«المغنى حياة الروح».. معرض لحلمي التوني تراه وتسمعه

44 تحفة فنية تحتفي بالتراث المصري وتمزج بين «السلطنة» الطربية والبصرية

التناغم بين الأغاني والرموز الفلكلورية ثيمة في أعمال التوني  -  من أعمال الفنان
التناغم بين الأغاني والرموز الفلكلورية ثيمة في أعمال التوني - من أعمال الفنان
TT

«المغنى حياة الروح».. معرض لحلمي التوني تراه وتسمعه

التناغم بين الأغاني والرموز الفلكلورية ثيمة في أعمال التوني  -  من أعمال الفنان
التناغم بين الأغاني والرموز الفلكلورية ثيمة في أعمال التوني - من أعمال الفنان

عشقه للموسيقى العربية وتقاسيمها يدفعه ليمسك بفرشاته في حالة من التجلي، محلقا ما بين تخوم الفن التشكيلي وعوالمه اللونية والسلالم الموسيقية، وما بين الاثنين تولد لوحات تنطق بأروع الألحان، تزاوج بين كلمات أشهر الأغاني المصرية التراثية مثل «جفنه علم الغزل» للموسيقار محمد عبد الوهاب، ورائعة كوكب الشرق أم كلثوم «الأطلال».
في معرضه الحالي يأخذنا الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني، ما بين 44 لوحة زيتية تحتضنها قاعة «بيكاسو» بالزمالك، تنقلنا ما بين ألحانها الطربية البارزة في خلفية اللوحات تشدو بالكلمات المخطوطة بعناية، تجاور الشخصيات وتحاكيها، وكأنها دعوة لزمن الفن الجميل ومصر في عصرها الذهبي وألقها الفني.
وفي أحد أركان المعرض، تتناص لوحة لـ3 نساء مصريات مع لوحة الفنان الكبير محمود سعيد الشهيرة «بنات بحري» مستوحية رمزية «الملاية اللف» و«اليشمك» على إيقاع أغنية «تلات سلامات». بشكل عام، يحتفي التوني في معرضه بالمرأة المصرية مبرزا تفاصيلها الساحرة محكما العلاقات التشكيلية ما بين التفاصيل (المكلحة والكردان والخلخال)، والصيغة (الأغاني الشعبية المخطوطة بجانبها)، التي تنصهر فتبدو جلية مدلولاتها البصرية.
منذ أول معرض له عام 1975 عقب عودته من رحلة عمل ببيروت لمدة 3 سنوات، يعترف التوني دائما بأنه مصاب بداء «الطرب»، وخصوصا أغاني المطرب الشعبي الراحل محمد عبد المطلب، تلك الأغاني الطربية التي تصل بالمستمع لحد «السلطنة»، هكذا أخذ التوني على عاتقه أن تحمل لوحاته بتدريجاتها اللونية رسالة مفعمة بالبهجة و«السلطنة البصرية». وهو ما يتجلى في لوحة «الأطلال» للسيدة أم كلثوم، ولوحة «أوعى تكلمني بابا جاي ورايا».
خلق التوني تياره الفني الخاص، وإن كان متكئا على الاتجاه التعبيري، حيث تفصح الأشكال والأحجام والألوان والظلال عن المشاعر الفنية المعتملة داخل الفنان، وينقلها عبر قوالب وأيقونات ورموز تظهر في لوحاته. أما بالنسبة للألوان، فهو يتشابه مع هنري ماتيس في بساطة استخدام الألوان، فغالبية الألوان غير مخلوطة، ألوان صريحة واضحة معبرة بقوة.
وينطلق التوني من التعبيرية باتجاه النزعة الرومانسية حيث يلعب التوني على تيمة التناغم بين الألحان المطبوعة في ذاكرة المتلقي والرموز الفولكلورية الضاربة في جذور التراث الشعبي المصري، مثل: «القلل، والمشربيات، والأزياء الشعبية المصرية كالجلباب والمنديل أبو أويه»، فتفتح شهية ذهن المتلقي لحالة نوستالجية تجبره على التأمل والشرود في الماضي، متسائلا: لماذا اختفت رموزنا وتراثنا الشعبي؟
يميل التوني إلى الذهاب بتعبيرية لوحاته إلى الفن الشعبي حيث يعبر عن مكنون نفسه بالكلمات إلى جانب ضربات الفرشاة المستعرة، عاكسا خطوطا إيقاعية متناغمة تكشف لنا عن اشتياقه وولعه بالتراث المصري الذي وارته العولمة وسحقته، ونفخ فيه الفنان الروح من جديد.
يظهر الجانب التعبيري بوضوح في تجسيده لشخصيات مصرية شهيرة، ويتجلى ذلك في اللوحتين اللتين تظهر فيهما «أم كلثوم»، فكانت ضربات الفرشاة بإيقاعات لونية محسوبة، وجعل وجهها هو مركز الضوء باللون الأبيض، متعمدا إظهار ملامحها وتحديدها باللون الأسود، بينما ترتدي في اللوحتين اللون البنفسجي الذي هو خليط بين الضوئين؛ الأحمر والأزرق، عاكسا الكيان الشكلي الكلي لها لكي يكون مرادفا للجدية والصرامة. وتبدو في أم كلثوم في لوحة «الأطلال» واقفة في جلال، بردائها البنفسجي وقد كسر قتامة اللون بالوشاح الأخضر حاملا رمز الملكية المصرية، واستكمل اللوحة بكلمات من قصيدة الأطلال «واثق الخطوة يمشي ملكا.. ظالم الحسن شديد الكبرياء»، أما اللوحة الأخرى، التي خط فيها كلمات أغنية «حبيب قلبي وافاني في ميعاده»، فأضاف عليها رموزا تشي بالبهجة كالهدهد والزهور.
يستخدم التوني تقنية البعد الثالث بوجوه شاخصة إلى الفراغ بنظرة مبهمة لكنها تأخذك إلى عالمها. في كل لوحة يصدح التوني بألحانه عبر فرشاته التي تلمس مضمون الأغنية بإيحاءات تعبيرية، داعيا متلقيه إلى البهجة والتفاؤل في ظل حالة التشاؤم التي تعم في أنحاء العالم.
يعتبر التوني من أبرز الفنانين في العالم العربي في مجال تصميم الكتب والمجلات، وهو حاليا المخرج الفني لمجلة وجهة نظر الثقافية، وهو فنان تشكيلي متخصص في التصوير الزيتي والتصميم، ولد بمحافظة بني سويف بمصر في 30 أبريل (نيسان) عام 1934، وحصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحي عام 1958 ودرس فنون الزخرفة والديكور، وأقام كثيرا من المعارض سواء محلية أو دولية، ويقتني لوحاته كثيرون في مختلف دول العالم، كما أن متحف الفن المصري الحديث بالقاهرة يقتني عددا من لوحاته القيمة.
حضر افتتاح معرضه الحالي نخبة من المثقفين والفنانين التشكيليين المصريين وكان على رأس الحضور: الفنان التشكيلي الكبير مصطفى الرزاز، والفنان أشرف رضا، والمهندس والناشر الكبير إبراهيم المعلم، وزوجته أميرة أبو المجد، ود. محمد أبو الغار، والناقد الفني طارق الشناوي، ويمتد المعرض حتى يوم 17 المقبل.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».