«الأزمة اللبنانية»... حراس السجن أكثر «تعاسة» من النزلاء

«الشرق الأوسط» تتجول داخل «رومية» في «زمن الانهيار»

المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط)   ........  نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط) ........ نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
TT

«الأزمة اللبنانية»... حراس السجن أكثر «تعاسة» من النزلاء

المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط)   ........  نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط) ........ نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)

الهدوء في سجن رومية (أكبر سجن في لبنان) في ساعات قبل الظهر قد يوحي للوهلة الأولى أن السجن، المرتفع على إحدى التلال شرق بيروت، منفصل عن الواقع اللبناني «التعيس» الذي يعج بعشرات الأزمات التي تنفجر، واحدة تلو أخرى، من دون إذن مسبق. فالتراجع الكبير بعدد الزوار نتيجة عدم تمكن الأهالي الذين يسكنون في الأطراف والمناطق البعيدة من زيارة أبنائهم بشكل منتظم لعدم توفر مادة البنزين، كما للارتفاع الكبير بتكلفة المواصلات، يجعل الحركة فيه مقتصرة إلى حد كبير على عناصر الأمن.
في الحانوت، أي المتجر الصغير الذي يشتري منه الأهالي حاجيات أبنائهم، الملاصق للمبنى «ب» الشهير الذي يؤوي السجناء المصنفين خطيرين وإرهابيين، حركة خفيفة. فمعظم السلع تماماً كما هي الحال في المحال التجارية خارج السجن مفقودة. يقول السجين «ح.ح» الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط» والذي مضى على وجوده في رومية 26 عاماً كونه محكوماً بالإعدام، إنه لم يشهد طوال الأعوام الماضية ما يشهده اليوم من أوضاع صعبة. خلال تقليبه عدداً من الفواتير، يشتكي عدم توافر السلع وغلاء الأسعار.
في المبنى «د» - الذي يؤوي مزيجاً من السجناء، أي موقوفين لم يحاكموا بعد، إضافة إلى محكومين بجرائم قتل وسرقة، وبشكل أساسي تجار مخدرات، كما محكومين بتهم إرهاب، تم تخصيص طابق لهم كي لا يختلطوا بباقي السجناء وينقلوا إليهم أفكارهم المتطرفة، كما يشرح أحد عناصر الأمن - وصلت عند الساعة العاشرة والنصف من صباح الأربعاء الأغراض التي اشتراها أهالي السجناء وأقاربهم، فملأت المدخل الضيق حيث انصرف عدد منهم لتقسيمها تمهيداً لتوزيعها على سكان الزنزانات في الطوابق العلوية. صناديق كثيرة من المياه المعدنية، لحوم، زيت، فواكه، أكواز ذرة وغيرها كثير من المواد والسلع التي قد تبدو للزائر مفاجئة كماً ونوعاً. عند سؤالنا أحد السجناء عن «هذا الترف» خاصة أن كثيراً من اللبنانيين لم يعودوا يتناولون اللحم والفواكه منذ أكثر من عام بعد ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، يوضح أن كل هذه الأغراض تصل للسجناء الميسورين، وهم أقلية، أما الأكثرية ونتيجة الغلاء المستشري فباتت تأكل من طعام السجن الذي ما كانت تتناوله من قبل نظراً للنوعية السيئة والكمية الصغيرة التي تراجعت بشكل إضافي بعد الأزمة، لافتاً إلى أن كثيراً من الميسورين يتقاسمون طعامهم اليوم مع رفاقهم في الزنزانات. وأضاف: «ما يحصل في الخارج لا شك ينعكس علينا بشكل كبير. صحيح أننا هنا نتساعد فلا يجوع أحد، لكننا في النهاية في سجن صغير داخل السجن اللبناني الكبير حيث لا نفتقد فقط لحريتنا، وإنما أيضاً لكل ما يفتقده اللبنانيون في الخارج». ويشير إلى أن حال الكهرباء حالياً مستقرة بحيث يقتصر التقنين على 4 ساعات في اليوم بعدما بلغ مستويات غير مسبوقة خلال بضعة أيام نتيجة تعطل أحد المولدات، متحدثاً عن «أزمة في المياه بحيث نفتقد إليها بشكل دائم».
ولا يخفي العميد فارس فارس، المكلف بمتابعة ملف السجون في وزارة الداخلية والبلديات، أن هناك تراجعاً بكمية ونوعية الطعام الذي يقدم للسجناء، «فما يسري على اللبنانيين عامة خارج السجن، يسري على السجناء أيضاً، بحيث إنه قبل الأزمة الاقتصادية كان المبلغ المرصود سنوياً لغذائهم 10 مليارات ليرة لبنانية، أي 7.7 مليون دولار، عندما كان سعر الصرف 1500 ليرة للدولار الواحد، أما الآن ومع انهيار سعر الصرف فالمبلغ المرصود لم يعد يتجاوز 500 ألف أو 600 ألف دولار، وقد طلبنا من وزارة المالية زيادة الاعتمادات، وبعد جهد جهيد تمكنا من زيادة هذه الاعتمادات إلى 30 مليار ليرة لبنانية، لكن هذا المبلغ يبقى غير كافٍ، لأننا بحاجة شهرياً إلى وجبات غذائية ومواد أولية بقيمة 3 مليارات ليرة ونصف مليار، ما يعادل 40 مليار ليرة سنوياً».
ويشير فارس في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه وبعكس ما يتم تداوله: «لم نتوقف عن إطعام السجناء اللحم والدجاج، إنما خفضنا الكميات مراعاة للظروف المادية، فمثلاً بدلاً من حصولهم على اللحم والدجاج مرتين في الأسبوع بات ذلك يتم كل 10 أيام تقريباً».
ويشتكي سجناء رومية بأنه لا يسمح لأهاليهم، كما أهالي الموقوفين والمحكومين في سجون أخرى على الأراضي اللبنانية، بإدخال الطعام لهم، وبحصر ما يمكنهم الحصول عليه من مواد غذائية بموجودات الحانوت. ويرد العميد فارس على هذه المطالبات، قائلاً: «منعنا الوجبات من الخارج، وذلك بسبب محاولة الأهالي تهريب المخدرات من خلالها، ومن خلال أغراضهم الشخصية، كما عبر رجال الدين».
وتبلغ الطاقة الاستيعابية لسجن رومية 1050 سجيناً وهو يضم حالياً 3476 سجيناً، ما يعني نسبة اكتظاظ تتجاوز 324 في المائة. ويتألف سجن رومية المركزي وهو أكبر السجون اللبنانية من 6 مبانٍ؛ مبنى «ب»، ومبنى «د» للمحكومين، ويتألف كل منهما من 3 طوابق، ومبنى الأحداث، واللولب المركزي، ومبنى الخصوصية، والمبنى الاحترازي. واللافت أن 40 في المائة من السجناء في لبنان هم من غير اللبنانيين. ويشكو مسؤولون عن السجون عدم تجاوب منظمات الأمم المتحدة (unrwa وunhcr) مع طلبات رسمية لمساعدة السجناء السوريين والفلسطينيين.
وارتفع في الأشهر الماضية عدد الموقوفين حديثاً، بحسب أحد الضباط في سجن رومية، وهو ما يبدو منطقياً تماماً، في ظل الأرقام التي أعلنتها قوى الأمن مؤخراً، وأظهرت ارتفاعاً ملحوظاً في جرائم القتل والسرقة، نتيجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة.

