مصر لعرض لوحات «حسي رع» النادرة بعد ترميمها

6 قطع توثق لفن النقش على الخشب في الدولة القديمة

حسي رع يظهر في لوحاته بأوضاع متنوعة (المتحف المصري)
حسي رع يظهر في لوحاته بأوضاع متنوعة (المتحف المصري)
TT

مصر لعرض لوحات «حسي رع» النادرة بعد ترميمها

حسي رع يظهر في لوحاته بأوضاع متنوعة (المتحف المصري)
حسي رع يظهر في لوحاته بأوضاع متنوعة (المتحف المصري)

عبر تعاون بين «المعهد العلمي الفرنسي للأثار الشرقية»، و«المتحف المصري» بالتحرير، يعمل خبراء من تخصصات علمية عدة على مشروع ترميم ودراسة مجموعة من اللوحات الخشبية النادرة التي تعود إلى أحد أهم كبار الموظفين الملكيين في الدولة المصرية القديمة، وهو حسي رع، كبير أطباء الأسنان في عهد الملك زوسر، الذي لقب أيضاً بـ«كبير الكتبة الملكيين» بجانب ألقاب دينية أخرى تكشفها نصوص اللوحات التي تعد من أندر أعمال النقش على الخشب التي ما زالت باقية من الدولة المصرية القديمة.
لوحات حسي رع الخشبية تُمثل نموذجاً نادراً لفن النقش على الخشب في الدولة المصرية القديمة، ويبلغ عددها 6 لوحات مرت برحلة أثرية طويلة قبل أن تستقر بالمتحف المصري بالتحرير، حيث «اكتشف 5 منها في مقبرته بمنطقة سقارة الأثرية، وتم عرضهم بداية من عام 1861. في متحف بولاق، من ثمّ نقلت مقتنيات متحف بولاق إلى متحف الجيزة، وانتقلت اللوحات مرة أخرى إلى المتحف المصري بالتحرير عقب افتتاحه عام 1902»، وفق ما تشرح صباح عبد الرازق مديرة عام المتحف المصري بالتحرير لـ«الشرق الأوسط»، التي توضح أنه «عقب اكتشاف اللوحة السادسة انضمت إلى بقية اللوحات في المتحف عام 1911، ويعمل المشروع حالياً على ترميم ودراسة اللوحات الست، حيث نُعدّ سيناريو لعرض متحفي حديث ليعرض مجدداً على الجمهور عقب انتهاء المشروع».
ويقول الدكتور إسلام محمد عزت، اختصاصي علوم المواد القديمة بقسم الدراسات الأركيومترية في المعهد العلمي الفرنسي للأثار الشرقية، والمشرف على المشروع، لـ«الشرق الأوسط» إنه «إلى جانب عمليات الترميم، يعكف الخبراء على دراسة اللوحات وتكوينها الفني عبر الفحص والتصوير العلمي باستخدام تقنيات أنواع متعددة من الأشعة، منها الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وكذلك دراسة نوع الخشب وتكوين الألوان وأنواعها». ويضيف: «تبين من الفحص المبدئي وجود تلف ميكروبيولوجي في اللوحات، وبقايا أملاح وتلف بالألوان وبقع سوداء، إضافة إلى تفسخ بعض أجزاء الخشب، لذلك قمنا بعزل كامل للوحات قبل بدء عمليات الترميم وإصلاح التلف، إذ لا يقتصر المشروع على الترميم، بل نقوم بدراسة شاملة للوحات لفهم كل شيء عنها، تكوينها الفني وألوانها ونوع الخشب».
وتتضمن اللوحات العديد من الألقاب التي حملها حسي رع، خلال فترة الأسرة الثالثة في عهد الملك زوسر، منها كبير أطباء الأسنان، وكبير الكتبة الملكيين، بجانب ألقاب دينية ومهنية عديدة، ويبدو أنه - حسي رع - كان يعتز بلقب «الكاتب»، إذ رسم نفسه في معظم اللوحات وهو يحمل أدوات الكتابة على كتفه في أوضاع متعددة.
واستعان المشروع بخبراء في تخصصات علمية عديدة لدراسة كل شيء عن اللوحات، إذ حيث تولت الدكتورة ريم سمير، أستاذ علم النباتات في جامعة القاهرة، دراسة الخشب المستخدم في اللوحات وتحديد نوعه، وكانت المفاجأة أن المؤلفات القديمة ذكرت أن نوع الخشب المستخدم هو الجميز أو الأرز اللبناني، غير أنّ الدراسة والفحص أثبتا أنّه خشب السنط (الأكاسيا).
وتطلب التعامل مع تشققات أخشاب اللوحات و«تفسخها» الاستعانة بخبراء بالمعهد القومي للقياس والمعايرة التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي المصرية، إذ قام الدكتور محمد عفيفي، خبير المعهد بدراسة التشققات بأجهزة قياس شديدة الدقة، لتحديد أبعادها ومتوسط انضغاط الخشب، ويقول الدكتور عزت: «كان من الهام أن ندرس الحالة الفيزوميكانيكية للخشب، إذ إن بعض الشقوق شديدة الاتساع، وقد حصلنا على مقاييس شديدة الدقة لأبعاد التشققات ومتوسط انضغاط الخشب، وهو أمر بالغ الأهمية لتحديد الطريقة المثلى للتعامل معه، وآلية ملئ فراغات التشققات».
ومن بين التفاصيل الفنية التي اكتُشفت خلال دراسة اللوحات، استخدام الألوان مباشرة على الخشب للمرة الأولى، ومع حالتها السيئة تطلب التعامل مع الألوان قدراً كبيراً من الدقة، حسب مدير المشروع الذي قال إنّه «بعد تنفيذ برتوكول الترميم، بدأنا في التنظيف لأننا أمام خشب به أصباغ وحالة شديدة الحساسية، لذلك تعرفنا على المقاومة الميكروبيولوجية من خلال المستحضرات الطبيعية، لأنّ منهجيتنا تعتمد على عدم استخدام المواد الكيماوية في معالجة الأخشاب، ونلتزم تماماً بالتنظيف الميكانيكي، وقد شكل هذا تحدياً كبيراً لإعادة الألوان إلى طبيعتها».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)