«الأزمة اللبنانية»... حراس السجن أكثر «تعاسة» من النزلاء

«الشرق الأوسط» تتجول داخل «رومية» في «زمن الانهيار»

المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط)   ........  نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط) ........ نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
TT

«الأزمة اللبنانية»... حراس السجن أكثر «تعاسة» من النزلاء

المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط)   ........  نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط) ........ نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)

الهدوء في سجن رومية (أكبر سجن في لبنان) في ساعات قبل الظهر قد يوحي للوهلة الأولى أن السجن، المرتفع على إحدى التلال شرق بيروت، منفصل عن الواقع اللبناني «التعيس» الذي يعج بعشرات الأزمات التي تنفجر، واحدة تلو أخرى، من دون إذن مسبق. فالتراجع الكبير بعدد الزوار نتيجة عدم تمكن الأهالي الذين يسكنون في الأطراف والمناطق البعيدة من زيارة أبنائهم بشكل منتظم لعدم توفر مادة البنزين، كما للارتفاع الكبير بتكلفة المواصلات، يجعل الحركة فيه مقتصرة إلى حد كبير على عناصر الأمن.
في الحانوت، أي المتجر الصغير الذي يشتري منه الأهالي حاجيات أبنائهم، الملاصق للمبنى «ب» الشهير الذي يؤوي السجناء المصنفين خطيرين وإرهابيين، حركة خفيفة. فمعظم السلع تماماً كما هي الحال في المحال التجارية خارج السجن مفقودة. يقول السجين «ح.ح» الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط» والذي مضى على وجوده في رومية 26 عاماً كونه محكوماً بالإعدام، إنه لم يشهد طوال الأعوام الماضية ما يشهده اليوم من أوضاع صعبة. خلال تقليبه عدداً من الفواتير، يشتكي عدم توافر السلع وغلاء الأسعار.
في المبنى «د» - الذي يؤوي مزيجاً من السجناء، أي موقوفين لم يحاكموا بعد، إضافة إلى محكومين بجرائم قتل وسرقة، وبشكل أساسي تجار مخدرات، كما محكومين بتهم إرهاب، تم تخصيص طابق لهم كي لا يختلطوا بباقي السجناء وينقلوا إليهم أفكارهم المتطرفة، كما يشرح أحد عناصر الأمن - وصلت عند الساعة العاشرة والنصف من صباح الأربعاء الأغراض التي اشتراها أهالي السجناء وأقاربهم، فملأت المدخل الضيق حيث انصرف عدد منهم لتقسيمها تمهيداً لتوزيعها على سكان الزنزانات في الطوابق العلوية. صناديق كثيرة من المياه المعدنية، لحوم، زيت، فواكه، أكواز ذرة وغيرها كثير من المواد والسلع التي قد تبدو للزائر مفاجئة كماً ونوعاً. عند سؤالنا أحد السجناء عن «هذا الترف» خاصة أن كثيراً من اللبنانيين لم يعودوا يتناولون اللحم والفواكه منذ أكثر من عام بعد ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، يوضح أن كل هذه الأغراض تصل للسجناء الميسورين، وهم أقلية، أما الأكثرية ونتيجة الغلاء المستشري فباتت تأكل من طعام السجن الذي ما كانت تتناوله من قبل نظراً للنوعية السيئة والكمية الصغيرة التي تراجعت بشكل إضافي بعد الأزمة، لافتاً إلى أن كثيراً من الميسورين يتقاسمون طعامهم اليوم مع رفاقهم في الزنزانات. وأضاف: «ما يحصل في الخارج لا شك ينعكس علينا بشكل كبير. صحيح أننا هنا نتساعد فلا يجوع أحد، لكننا في النهاية في سجن صغير داخل السجن اللبناني الكبير حيث لا نفتقد فقط لحريتنا، وإنما أيضاً لكل ما يفتقده اللبنانيون في الخارج». ويشير إلى أن حال الكهرباء حالياً مستقرة بحيث يقتصر التقنين على 4 ساعات في اليوم بعدما بلغ مستويات غير مسبوقة خلال بضعة أيام نتيجة تعطل أحد المولدات، متحدثاً عن «أزمة في المياه بحيث نفتقد إليها بشكل دائم».
ولا يخفي العميد فارس فارس، المكلف بمتابعة ملف السجون في وزارة الداخلية والبلديات، أن هناك تراجعاً بكمية ونوعية الطعام الذي يقدم للسجناء، «فما يسري على اللبنانيين عامة خارج السجن، يسري على السجناء أيضاً، بحيث إنه قبل الأزمة الاقتصادية كان المبلغ المرصود سنوياً لغذائهم 10 مليارات ليرة لبنانية، أي 7.7 مليون دولار، عندما كان سعر الصرف 1500 ليرة للدولار الواحد، أما الآن ومع انهيار سعر الصرف فالمبلغ المرصود لم يعد يتجاوز 500 ألف أو 600 ألف دولار، وقد طلبنا من وزارة المالية زيادة الاعتمادات، وبعد جهد جهيد تمكنا من زيادة هذه الاعتمادات إلى 30 مليار ليرة لبنانية، لكن هذا المبلغ يبقى غير كافٍ، لأننا بحاجة شهرياً إلى وجبات غذائية ومواد أولية بقيمة 3 مليارات ليرة ونصف مليار، ما يعادل 40 مليار ليرة سنوياً».
ويشير فارس في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه وبعكس ما يتم تداوله: «لم نتوقف عن إطعام السجناء اللحم والدجاج، إنما خفضنا الكميات مراعاة للظروف المادية، فمثلاً بدلاً من حصولهم على اللحم والدجاج مرتين في الأسبوع بات ذلك يتم كل 10 أيام تقريباً».
ويشتكي سجناء رومية بأنه لا يسمح لأهاليهم، كما أهالي الموقوفين والمحكومين في سجون أخرى على الأراضي اللبنانية، بإدخال الطعام لهم، وبحصر ما يمكنهم الحصول عليه من مواد غذائية بموجودات الحانوت. ويرد العميد فارس على هذه المطالبات، قائلاً: «منعنا الوجبات من الخارج، وذلك بسبب محاولة الأهالي تهريب المخدرات من خلالها، ومن خلال أغراضهم الشخصية، كما عبر رجال الدين».
وتبلغ الطاقة الاستيعابية لسجن رومية 1050 سجيناً وهو يضم حالياً 3476 سجيناً، ما يعني نسبة اكتظاظ تتجاوز 324 في المائة. ويتألف سجن رومية المركزي وهو أكبر السجون اللبنانية من 6 مبانٍ؛ مبنى «ب»، ومبنى «د» للمحكومين، ويتألف كل منهما من 3 طوابق، ومبنى الأحداث، واللولب المركزي، ومبنى الخصوصية، والمبنى الاحترازي. واللافت أن 40 في المائة من السجناء في لبنان هم من غير اللبنانيين. ويشكو مسؤولون عن السجون عدم تجاوب منظمات الأمم المتحدة (unrwa وunhcr) مع طلبات رسمية لمساعدة السجناء السوريين والفلسطينيين.
وارتفع في الأشهر الماضية عدد الموقوفين حديثاً، بحسب أحد الضباط في سجن رومية، وهو ما يبدو منطقياً تماماً، في ظل الأرقام التي أعلنتها قوى الأمن مؤخراً، وأظهرت ارتفاعاً ملحوظاً في جرائم القتل والسرقة، نتيجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة.