عناصر الأمن يشكون للسجناء!
لا يسمح للسجناء الخروج بشكل يومي إلى الباحة الخارجية، إذ تخصص 3 أيام للزيارات و4 أيام للوجود في الهواء الطلق لنحو 6 ساعات. الأربعاء الماضي، كانت الأكثرية في زنزاناتها. وحدها الملابس الملونة المنشورة من الشبابيك وأصوات أجهزة التلفزة تؤشر إلى وجود آلاف خلف القضبان. بعض الأصوات تعلو عند مشاهدة زائر لدعوته بالاطلاع على أحوالهم داخل الزنزانات.
للمفارقة أن أحوال السجناء لا تختلف كثيراً عن أحوال عناصر الأمن المخولين حراسة المباني. هم يبدون منهكين، وقد ترك الهم والضغط آثارهما بوضوح على ملامحهم التعيسة. فالحرارة المرتفعة خلال أشهر الصيف في لبنان، والتي تترافق مع الضغوط المعتادة التي يواجهونها، باعتبارهم يتعاطون مع أكثرية عنيفة من السجناء، إضافة إلى الضغوط المستجدة المرتبطة برواتبهم التي فقدت قيمتها مع انهيار سعر صرف الليرة، فأصبح راتب العنصر العادي يعادل أقل من 65 دولاراً أميركياً، مقارنة مع نحو 800 دولار قبل بدء الأزمة في صيف العام 2019، كلها عوامل جعلت السجناء يتعاطفون مع حراسهم! ففيما تتجنب عناصر الأمن أي حديث مع الإعلاميين وخاصة خلال دوامهم الرسمي، ينقل السجناء معاناتهم ويقول (ف. ن) لـ«الشرق الأوسط»: «كيف تتوقعون أن يكون حالنا، إذا كانت أحوال عناصر الأمن بهذه التعاسة. قصصهم قد تكون أقسى من قصصنا. فبعضهم لم يعد قادراً على تكبد تكاليف المواصلات... نحن نشكو لهم وضعنا، وهم يشكون لنا أحوالهم».
وتقر مصادر أمنية بالأحوال الصعبة التي يرزح تحتها الضباط والعناصر، وتقول إن البعض يقومون بمهمات خطيرة، كما في سجن رومية، حيث هم على تماس مع أشخاص خطيرين فتكون حياتهم مهددة في كل لحظة، معتبرة أنه إذا كان وضع مالية الدولة صعباً جداً والسلطة السياسية غير قادرة على زيادة رواتب كل الأمنيين فيفترض النظر بأوضاع ورواتب من يؤدون مهمات خطيرة على الأقل.
وإذا كانت وتيرة عمليات التمرد تراجعت بشكل كبير في السنوات الماضية، أو أقله تلك المعلن عنها، فذلك لا يعني أن المخاطر لم تعد موجودة وبشكل كبير. وللتأكيد على ذلك، يطلب أحد الضباط من أحد العناصر الإتيان بسكين كبير تم ضبطه مؤخراً، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أنه «صناعة رومية»، قائلاً: «نضبط عدداً كبيراً من هذه السكاكين التي يصنعها بعض السجناء من الطناجر ومن حاجيات أخرى ويهددون بها الضباط والعناصر في كثير من الأحيان».

