«البلاد الجميلة»... كتاب مُصور يروي قصص النوبة المدهشة

الكتاب يعكس ولع الكاتب بـ«البلاد الجميلة»
الكتاب يعكس ولع الكاتب بـ«البلاد الجميلة»
TT

«البلاد الجميلة»... كتاب مُصور يروي قصص النوبة المدهشة

الكتاب يعكس ولع الكاتب بـ«البلاد الجميلة»
الكتاب يعكس ولع الكاتب بـ«البلاد الجميلة»

سحرت بلاد النوبة (جنوب مصر) المصور الفوتوغرافي المصري جلال المسري، بعدما وجدها حكاية مصرية طويلة وممتدة يتداخل فيها التاريخ مع الأساطير، وتمتزج فيها روعة الخضرة على ضفاف النيل والجبال والصخور مع المنازل البسيطة ذات الزخارف والألوان الزاهية، بينما شكلت روايات الأجداد وحكاوي الجدات مع أعمال كبار الأدباء حول أرض الذهب نسيجاً سردياً فريداً حفزه بدوره على السردين الأدبي والبصري معاً، إلى أن أصدر كتاباً مصوراً يعكس ولعه بـ«البلاد الجميلة»، حسب وصفه لها في العنوان.
لا تزخر المكتبة المصرية بالكثير من الكتب المصورة، فقلما تعثر على هذا النوع من الكتب بالمفهوم الصحيح له، رغم أنه من الثابت أن أول كتاب مصور في العالم اكتُشف في مقبرة «دير البرشا» في مصر، وهو كتاب «الطريقين»، الذي يعود تاريخه إلى 4 آلاف عام، وهو مزيج من الحروف الهيروغليفية والرموز المعروفة لدى المصريين القدماء. إلا أنّه في العصر الحديث لم تقدم الكتب المصورة في الغالب سوى حشد لعدد كبير من الصور وقليل من المعلومات «الجافة» بشكل منفصل، من دون دفء الحكي الجاذب للقارئ، وحتى حين أصدر الفنان الإيطالي كارمينيه كارتولانو 2012 كتابه المصور باللغة العربية «مصريان ويوميات مصور إيطالي»، فقد غلب عليه الطابع الضاحك والتناول السريع لخفة ظل المصريين من دون تعمق أو رابط ثقافي أو بصري مقنع بين أجزائه وصوره.
من هنا تنبع أهمية كتاب «البلاد الجميلة...حكايات مصورة عن النوبة» للفنان جلال المسري، فهو لا يرصد للقارئ عدداً من الصور أو المعلومات أو الوصف لمكان زاره وشعر بالشغف تجاهه، إنّما هي مجموعة قصص ممتزجة بمشاعر ورؤى تحتضنها دفتا الكتاب الذي يضم 4 فصول تتداخل فيها 14 حكاية شيقة مع 150 صورة ذات تقنية فنية عالية التقطها لها في الفترة من 2007 حتى 2021. بعد صفحات قليلة من البدء في القراءة يكتشف القارئ كيف تحولت «البلاد الجميلة» من مكان مبهر إلى غصن أخضر مُثمر ومُحفز على الإبداع في روحه ووجدانه وذاكرته، يقول المسري لـ«الشرق الأوسط»: «حين زرت النوبة أول مرة انبهرت بشكل البيوت والألوان وسحر الطبيعة، لكن تدريجياً اكتشفت أنّ هناك ما هو أكثر عمقاً من ذلك، وهو ما وراء زخارف البيوت وموتيفاتها من تراث وما تضمه جدرانها من بشر يتسمون بالطيبة والعفوية» ويتابع: «وجدت نفسي أحمل الكاميرا وأسافر إليهم مرات ومرات رغم بعد المسافة وحرارة الجو، وبعد أن كنت أنزل في فندق فاخر في أسوان وأنطلق منه إليهم، أصبحت أقيم في فندق صغير في النوبة، إلى أن أصبحت صديقاً لكثير من الأسر فباتوا يستضيفونني في بيوتهم، مما سمح لي بالاطلاع على تفاصيل حياتهم وفنونهم عن قرب، وبمرور الوقت لم يعودوا بالنسبة لي مجرد شخوص أصورهم لكنهم أصبحوا حراساً للأصالة المصرية وجسراً لحكايات وقصص تُروى من خلالهم». العناوين الدافئة التي اختارها المسري لفصول كتابه تعبر عن مضمونها، فالفصل الأول «محبة من نوع خاص» تروي حكايات حب مدهشة ما بين عشق الوطن والشخوص والأمكنة، فتحت عنوان «رجل يحمل النوبة في قلبه» يتعرف القارئ على قصة العم عبد القادر شوقي، ذلك الإعلامي النوبي الذي اختار العودة إلى بلاده بعد نحو 30 سنة من العمل في قناة تلفزيونية أميركية، فرجع بسبب الحنين وبنى بيتاً واسعاً يتمتع بإطلالة ساحرة، ونقل إليه أثاث منزله القديم، وأصبح أهل النوبة يشاهدونه، وهو يجلس معظم الوقت على سطح المنزل متـأملاً جمال بلاده». ويستمتع القارئ برومانسية قصة «هولندية تعيش في مدينة نوبية»، تروي حكاية فتاة كانت تعمل مديرة متحف في هولندا جاءت لزيارة النوبة منذ نحو 35 عاماً والتقت بمراكبي يجيد عدة لغات وعشقته إلى حد أنها بعد عودتها لبلادها لم تتحمل البعد عنه، فرجعت إلى النوبة وتزوجته، ومن خلال الصور والسرد يعيش القارئ تطورات الأحداث، حيث يشاهد الزوجين بعد تقدمهما في العمر يعيشان على جزيرة ورثها المراكبي عن أجداده. من ثمّ يروي المسري قصة أخرى لرجل متقدم في السن لا يكاد يبرح باب منزله: «كلما مررت أجده يجلس على كرسي صامتاً أمام المنزل، فكنت أصوره في البداية كرجل نوبي أمام منزل رائع الألوان، إلى أن لاحظت أنّه لا يفارق مكانه، وفاجأني أنّه بعد وفاة زوجته لا يتحمل الحنين وزخم الذكريات بين جدران المنزل، فلا يجد ملاذا سوى الباب».
وينتهي الفصل الأول بحكاية «الست كوثر مع شجرة الجوافة»، التي تعكس الكثير عن نبل السيدات النوبيات وأصالتهن، لننتقل إلى الفصل الثاني «أماكن لها حكايات»، ومن أبرز ما يتضمنه «جزيرة بربر مصيف النوبيين»، فنشاهد صوراً ساحرة ووصفاً للجزيرة التي تحولت إلى وجهة سياحية تتيح استجمام اليوم الواحد عبر السباحة في النيل ذي العمق المنخفض في هذا المكان، إضافة إلى ركوب الجمال وتناول أشهى الأطباق والتمتع بالمناظر الخلابة.
ويختتم الفنان جلال المسري كتابه بالفصل الرابع تحت عنوان «مذاق النوبة»، وفيه نكتشف استناد تصميم البيت النوبي إلى تراث عريق، فوراء كل جدار ورمز ولون حكاية ودلالة من حضارة الأجداد. ومما يمنح البلاد مذاقها المميز أيضاً أطفالها أو «ابتسامة النوبة المبهجة». ولكي يكتمل مذاق البلاد يتناول حكاية المراكب التي تشق مياه النيل بشموخ ودلال واصفاً إياها بـ«شريان الحياة في النوبة».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».