عناصر الأمن يشكون للسجناء!
لا يسمح للسجناء الخروج بشكل يومي إلى الباحة الخارجية، إذ تخصص 3 أيام للزيارات و4 أيام للوجود في الهواء الطلق لنحو 6 ساعات. الأربعاء الماضي، كانت الأكثرية في زنزاناتها. وحدها الملابس الملونة المنشورة من الشبابيك وأصوات أجهزة التلفزة تؤشر إلى وجود آلاف خلف القضبان. بعض الأصوات تعلو عند مشاهدة زائر لدعوته بالاطلاع على أحوالهم داخل الزنزانات.
للمفارقة أن أحوال السجناء لا تختلف كثيراً عن أحوال عناصر الأمن المخولين حراسة المباني. هم يبدون منهكين، وقد ترك الهم والضغط آثارهما بوضوح على ملامحهم التعيسة. فالحرارة المرتفعة خلال أشهر الصيف في لبنان، والتي تترافق مع الضغوط المعتادة التي يواجهونها، باعتبارهم يتعاطون مع أكثرية عنيفة من السجناء، إضافة إلى الضغوط المستجدة المرتبطة برواتبهم التي فقدت قيمتها مع انهيار سعر صرف الليرة، فأصبح راتب العنصر العادي يعادل أقل من 65 دولاراً أميركياً، مقارنة مع نحو 800 دولار قبل بدء الأزمة في صيف العام 2019، كلها عوامل جعلت السجناء يتعاطفون مع حراسهم! ففيما تتجنب عناصر الأمن أي حديث مع الإعلاميين وخاصة خلال دوامهم الرسمي، ينقل السجناء معاناتهم ويقول (ف. ن) لـ«الشرق الأوسط»: «كيف تتوقعون أن يكون حالنا، إذا كانت أحوال عناصر الأمن بهذه التعاسة. قصصهم قد تكون أقسى من قصصنا. فبعضهم لم يعد قادراً على تكبد تكاليف المواصلات... نحن نشكو لهم وضعنا، وهم يشكون لنا أحوالهم».
وتقر مصادر أمنية بالأحوال الصعبة التي يرزح تحتها الضباط والعناصر، وتقول إن البعض يقومون بمهمات خطيرة، كما في سجن رومية، حيث هم على تماس مع أشخاص خطيرين فتكون حياتهم مهددة في كل لحظة، معتبرة أنه إذا كان وضع مالية الدولة صعباً جداً والسلطة السياسية غير قادرة على زيادة رواتب كل الأمنيين فيفترض النظر بأوضاع ورواتب من يؤدون مهمات خطيرة على الأقل.
وإذا كانت وتيرة عمليات التمرد تراجعت بشكل كبير في السنوات الماضية، أو أقله تلك المعلن عنها، فذلك لا يعني أن المخاطر لم تعد موجودة وبشكل كبير. وللتأكيد على ذلك، يطلب أحد الضباط من أحد العناصر الإتيان بسكين كبير تم ضبطه مؤخراً، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أنه «صناعة رومية»، قائلاً: «نضبط عدداً كبيراً من هذه السكاكين التي يصنعها بعض السجناء من الطناجر ومن حاجيات أخرى ويهددون بها الضباط والعناصر في كثير من الأحيان».