شكاوى من الوضع الصحي
لعل أبرز ما يشكو منه السجناء اليوم هو الوضع الصحي. يقول السجين «ف.ح» لـ«الشرق الأوسط» إن «كل يوم أسوأ من الذي سبقه في موضوع نقص الأدوية. فبعد أن كانت الأدوية توزع من قبل إدارة السجن مجاناً، انقطعت الأدوية كلها وأصبح بعضها على حساب السجين. حتى أدوية الأعصاب وأدوية الأمراض المستعصية وأدوية مرض السكري كلها نبتاعها على حسابنا الشخصي... كما أن المشكلة الكبرى هي موضوع العمليات الجراحية والصور الطبية... كل هذا أصبح على حساب السجين بنسبة 20 في المائة». ويضيف «ف.ح»: «مثلاً في حال اضطر السجين لدخول المستشفى في حال الطوارئ فعلى أهله الحضور لدفع مبلغ من المال للمستشفى كي يسمح له بالدخول».
ويوضح العميد فارس أن ما يسري على السجناء بموضوع الأدوية والاستشفاء، يسري على كل اللبنانيين، باعتبار أن معظم الأدوية مقطوعة في الصيدليات كما أن المستشفيات لم تعد تستقبل مرضى الضمان حتى المرضى ذوي التأمين الصحي إلا إذا كانت حالتهم طارئة وترغمهم على دفع فروقات مالية كبيرة، لافتاً إلى أنهم يقومون بإجراءات كثيرة لإلزام المستشفيات على استقبال السجناء المرضى، كما يتم استقدام كثير من المساعدات من المنظمات الدولية والجمعيات. وبحسب العميد فارس، فإن الوضع تحت السيطرة تماماً بموضوع «كورونا»، بحيث أدت التدابير السريعة التي اتخذت مع تفشي الوباء في لبنان مفعولها، وبخاصة لجهة تخصيص مبنى في السجن لحجر المصابين، مشيراً إلى أن مجمل الحالات التي تم تسجيلها في «رومية» لم تتجاوز 1090 وقد شفيت جميعها، وليس لدينا اليوم في مركز الحجر إلا 6 حالات، وهي من خارج سجن رومية.

