آسيا الوسطى وما «وراءها» بعد انتصار «طالبان» في أفغانستان

وحدة من القوات الأوزبكية خلال تدريبات مع قوات روسية وطاجيكية في طاجيكستان (أ.ب)
وحدة من القوات الأوزبكية خلال تدريبات مع قوات روسية وطاجيكية في طاجيكستان (أ.ب)
TT

آسيا الوسطى وما «وراءها» بعد انتصار «طالبان» في أفغانستان

وحدة من القوات الأوزبكية خلال تدريبات مع قوات روسية وطاجيكية في طاجيكستان (أ.ب)
وحدة من القوات الأوزبكية خلال تدريبات مع قوات روسية وطاجيكية في طاجيكستان (أ.ب)

في 14 أبريل (نيسان) الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان سيبدأ أول مايو (أيار) وينتهي في 11 سبتمبر (أيلول) لينهي بذلك أطول حرب تخوضها الولايات المتحدة. ويمثل هذا إرجاءً لموعد نهائي سابق للانسحاب في الأول من مايو تم الاتفاق عليه بين الولايات المتحدة وحركة «طالبان». وكذلك عجّل الأميركيون في انسحابهم لينتهي في 31 أغسطس (آب) ويطوي عقدين من الوجود العسكري هناك.
سيطرت «طالبان» على أفغانستان، وهذا أمر لا يبدّل وجه البلاد فحسب، بل يغيّر الديناميكيات السياسية والعسكرية في منطقة آسيا الوسطى وربما في دائرة أكبر. ويمكن القول أيضاً إن الانسحاب العسكري الأميركي – والأطلسي - السريع من أفغانستان يغيّر بدوره هذه الديناميكيات.
كان لافتاً خلال الأسابيع الأخيرة كيف سارعت «طالبان» إلى السيطرة على المعابر الحدودية خلال تقدّمها العسكري الخاطف، في بلاد تشبه الصفيحة الدوارة أو تقاطع طرق في منطقة بالغة الحساسية، كونَها تملك حدوداً مع: باكستان من الشرق والجنوب، إيران من الغرب، تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان من الشمال، والصين من الشمال الشرقي. والمقصود بالمنطقة البالغة الحساسية آسيا الوسطى التي تمتد من بحر قزوين غرباً إلى الصين ومنغوليا شرقاً، ومن أفغانستان وإيران جنوباً إلى روسيا شمالاً.
وكان لافتاً أيضاً كيف تحركت روسيا بسرعة، وأثبتت عبر التعزيزات والتدريبات العسكرية وجودها في أوزبكستان وطاجيكستان، على وقع التفوق العسكري الصاعق لـ«طالبان» على القوات الحكومية الأفغانية، وحتى في الشمال الذي يكنّ لها عداءً عرقياً متجذراً.

*روسيا والجيران
تبدو روسيا، الجارة الأبعد، حريصة على الاستفادة من الانسحاب الأميركي من خلال زيادة نفوذها في آسيا الوسطى، وتعزيز وجودها العسكري – خصوصاً في قاعدتها الموجودة في طاجيكستان - ومنع حصول عملية أمنية أو عسكرية معادية لها في أي من دول المنطقة. ولا ننسى أن الاتحاد السوفياتي غزا أفغانستان عام 1979 وبقيت قواته فيها حتى 1989، وكان هذا الوجود مقدمة لأحداث كبرى انتهى الاتحاد السوفياتي ولم تنته تداعياتها بعد.
في موازاة ذلك، تعمل الصين على تكثيف جهودها الدبلوماسية مع دول آسيا الوسطى حيث تملك نشاطاً اقتصادياً كبيراً، وزيادة مساعدتها الأمنية لقرغيزستان والتحرك لتعزيز نفوذها ووجودها في طاجيكستان التي تشترك في الحدود مع منطقة شينجيانغ الحساسة في شمال غرب الصين، وهي المنطقة التي تقيم فيها أقلية الأويغور المسلمة التي تتهم دول الغرب السلطات الصينية بممارسة الاضطهاد في حقها. ومن هذا المنطلق تقدم الصين مساعدة أمنية لطاجيكستان تحت عنوان مكافحة الإرهاب والتهريب.
بالنسبة إلى دول آسيا الوسطى، يثير انتصار «طالبان» مخاوف من تحوّل أفغانستان مجدداً مرتعاً للمتطرفين من المنطقة وخارجها وملاذاً يمكن لهؤلاء الانطلاق منه نحو أهدافهم. يضاف إلى ذلك أن الدول المجاورة تخشى تدفق اللاجئين إليها، مع ما يستتبعه ذلك من تهديدات أمنية واجتماعية وصحية في ظل تفشي جائحة «كوفيد - 19».
وبناءً على الواقع الجغرافي لا خيار أمام كل من أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان إلا الاستجارة بروسيا والصين، لأن الركون إلى الولايات المتحدة لا يمكن أن يكون، بحكم الجغرافيا على الأقلّ، إلا موقتاً في أفضل الأحوال، وإن طال 20 سنة كما حصل في أفغانستان. كما أن واشنطن تبدو في غنى عن إثارة غضب الصين وروسيا عبر تدخل عسكري في الدول المذكورة، مدركةً أنه في المستقبل المنظور ستكون الدول الثلاث، وكذلك قرغيزستان، ضمن دائرة نفوذ موسكو وبكين.