شكاوى من الوضع الصحي
لعل أبرز ما يشكو منه السجناء اليوم هو الوضع الصحي. يقول السجين «ف.ح» لـ«الشرق الأوسط» إن «كل يوم أسوأ من الذي سبقه في موضوع نقص الأدوية. فبعد أن كانت الأدوية توزع من قبل إدارة السجن مجاناً، انقطعت الأدوية كلها وأصبح بعضها على حساب السجين. حتى أدوية الأعصاب وأدوية الأمراض المستعصية وأدوية مرض السكري كلها نبتاعها على حسابنا الشخصي... كما أن المشكلة الكبرى هي موضوع العمليات الجراحية والصور الطبية... كل هذا أصبح على حساب السجين بنسبة 20 في المائة». ويضيف «ف.ح»: «مثلاً في حال اضطر السجين لدخول المستشفى في حال الطوارئ فعلى أهله الحضور لدفع مبلغ من المال للمستشفى كي يسمح له بالدخول».
ويوضح العميد فارس أن ما يسري على السجناء بموضوع الأدوية والاستشفاء، يسري على كل اللبنانيين، باعتبار أن معظم الأدوية مقطوعة في الصيدليات كما أن المستشفيات لم تعد تستقبل مرضى الضمان حتى المرضى ذوي التأمين الصحي إلا إذا كانت حالتهم طارئة وترغمهم على دفع فروقات مالية كبيرة، لافتاً إلى أنهم يقومون بإجراءات كثيرة لإلزام المستشفيات على استقبال السجناء المرضى، كما يتم استقدام كثير من المساعدات من المنظمات الدولية والجمعيات. وبحسب العميد فارس، فإن الوضع تحت السيطرة تماماً بموضوع «كورونا»، بحيث أدت التدابير السريعة التي اتخذت مع تفشي الوباء في لبنان مفعولها، وبخاصة لجهة تخصيص مبنى في السجن لحجر المصابين، مشيراً إلى أن مجمل الحالات التي تم تسجيلها في «رومية» لم تتجاوز 1090 وقد شفيت جميعها، وليس لدينا اليوم في مركز الحجر إلا 6 حالات، وهي من خارج سجن رومية.

محاكمات في السجن و«أونلاين»
> يشكل تأخير المحاكمات والبتّ بالقضايا العالقة إحدى أبرز المشكلات التي يعاني منها السجناء، بحيث يقضي كثير منهم أشهراً وسنوات موقوفين بانتظار محاكمتهم. وللمفارقة فإن 51.50 في المائة من سجناء رومية موقوفون و48.50 في المائة محكومون.
وقد فاقمت الأزمات الأخيرة وبخاصة أزمة «كورونا» الأزمة التي يرزح تحتها القضاء اللبناني منذ سنوات لجهة البطء بالمحاكمات. وانكبت وزارة العدل منذ مارس (آذار) 2020 بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين على تفعيل العمل القضائي إلكترونياً، فاتخذ قرار البتّ بالقضايا الضرورية والمستعجلة، وخاصة التي فيها موقوفون عبر الأونلاين، بحيث تحصل الاستجوابات عن بعد، خاصة أن القانون واضح لعدم إمكانية احتجاز الأشخاص الذين يتم توقيفهم بإشارة من النيابة العامة إلا لمهلة قصيرة، ما يحتم مثولهم أمام قاضي التحقيق بعد انقضاء المهلة المحددة.
ويتحدث العميد فارس عن «إنجاز كبير لوزارة العدل بعد السماح باستخدام قاعة المحاكمة التي أنشئت في رومية عام 2014 من قبل قضاة المحاكم الجنائية في جبل لبنان»، لافتاً إلى أنه تم عقد نحو 2000 جلسة فيها، في وقت يتم العمل حالياً على مشروع من قبل مجلس القضاء الأعلى لتوسيع صلاحيات محكمة رومية، لتشمل كل المحاكم، ما يسهل عملية محاكمة الموقوفين بدلاً من سوقهم إلى المحاكم في المناطق المختصة. ويشير فارس إلى أن وزيرة العدل افتتحت أيضاً الأسبوع الماضي المحاكمات التجريبية أونلاين في محكمة العدل في جبل لبنان - بعبدا، من أجل عمليات الاستجواب عن بعد وإخلاءات السبيل، موضحاً أنه «يتمّ إنشاء غرفة عمليات للقضاة بالتعاون مع وزارة العدل ونقابتي المحامين في طرابلس وجبل لبنان، وقد تم تجاوز جميع العوائق الفنية والقانونية كما يُعمل الآن على قوننة هذه الآلية». ويضيف: «ننكب حالياً على مكننة النظام القضائي الذي يتعلق بالمحكومين والموقوفين، وهناك ورشة عمل كبيرة جداً، على صعيد مكننة المحاكم، والسجلات، وتأهيل النظارات في قصور العدل، وعلى صعيد مكننة السجل الصحي للسجين».
وتتكل حالياً إدارة السجون اللبنانية على المساعدات من أي جهة أتت، سواء عبر منظمات دولية أو جمعيات أو مرجعيات دينية حتى أشخاص ميسورين للاستمرار بتأمين احتياجات السجناء، فكما تنصرف قيادات الأجهزة الأمنية لتأمين المساعدات للضباط والعناصر من دول شتى، مع التراجع الدراماتيكي في رواتبهم، فكذلك القيمون على السجون. ويقول أحدهم لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف ننكب على (الشحاذة) للاستمرار والصمود!»



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!