محاكمات في السجن و«أونلاين»
> يشكل تأخير المحاكمات والبتّ بالقضايا العالقة إحدى أبرز المشكلات التي يعاني منها السجناء، بحيث يقضي كثير منهم أشهراً وسنوات موقوفين بانتظار محاكمتهم. وللمفارقة فإن 51.50 في المائة من سجناء رومية موقوفون و48.50 في المائة محكومون.
وقد فاقمت الأزمات الأخيرة وبخاصة أزمة «كورونا» الأزمة التي يرزح تحتها القضاء اللبناني منذ سنوات لجهة البطء بالمحاكمات. وانكبت وزارة العدل منذ مارس (آذار) 2020 بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين على تفعيل العمل القضائي إلكترونياً، فاتخذ قرار البتّ بالقضايا الضرورية والمستعجلة، وخاصة التي فيها موقوفون عبر الأونلاين، بحيث تحصل الاستجوابات عن بعد، خاصة أن القانون واضح لعدم إمكانية احتجاز الأشخاص الذين يتم توقيفهم بإشارة من النيابة العامة إلا لمهلة قصيرة، ما يحتم مثولهم أمام قاضي التحقيق بعد انقضاء المهلة المحددة.
ويتحدث العميد فارس عن «إنجاز كبير لوزارة العدل بعد السماح باستخدام قاعة المحاكمة التي أنشئت في رومية عام 2014 من قبل قضاة المحاكم الجنائية في جبل لبنان»، لافتاً إلى أنه تم عقد نحو 2000 جلسة فيها، في وقت يتم العمل حالياً على مشروع من قبل مجلس القضاء الأعلى لتوسيع صلاحيات محكمة رومية، لتشمل كل المحاكم، ما يسهل عملية محاكمة الموقوفين بدلاً من سوقهم إلى المحاكم في المناطق المختصة. ويشير فارس إلى أن وزيرة العدل افتتحت أيضاً الأسبوع الماضي المحاكمات التجريبية أونلاين في محكمة العدل في جبل لبنان - بعبدا، من أجل عمليات الاستجواب عن بعد وإخلاءات السبيل، موضحاً أنه «يتمّ إنشاء غرفة عمليات للقضاة بالتعاون مع وزارة العدل ونقابتي المحامين في طرابلس وجبل لبنان، وقد تم تجاوز جميع العوائق الفنية والقانونية كما يُعمل الآن على قوننة هذه الآلية». ويضيف: «ننكب حالياً على مكننة النظام القضائي الذي يتعلق بالمحكومين والموقوفين، وهناك ورشة عمل كبيرة جداً، على صعيد مكننة المحاكم، والسجلات، وتأهيل النظارات في قصور العدل، وعلى صعيد مكننة السجل الصحي للسجين».
وتتكل حالياً إدارة السجون اللبنانية على المساعدات من أي جهة أتت، سواء عبر منظمات دولية أو جمعيات أو مرجعيات دينية حتى أشخاص ميسورين للاستمرار بتأمين احتياجات السجناء، فكما تنصرف قيادات الأجهزة الأمنية لتأمين المساعدات للضباط والعناصر من دول شتى، مع التراجع الدراماتيكي في رواتبهم، فكذلك القيمون على السجون. ويقول أحدهم لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف ننكب على (الشحاذة) للاستمرار والصمود!»



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».