذه الصفحة أن عرضت لفيلمين حديثين حول الموضوع هما «رجل خشب» لقتيبة الجنابي و«أوروبا» لحيدر رشيد. كلاهما عن حالة هرب من الماضي صوب مستقبل أوروبي غير مضمون. الشخصية الرئيسية في كل فيلم تبحث عن مستقر آمن بعيداً عن مطارديها (البوليس في الفيلم الأول وعصبة من المواطنين المتشددين في الثاني).
وقبل أيام، وفي عرض خاص، شاهد هذا الناقد فيلماً ثالثاً يشترك في الموضوع الماثل. الفيلم عنوانه «إلى السماء» لمخرج يمني شاب اسمه مصعب الحطامي. يبدأ الفيلم بمشاهد من معارك يخوضها الجيش الوطني اليمني ثم ينتقل إلى موازاة فيلم حيدر رشيد من حيث إن «بطل» «إلى السماء» وصل إلى بلد أوروبي بلا لجوء شرعي (إيطاليا في هذا الفيلم، بلغاريا في «أوروبا») مختاراً الركض بين أشجار غاباتها (كما الفيلم الآخر). ومثله، هناك مواجهة عنيفة في الفيلمين ينجو بطل كل فيلم منها تاركاً وراءه ضحية.
هل هي صدفة بليغة أن يفكر مخرجان لا يعرفان بعضهما بعضاً بموضوع متشابه في وقت واحد أو أن هذا الموضوع المتشابه هو خيار أول مفتوح؟
على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط شهدت السينما التونسية العديد من الأفلام التي دارت حول الهجرة. لكن ليس جميعها الهجرة إلى الدول الأوروبية. ففيلم رضا الباهي «زهرة حلب» (2016) عن شاب هاجر إلى سوريا لينضم إلى المجموعة التي تقاتل تحت راية المعارضة ولدوافع دينية. فيلم محمد بن عطية «ولدي» (2018) دار حول الابن، الذي ينخرط في القتال السوري تحت الراية ذاتها. في الأول تبحث الأم (هند صبري) عن ولدها وتجده في حلب. في الثاني يبحث الأب (محمد دريف) عن ابنه الذي وصل تركيا ومن تركيا دخل سوريا. لكن الأب يدرك حين يصل إلى الحدود التركية - السورية بأنه لن يستطع اللحاق به فيعود أدراجه.
أثر الهجرة على الآباء نجده كذلك في فيلم تونسي ثالث هو «بنزين» لسارة عبيدي حيث على العائلة تحمّل نتائج غياب الابن الغائب.
والوضع السوري عنوان رئيسي في كل ذلك الكم من الأفلام، تسجيلية أو روائية. نجده حتى في أفلام دارت حول لجوء داخلي كما حال أفلام جود سعيد («رجل وثلاثة أيام» و«العودة إلى حمص» و«مطر حمص» بين أفلام أخرى له) و«حرائق» لمحمد عبد العزيز و«يوم أضعت ظلّي» لسؤدد كعدان.
في هذا الاستعراض السريع يجب ألا يفوتنا أن أفلاماً أوروبية الصنع ساهمت وما تزال في تناول هذا الوضع الشائك. أفضلها في الأشهر الاثنا عشر الأخيرة «ليمبو» للبريطاني بن شاروك (عروض مهرجان تورونتو في العام الماضي) عن ذلك الشاب السوري الذي يعيش في قرية أسكوتلندية منتظراً أوراقه. الحركة قليلة هنا كالحياة لكن عدسة المخرج لا مثيل لها في فتح مخزون الهموم الإنسانية لبطله عمر (أمير المصري) وهموم من خلفهم وراءه.
وفي حين لا يمكن التعرّض لعشرات الأفلام العربية أو الأوروبية التي تداولت هذا الموضوع، يبرز فيلم المخرج السنغالي عثمان سمبان «فتاة سوداء» حول الفتاة السنغالية الشابة التي هاجرت إلى فرنسا وتبعات المتغيّرات الثقافية والاجتماعية في فيلم يحمل في كيانه جزأين من الحكاية.