*«طالبان» براغماتية؟
في موازاة ذلك كله، تقدّم «طالبان» نفسها في صورة جديدة مرتديةً حلة الحركة السياسة المجربة والبراغماتية، المختلفة عن المجموعة المتزمتة والمنغلقة على نفسها التي احتلت كابل عام 1996 واحتفظت بالسلطة حتى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2001 والذي قدم العديد من دول آسيا الوسطى الدعم اللوجستي له.
ففي ذلك الوقت كانت «طالبان» ترفض التفاوض مع أحد، وفرضت قوانين على الأفغان جعلتهم يعيشون في سجن كبير. بل كانت لها طموحات توسعية خارجية، تصل إلى حد الكلام عن احتلال سمرقند التاريخية، ثانية مدن أوزبكستان!
أما اليوم فالحركة تؤكد تكراراً أنها متى تسلمت السلطة تريد إقامة علاقات طيبة وبنّاءة مع كل الدول المجاورة وغير المجاورة، كما أجرت اتصالات نشطة مع تركمانستان لإحياء مشروع أنابيب الغاز الذي يربط الأخيرة بأفغانستان وباكستان والهند والمعروف بالأحرف الأولى لأسماء الدول الأربع TAPI.

أما في طاجيكستان فلا يشعر الرئيس إمام علي رحمان بالاطمئنان، متحدثاَ عن إعادة تشكيل مجموعات تحت جنح «طالبان»، من أفراد مدربين جيداً على «التخريب والإرهاب والبروباغندا»، يمكنهم دخول الدول المجاورة لأفغانستان والخروج منها عبر ممرات حدودية متشعبة ووعرة يصعب ضبطها. وكذلك يشعر رئيس أوزبكستان شوكت ميرضيايف بالقلق من سيطرة «طالبان» ومن تدفق اللاجئين على بلاده.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن موسكو أظهرت إيجابية حيال «طالبان» وأعطتها نوعاً من الاعتراف الدولي عندما استقبلت الشهر الماضي وفداً من الحركة لإجراء محادثات أشاد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في نهايتها بتوجهات ضيوفه لجهة عدم التدخل في شؤون جيرانها وضبط أي تحرك لتنظيم «داعش».
غير أن هذا لم يمنع الروس من إجراء مناوات عسكرية في أغسطس مع الصين، ثم مع أوزركستان، ولاحقا مع طاجيكستان وأوزبكستان، وفي الصورة حتماً الواقع الجديد الذي تفرضه «طالبان» و«ملحقاتها»، وفي انتظار ما ستقوم به الحركة عندما تتولى إدارة أفغانستان.
في النهاية، وبسبب الموقع الجغرافي لأفغانستان، يمكن التحدث عن مزيد من تداعيات ما حصل على إيران وباكستان وحتى الهند...
لماذا الهند؟ لأن ثمة احتمالاً لأن تؤدي سيطرة «طالبان» على أفغانستان إلى إمساك عرّابها باكستان بزمام الأمور، وهذا أمر سيقلق حتماً الهند التي تخشى باستمرار تعاظم نفوذ جارتها التي تقف وإياها دائماً على أبواب الحرب...



كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
TT

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

نجح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية جديدة في أوروبا وحول العالم، عبر جعل التهديد النووي أمراً عادياً، وإعلانه اعتزام تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

في عام 2009، حصل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على «جائزة نوبل للسلام»، ويرجع ذلك جزئياً إلى دعوته إلى ظهور «عالم خالٍ من الأسلحة النووية». وفي ذلك الوقت، بدت آمال الرئيس الأميركي الأسبق وهمية، في حين كانت قوى أخرى تستثمر في السباق نحو الذرة.

