«الإسلام في القرن الحادي والعشرين»: ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية

ريتا فرح
ريتا فرح
TT

«الإسلام في القرن الحادي والعشرين»: ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية

ريتا فرح
ريتا فرح

ريتا فرج واعية كل الوعي بخطورة الموضوع. ولذلك فهي تقدم لنا صورة متكاملة عن النضال البطولي للنساء منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم
تواصل هذه المجلة الجديدة صعودها القوي في الساحة الباريسية والعربية أيضاً. كنا نتوقع أنها سوف تتعب، سوف تلهث، كما يحصل لمجلات عديدة، ولكن خاب توقعنا لحسن الحظ. فالعدد الثالث الصادر قبل أيام بدا لي مكثفاً، غزيراً، مليئاً بالأفكار الجديدة والإضاءات العديدة. تفتتح العدد الباحثة اللبنانية المعروفة ريتا فرج. وهي من خيرة العقول العربية حالياً، ليس فقط على مستوى النساء وإنما على مستوى الرجال أيضاً. أعتقد أن عدد المثقفين أو المثقفات اللواتي يرتفعن إلى مستواها ليس كبيراً جداً. فهي تمتاز بصرامة المنهج ودقة المصطلح وتقدمية الفكر أو استنارته. بمعنى أنها ليست تقدمية سطحية على طريقة الشعارات والكلام السهل الفارغ، وإنما بناءً على معرفة حقيقية بإشكاليات التراث والحداثة على حد سواء. عنوان البحث المطول الذي أتحفت به المجلة هو التالي: الإسلام النسوي وتحدي النظام البطريركي في الفقه التشريعي الإسلامي. لكن قبل أن نشرح هذا العنوان الصعب الذي قد يبدو غامضاً وعراً، قبل أن ندخل في صلب الموضوع، دعونا نقول كلمة مختصرة عن كاتبة البحث ريتا فرج. إنها باحثة لبنانية في علم الاجتماع وعضوة في هيئة التحرير المشرفة على مركز «المسبار» للدراسات والبحوث في دبي. وهو يمثل بؤرة تنويرية رائعة في قلب الإمارات العربية المتحدة، وفي نيويورك العرب! نضيف بأن الباحثة ريتا فرج حائزة شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 2008 تحت إشراف المفكر الإسلامي الدكتور رضوان السيد. وكانت أطروحتها تحمل العنوان التالي الشديد الأهمية: «العنف في الإسلام المعاصر: معطى بنيوي أم نتاج ظرفي؟» هذا هو موضوع الساعة، ومن يجب على هذا السؤال يقدم أكبر خدمة للثقافة العربية المعاصرة. وأخشى ما أخشاه أن يكون الجواب متضمناً في الشق الأول من السؤال. ومن أهم كتبها اللاحقة نذكر: امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة: خطاب اللامساواة في المدونة الفقهية. كما وساهمت ريتا فرج في إصدار كتاب جماعي عن تدريس الفلسفة في العالم العربي. صدر برعاية اليونيسكو.
الأطروحة الأساسية لهذا البحث الصعب والمكثف تتلخص في بضع كلمات: النظام البطريركي أو الأبوي هو الذي يهيمن على تاريخنا، بل وعلى تاريخ أوروبا حتى الثورة الفرنسية التي ألغته وأطاحت به. بعدئذ أخذت أوروبا تتحرر منه تدريجياً إلى درجة أنها قضت عليه نهائياً ولم يعد هناك نظام بطريركي متخلف في فرنسا أو عموم أوروبا. أما عندنا فلا يزال سائداً حتى الآن إلى حد كبير، وبخاصة في الأوساط التقليدية. والنظام البطريركي أو الأبوي هو نظام ذكوري يتحكم فيه الرجال بالنساء والأطفال. إنه نظام يعطي للرجال امتيازات عديدة في المجالات كافة، من سياسية وأخلاقية وقانونية. إنه نظام اجتماعي للرجال السلطة فيه على النساء. وأكبر مثال عليه شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة. إنه يمثل الأب البطريرك بكل أبعاده. والآن نطرح هذا السؤال: كيف يمكن للنساء العربيات أو المسلمات أن يتخلصن من هيمنة هذا النظام البطريركي المهيمن على مجتمعاتنا على مدار ألف سنة متواصلة أو يزيد؟ العملية ليست سهلة على الإطلاق، وريتا فرج واعية كل الوعي بخطورة الموضوع. ولذلك فهي تقدم لنا صورة متكاملة عن النضال البطولي للنساء منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. من أهم سيداتنا النهضويات العظيمات تذكر: عائشة تيمور، وزينب فواز، وملك حفني ناصف، وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وهدى شعراوي، ونظيرة زين الدين. وتقول لنا ريتا فرج بأن هذه الأخيرة تجرأت إلى حد المطالبة بحق المرأة في الاجتهاد الديني! وهذا شيء غير مسبوق. نقول ذلك وبخاصة أن المجتمع الأبوي البطريركي كان يقصي المرأة كلياً من هذا المجال. ما علاقة المرأة بالدين؟ والعياذ بالله! ألم يكن هذا النظام المتغطرس يعتبرها ناقصة عقلاً وديناً؟ وفي عصور الظلام أما كانوا يتساءلون: هل فيها روح يا ترى؟ إلخ. قصة طويلة إذن. ولكن التقدم الذي حققته المرأة العربية أو المسلمة كان كبيراً ورائعاً، وبخاصة في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة. بالطبع، لا تستطيع أن تغير العقلية البطريركية المهيمنة منذ مئات السنين في ظرف سنوات معدودات. وذلك لأن تغيير العقليات كما قال أحدهم أصعب من زحزحة الجبال! ولكن المرأة العربية أو المسلمة انتقمت لتاريخ طويل عريض من الإقصاء والتهميش عندما أصبحت مديرة ووزيرة وأستاذة جامعية وباحثة ومثقفة مرموقة إلخ في وقتنا الحاضر. هل هذا قليل؟ أين كنا وأين أصبحنا؟ أخيراً، من الواضح أن ريتا فرج واعية كل الوعي لخطورة المهمة وصعوبتها. فالواقع أن تحرر المرأة العربية المسلمة من أغلال الماضي وسلاسله يتوقف على شيء واحد: هل يمكن أن تنتصر القراءة التنويرية التقدمية للتراث على القراءة الرجعية الظلامية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي كله منذ هزيمة المعتزلة والفلاسفة وكبار الروحانيين قبل 1200 سنة على الأقل؟
بعد دراسة الدكتورة ريتا فرج التي تفتتح العدد نجد دراسات مهمة عدة، من بينها دراسة ممتعة عن ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية وبخاصة الفرنسية والإنجليزية.
أخيراً، لا ينبغي أن ننسى أهمية الافتتاحيات المؤطرة لكل موضوع من هذه المواضيع. وهي افتتاحيات طويلة أحياناً ومليئة بالإضاءات والمعلومات المفيدة جداً. وقد قامت بها المؤرخة إيفا جانادان، نائبة رئيس التحرير. يمكن القول بأن هذه الباحثة المختصة في الدراسات الإسلامية هي الدينامو المحرك للمجلة كلها. إنها فعلاً مطلعة على موضوعها ومثقفة جداً. إنها مهتمة بالمجلة من أولها إلى آخرها. وأعتقد أن نجاح هذه المجلة يعود في قسم كبير منه إليها. أعطوا لكل ذي حق حقه.
سوف أتوقف قليلاً عند موضوع ترجمة القرآن الكريم. وهنا سوف أعترف للقارئ بمسألة شخصية قبل الدخول في صلب الموضوع. على الرغم من أني خريج كلية الآداب، قسم اللغة العربية في جامعة دمشق، فإني مضطر أحياناً إلى استشارة الترجمة الفرنسية للقرآن لكي أفهم النص العربي جيداً. من يصدق ذلك؟ ولحسن الحظ؛ فإني أمتلك نسخة القرآن الكريم بكلتا اللغتين العربية والفرنسية: أي صفحة عربي ومقابلها صفحة فرنسي. وهكذا أستشير بسهولة الترجمة الفرنسية لكي أفهم جيداً نص القرآن. لحسن الحظ؛ فإن النسخة التي أمتلكها ممتازة وقد تمت مراجعتها من قبل العلامة الدكتور صبحي الصالح. وهذه النسخة الثنائية اللغة عربي - فرنسي ترافقني منذ أكثر من ثلاثين سنة. وعليها أعتمد في كل بحوثي ودراساتي. ولكن لماذا تستغربون الأمر؟ كان الفيلسوف الفرنسي جان هيبوليت أستاذ فوكو وكل جيله قد أمضى حياته في ترجمة رائعة هيغل: فينومينولوجيا الروح. ويبدو أن ترجمته كانت متقنة جداً، نقول ذلك وبخاصة أنه أمضى في تجديدها وتنقيحها عشرات السنوات. ويقال بأن المثقفين الألمان كانوا يستشيرون هذه الترجمة الفرنسية الرائعة لكي يفهموا النص الألماني! وذلك لأن هيغل مفكر صعب المراس ولا يعطي نفسه بسهولة. وبالتالي، فحذار من الاستخفاف بالترجمة والمترجمين، وبخاصة إذا كانوا محترفين وحريصين على إعطاء أفضل الترجمات الممكنة. الترجمة فعل إبداعي بالمعنى الحرفي للكلمة. وعليها أو على نجاحها تتوقف نهضة الثقافة العربية في السنوات المقبلة.
نعود الآن إلى الترجمات الفرنسية. أعتقد أن أهمها ثلاث. الأولى هي الترجمة التي قدمها المستشرق الكبير ريجيس بلاشير، أستاذ ميكل وأركون وكل ذلك الجيل. وهو مختص كبير في دراسة اللغة والآداب العربية. كما أنه مختص في الدراسات القرآنية والإسلامية. من هنا أهمية ترجمته وموثوقيتها.
أما الترجمة الثانية فهي تلك التي قامت بها الباحثة الكبيرة دنيز ماسون. وهي التي راجعها الدكتور صبحي الصالح وهي التي أمتلكها. ومعلوم أن هذه العالمة الكبيرة أمضت حياتها هنا في المغرب وفي مدينة مراكش تحديداً. رفضت أن تعود إلى باريس مسقط رأسها على الرغم من أنها من عائلة بورجوازية غنية. كانت تحب الإسلام والمسلمين ولا تريد أن تعيش إلا في كنفهم. والدليل على ذلك أنها عاشت في قلب المدينة القديمة وليس في الحي الأوروبي الراقي الواقع خارج المدينة. فضّلت أن تبقى في المغرب وتعيش في المغرب وتكتب في المغرب أبحاثها المتألقة. من يستطيع أن يقاوم جاذبية المغرب؟ كانت مهتمة جداً بالحوار الإسلامي - المسيحي على هدى أستاذها الأكبر المستشرق الشهير: لويس ماسينيون.
أما الترجمة الثالثة فهي بالطبع ترجمة أستاذ الأساتذة البروفسور جاك بيرك. وقد أمضى سنوات عمره الأخيرة في الاشتغال عليها وإعادة الاشتغال. وكان فخوراً بها كل الفخر ويتحدث عنها بمناسبة ومن دون مناسبة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم