يوميات مهرجان لوكارنو الـ74

حالات بحث عن معاني الحياة في فيلمين

صالة غراندي المفتوحة
صالة غراندي المفتوحة
TT

يوميات مهرجان لوكارنو الـ74

صالة غراندي المفتوحة
صالة غراندي المفتوحة

صباح أحد الأيام الأولى من مهرجان لوكارنو السينمائي الرابع والسبعين الذي بدأ حياته العام الحالي في الرابع من الشهر الجاري، ويستمر حتى الرابع عشر، خرج هذا الناقد باكراً من غرفته على غير عادته. نظر إلى بحيرة ماجيوري من ثم إلى الجبال التي تعلوها في الطرف البعيد وسار قدماً حيث أمضى ساعات من ليل البارحة أمام واحدة من أكبر شاشات المهرجانات حول العالم.
المقاعد التي اكتظت بالملقحين وذوي شهادات الفحص الآمنين على أن الوباء لا دخل له في متعة الأفلام، خالية الآن. تصطف بألوانها البرتقالية كما لو أن ساكنيها هم أرواح من كانوا يجلسون فوقها قبل ساعات. الشاشة تسد الطريق العريض وتمتد من المبنى المحاذي على اليمين إلى تلك الممتدة على الشمال.
الحياة تتنفس ببطء هنا في لوكارنو. على عكس تلك التي تسود «كان» مثلاً، لا تطلع الشمس على صخب الشارع والدكاكين والسيارات وبائعي الصحف المتجولين أمام صالات قصر المهرجان. بل لها منوال آخر ألطف وأرق.

لا يجب أن يغيب
سر المهرجانات الناجحة، في نهاية المطاف، ليس بما تعرضه فقط وليس في التنظيم وحده، بل كذلك - وعلى قدر مساوٍ، كيف تقام؟ كيف تحافظ على سرمديتها وتقاوم الظروف وتستفيد من إيمان الدول والمؤسسات التي ترعاها بأن هذه اللقاءات الكبيرة يجب أن تستمر ويجب أن تستمر قوية.
83 ألف دولار هي قيمة الجائزة الأولى في مسابقة المهرجان. هناك مهرجانات عربية، خصصت سابقاً، مبالغ ضخمة أيضاً لجوائزها الأولى، لكنها توقفت بعد حين رغم النجاح الذي حققته في تاريخها القصير. السبب، غياب ذلك الإيمان بها…. أو هكذا تشي المقارنة بين ما تم ويتم عندنا وبين تلك الصروح الكبيرة الموزعة في أرجاء أوروبا والقارة الأميركية.
209 أفلام معروضة في 12 قسما من بينها 100 فيلم برميير لم يسبق له أن شهد عرضاً عالمياً في أي مكان. إنه كما لو أن العالم جاع في العام الماضي بعدما حرمه الوباء الضاري من متعته. جعله مشتاقاً لفن يجمع الناس ويجمع بينهم. يضعهم فوق الكراسي ليتابعوا بفضول حياة الآخرين. إنه كما لو أن لوكارنو الذي غاب، كسواه، عن الحضور في السنة الماضية فك قيوداً وانطلق أقوى مما كان عليه في بعض سنواته الأخيرة، لا لشيء إلا لتأكيد أن مهرجانا سينمائيا عريقا لا يجب أن يغيب وإذا غاب فعليه أن يعوض في العام التالي ما فقده في العام السابق من الجمهور والأفلام والمتعة المشتركة.
تقول لي المخرجة الباكستانية الشابة أنام عباس، إنها تشعر بأن «الحياة لها نفس جديد هنا. أنت تعمل على تحقيق مشاريع تحبها. تريد أن تلتزم بتحقيق أحلامك التي هي كل ما لديك، ثم تأتي إلى هنا فتدرك أنك في الواقع تحققها ولم تعد تتمناها». حين يستمع المخرج السويسري ستيفن ياغر لهذا الحديث، وكان على مقربة، يهز برأسه ويضيف: «أنا سويسري وأجد لوكارنو مثل حلم تحقق بالنسبة لي. ما البال بمخرجين آتين من وراء الحدود إذاً؟».
ياغر لديه فيلم خارج المسابقة الرئيسية يحمل عنواناً معبراً هو «أفق جميل»، لم يشهد النور بعد لكنه من تلك الأعمال التي تعود إلى الماضي لكي تنظر إليه بعين جديدة: «لا أتحدث عن أفلامي قبل عرضها، لكن الدافع هو التذكير بكم كانت الحياة قاسية بالنسبة للتقاليد الاجتماعية التي توارثتها المرأة. أعني اليوم بالكاد ما زالت المرأة تحمل أي قيد من قيود الأمس. لا أدري بالنسبة لدول بعيدة، لكن هنا في أوروبا عانت المرأة من تلك القيود طويلاً».
أذكره بأن القيود كانت متساوية في كل المجتمعات تقريباً، في أوروبا وأميركا والدول التي تقع بين القارتين. «كان ممنوعاً على المرأة أن تمثل على المسرح في اليابان. إذا فعلت كان ذلك عارا عليها»، كما ذكرت له.

المنزلق
من بين 209 أفلام هناك 17 فيلما في المسابقة الأولى كل منها لديه نظرة يتلقفها الناقد بمتعة مباشرة أو بصبر عجيب. ما عرض حتى الآن يحمل ما يتبناه العديد من أفلام اليوم: الشعور بأن الحكاية (لو وحدت بينها في فيلم واحد) طويلة ولن تنتهي. ‫كبداية هناك «روح وحش» (Soul of a Beast) للسويسري لورنس ميرز الذي عرض قبل يومين داخل المسابقة. هناك أفلام سويسرية (وسويسرية مشتركة) عديدة تنتج كل عام، لكن - وعلى عكس مهرجان «كان» - لا تتزاحم على شاشة لوكارنو. هذا يختار منها عدداً قليلاً في كل دورة وفي هذه الدورة هناك فيلم واحد منها في المسابقة الأولى هو هذا الفيلم الباحث في دواخل شاب يعيش منزلقاً خطراً في حياته بسبب ما يتفاعل فيه من أفكار ومشاعر وحالات نفسية. ‬
بطل الفيلم غبريال (بابلو غابريز) شاب لديه ولد من زوجة سابقة تركته ليرعاه واختفت من حياته. وحدته تكاد تكون مطبقة باستثناء اهتمامه بابنه ووجود صديقه جوول (توناتلو رادتزي)، الذي لديه صديقة اسمها كوري (إيلا رومف). تقارب نتاج حاجة غبريال لشريك حياة جديد يقع بينه وبين صديقة صديقه وهذا الأخير يصاب بإحباط شديد.
لكن حياة غبريال لا تشهد ارتياحاً بعد ذلك ولا تهدأ تلك الفورة الغامضة في داخله. إنه ما يزال الشاب الذي يتوق للحرية الشخصية كيفما استطاع تأمينها. وهذا التوق هو الباب المشرع أمام المخرج ميرز لتحقيق فيلم لا يمكن تفويت مفاداته مشهداً وراء آخر ولا إغفال سعي المخرج للتفرد، بدءاً من استخدام صوت التعليق بلغات شتى (الإنجليزية واليابانية والفرنسية والألمانية) وانتهاءً بفرض طقس سوريالي يعالج به دخول غريال وخروجه بين حالاته المعقدة.
التعقيد موجود في الفيلم فعلياً، لكنه من النوع الذي يثير الاهتمام بصرف النظر عما إذا كان سيثير إعجاب المشاهد أم لا.

أرواح وأماكن
في المسابقة أيضاً «النهر» للبناني غسان سلهب. أفلامه الثلاثة الأخيرة تحمل عناوين مكانية طبيعية؛ «النهر» يأتي بعد «الجبل» و«الوادي» وكل منها يترجم عناية المخرج بتوفير شرائح متعددة لحكاياته التي تتناول حكاية لبنانية لا يمكن ترجمتها إلى أي واقع آخر. أي لا يمكن أن تقع في غير ذلك البلد الممزق في أوصاله وفي نزاعاته وتباعد مرامي أبنائه.
لا يتحدث سلهب بلغة السرد الذي يريد أن يودع لدى المشاهد حكاية تتوالى تبعاً لتقاليد الحكاية المعتادة. ما يزال يسرد وما يسرده يختلف في ترتيبه وفيما يوحي به عما يسود على الشاشات العربية. حتى شخصياته تبدو مختلفة عما قد يشتاق إليه المشاهد العادي، لكن هذا المشاهد (العادي، إذا كان هذا وصفا صحيحا)، لا يحتاج إلى هذا الفيلم إلا إذا كان تابع أعمال سلهب السابقة وأعجب بالكيفية التي يبدي فيه الحدث ويواريه في الوقت ذاته. ما يمكن أن نصفه بالحكاية يقوم على شخصيتين رئيسيتين: حسن (يؤديه الفلسطيني علي سليمان) و«هي» (يمنى مروان). بينهما تاريخ علاقة قوية وهو ينشد أن تستمر، لكن «هي» (والمخرج يبقيها بلا اسم) تتطلع لشيء آخر غير موجود في كنه تلك العلاقة. ينطلق باحثاً عنها في الأحراش ويجدها تجلس منفردة تتطلع إلى شيء ما.
من السهل أن نؤطر شخصيته بلبناني وشخصيتها بلبنان. هذا يصل على نحو تلقائي لكن المخرج يغازل تركيبة تبقي المفادات متعددة كونه يمزج بين ما نراه وبين رموزه. بين الواقع وبين الخيال. في نحو مؤكد، يسرد المخرج بطريقته المتمكنة حال وطن نسمع في أجوائه مرور طائرات (لا بد أنها معادية) ونشاهد علامات تحذر من وجود ألغام (لا بد أنها محلية).



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)