وهذا من دون شك أحد أخطر آثار الحرب في أوكرانيا على النظام الاستراتيجي الدولي. فعبر التهديد والتلويح المنتظم بالسلاح الذري، ساهم فلاديمير بوتين، إلى حد كبير، في اختفاء المحرمات النووية. وعبر استغلال الخوف من التصعيد النووي، تمكن الكرملين من الحد من الدعم العسكري الذي تقدمه الدول الغربية لأوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، ومن مَنْع مشاركة الدول الغربية بشكل مباشر في الصراع، وتخويف جزء من سكان هذه الدول، الذين تغلّب عليهم «الإرهاق والإغراءات بالتخلي (عن أوكرانيا) باسم الأمن الزائف».

بدأ استخفاف الكرملين بالأسلحة النووية في عام 2014، عندما استخدم التهديد بالنيران الذرية للدفاع عن ضم شبه جزيرة القرم من طرف واحد إلى روسيا. ومنذ ذلك الحين، لُوّح باستخدام السلاح النووي في كل مرة شعرت فيها روسيا بصعوبة في الميدان، أو أرادت دفع الغرب إلى التراجع؛ ففي 27 فبراير 2022 على سبيل المثال، وُضع الجهاز النووي الروسي في حالة تأهب. وفي أبريل (نيسان) من العام نفسه، استخدمت روسيا التهديد النووي لمحاولة منع السويد وفنلندا من الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)». في مارس (آذار) 2023، نشرت روسيا صواريخ نووية تكتيكية في بيلاروسيا. في فبراير 2024، لجأت روسيا إلى التهديد النووي لجعل النشر المحتمل لقوات الـ«ناتو» في أوكرانيا مستحيلاً. وفي الآونة الأخيرة، وفي سياق المفاوضات المحتملة مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، جلبت روسيا مرة أخرى الخطاب النووي إلى الحرب، من خلال إطلاق صاروخ باليستي متوسط ​​المدى على أوكرانيا. كما أنها وسعت البنود التي يمكن أن تبرر استخدام الأسلحة الذرية، عبر مراجعة روسيا عقيدتها النووية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع مع قيادة وزارة الدفاع وممثلي صناعة الدفاع في موسكو يوم 22 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

التصعيد اللفظي

تأتي التهديدات النووية التي أطلقتها السلطات الروسية في الأساس ضمن الابتزاز السياسي، وفق «لوفيغارو». ولن تكون لدى فلاديمير بوتين مصلحة في اتخاذ إجراء عبر تنفيذ هجوم نووي تكتيكي، وهو ما يعني نهاية نظامه. فالتصعيد اللفظي من جانب القادة الروس ورجال الدعاية لم تصاحبه قط تحركات مشبوهة للأسلحة النووية على الأرض. ولم يتغير الوضع النووي الروسي، الذي تراقبه الأجهزة الغربية من كثب. وتستمر الصين أيضاً في لعب دور معتدل، حيث تحذّر موسكو بانتظام من أن الطاقة النووية تشكل خطاً أحمر مطلقاً بالنسبة إليها.

إن التهوين من الخطاب الروسي غير المقيد بشكل متنامٍ بشأن استخدام الأسلحة النووية ومن التهديد المتكرر، قد أدى إلى انعكاسات دولية كبيرة؛ فقد غير هذا الخطاب بالفعل البيئة الاستراتيجية الدولية. ومن الممكن أن تحاول قوى أخرى غير روسيا تقليد تصرفات روسيا في أوكرانيا، من أجل تغيير وضع سياسي أو إقليمي راهن محمي نووياً، أو إنهاء صراع في ظل ظروف مواتية لدولة تمتلك السلاح النووي وتهدد باستخدامه، أو إذا أرادت دولة نووية فرض معادلات جديدة.

يقول ضابط فرنسي: «لولا الأسلحة النووية، لكان (حلف شمال الأطلسي) قد طرد روسيا بالفعل من أوكرانيا. لقد فهم الجميع ذلك في جميع أنحاء العالم».

من الجانب الروسي، يعتبر الكرملين أن الحرب في أوكرانيا جاء نتيجة عدم الاكتراث لمخاوف الأمن القومي الروسي إذ لم يتم إعطاء روسيا ضمانات بحياد أوكرانيا ولم يتعهّد الغرب بعدم ضم كييف إلى حلف الناتو.

وترى روسيا كذلك أن حلف الناتو يتعمّد استفزاز روسيا في محيطها المباشر، أكان في أوكرانيا أو في بولندا مثلا حيث افتتحت الولايات المتحدة مؤخرا قاعدة عسكرية جديدة لها هناك. وقد اعتبرت موسكو أن افتتاح القاعدة الأميركية في شمال بولندا سيزيد المستوى العام للخطر النووي.