مآلات اللعبة في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي

حسابات مصالح صينية وباكستانية... وتقارب بين واشنطن ونيودلهي

مآلات اللعبة في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي
TT

مآلات اللعبة في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي

مآلات اللعبة في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي

ثمة لعبة سياسية عنيفة توشك على النهاية في أفغانستان لتفتح الباب أمام «لعبة كبرى» جديدة بين عدد من اللاعبين الأجانب الذين ينقضّون على البلاد لتأمين مصالحهم. وفي خضم منافسة عسكرية عنيفة في أفغانستان التي يمزّقها الصراع المحتدم بين القوات الحكومية الأفغانية ومقاتلي «حركة طالبان»، وقع كثير من الأحداث الجيوسياسية والعسكرية أخيراً، أبرزها زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للهند، واستضافة الصين بحرارة وفداً من «طالبان» وتنفيذ القوات أميركية هجمات جوية ضد «طالبان».
من جانبه، ألقى الرئيس الأفغاني الدكتور أشرف غني أحمدزي، هذا الأسبوع، باللوم فيما يتعلق بالوضع الأمني المتدهور في أفغانستان على قرار واشنطن سحب قواتها «فجأة». وقال أشرف غني أمام البرلمان: «السبب وراء وضعنا الحالي القرار الذي جرى اتخاذه فجأة»، وأضاف أنه حذّر واشنطن من أن الانسحاب ستكون له «عواقب». لكنه، مع ذلك، استطرد قائلاً إن لدى الحكومة الأفغانية «خطة أمنية لوضع الأمور تحت السيطرة في غضون 6 أشهر». وأردف غني أن «طالبان» لن تتحرك نحو السلام إلا إذا جرى كبح جماح الوضع الأمني المتردّي.
خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الهند. وقال إن الولايات المتحدة والهند «تنظران إلى الأوضاع بأفغانستان بالصورة ذاتها»، وحذّر «طالبان» من أن «أفغانستان (في حال سيطرة الحركة) التي لا تحترم حقوق شعبها، وترتكب مذابح بحق شعبها... ستصبح دولة منبوذة».
واضح، أن ثمة تلاقياً في الأهداف بين موقفي واشنطن ونيودلهي إزاء أفغانستان. وبينما ينسجم تحركا الجانبين للتعامل مع الحالة الأفغانية، تنطوي الرسالة التي اختار الجانبان توصيلها أهمية جليّة. فمن جانبه، تحدث إس جايشانكار، وزير الشؤون الخارجية الهندي، عن أفغانستان «حرة من التأثيرات المؤذية»، في إشارة ضمنية إلى باكستان الوثيقة المصالح بـ«طالبان»، حسبما ذكر الكاتب الصحافي سريموي تالوكدار. وفي المقابل، تواجه نيودلهي كثيراً من التحديات على جبهات عدة في إطار جهودها للحفاظ على وجودها داخل بلد لا يتشارك معها في حدود، لكنه يتسم بأهمية محورية لأمنها الوطني.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الدكتور عبد الله عبد الله، رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية في أفغانستان، زار بدوره الهند والتقى وزير الشؤون الخارجية جايشانكار. ووفق المصادر، أجرى عبد الله مشاوراته، بينما تسعى الحكومة الأفغانية للفوز بدعم نيودلهي لمساعيها لشن حملة ثأر واسعة النطاق ضد «طالبان». كذلك، التقى جايشانكار الرئيس الأفغاني أشرف غني في العاصمة الأوزبكية طشقند، وأكد له دعم الهند لحكومته في مساعيها لإرساء السلام والاستقرار والتنمية في أفغانستان. والتساؤل المحوري هنا، خاصة في أعقاب زيارة بلينكن للهند خلال الأسبوع الماضي، يتصل بما إذا كانت الهند راغبة في التورط بالفوضى الدموية التي تخلّفها أميركا وراء ظهرها في أفغانستان.
- سياسة هندية نشطة
يرى البعض أن الحكومة الهندية تسعى لاتباع سياسة أكثر نشاطاً وتفاعلاً. ويرى أنصار هذا التوجه أن الهند ستتعرض لخطر خسارة حضورها داخل أفغانستان الذي عكفت على بنائه على امتداد السنوات الـ20 الماضية ما لم تتحرك اليوم لتأكيده. والأسوأ، بالنسبة لنيودلهي، أن المؤسسة العسكرية الباكستانية ستسارع إلى استغلال غياب الهند، تماماً كما فعلت خلال الفترة ما بين الانسحاب السوفياتي عام 1989 والغزو الأميركي عام 2001. ولن تسمح للهند بمعاودة الدخول إلى أفغانستان من جديد. وفي هذا الصدد، أعرب وزير الخارجية الهندي السابق شيام ساران أنه «من دون المشاركة بقوات برية على الأرض في أفغانستان، على الهند الوقوف بكامل ثقلها خلف حكومة أشرف غني رغم عيوبها الكثيرة». وتابع قائلاً إن حالة «التأزم العسكري في أفغانستان، حتى اندلاع حرب أهلية طويلة الأمد، ربما يكون بالنسبة للهند نتيجة أفضل من سيطرة (طالبان) على البلاد. ومع أننا قد لا نتمكن من الإسهام في إنزال الهزيمة بـ(طالبان)، فقد نستطيع منعها من الانتصار، وأعتقد أن هذا سيكون الخيار الأكثر حصافة».
في المقابل، هناك فريق آخر داخل نيودلهي يدعو إلى التحلي بـ«الصبر الاستراتيجي»، ما يعني الانتظار، وعدم التورط فيما يجري في أفغانستان من مواجهات دموية. ويرى هذا الفريق أنه إذا كانت الحرب الأهلية نتيجة حتمية هناك، فلماذا تورط الهند نفسها فيها؟ ومن ثم، يعتقد هذا الفريق أنه رغم حذر الصينيين التقليدي، فمن المحتمل أن يتورطوا في أفغانستان، ليس فقط من أجل تعزيز نفوذهم عبر البنية التحتية المرتبطة بمبادرة «الحزام والطريق»، بل أيضاً مجاملة لباكستان. ويتجلى ذلك في الدعوة التي وجّهتها الصين إلى قيادات «طالبان» الأسبوع الماضي.
من ناحية أخرى، كان من المقرّر أن يزور قائد الجيش الوطني الأفغاني، الجنرال شير محمد كريمي، الهند في وقت مبكر هذا الأسبوع، لكن الزيارة أرجئت. وأوضحت مصادر أنه بينما تبدي نيو دلهي استعدادها لمعاونة القوات الأفغانية بأي مساعدة فنية للمعدات التي كانت قد أمدّت بها أفغانستان من قبل، فلا خطط لديها لإرسال أي أسلحة جديدة. وللعلم، خلال الزيارة المؤجلة الآن، كان من المقرر أن يلتقي كريمي رئيس أركان الجيش الهندي إم إم نارافاني ومستشار الأمن الوطني أجيت دوفال ومسؤولين آخرين. كذلك كان مقرراً أن يزور مدينة بونه (جنوب شرقي ممباي) لمقابلة الكوادر العسكرية الأفغانية التي تتدرب عسكرياً هناك. لكن، خلال مقابلة معه، حذّر سهيل شاهين، المتحدث الرسمي باسم «طالبان»، من أن على السلطات الهندية الإحجام عن تقديم أي دعم عسكري لحكومة أشرف غني.
- قراءة الوضع الأفغاني
على أي حال، كتب الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي سي راجا موهان في دورية «فورين بوليسي» أن نيودلهي «غير مقتنعة بالكلام الدائر عن السقوط الوشيك لكابُل والعودة الفورية والمحتومة لـ(طالبان) إلى السلطة... مع أن (طالبان) استولت بالفعل على مساحات واسعة من البلاد وسط تسارع وتيرة الانسحاب الأميركي، وتراهن الحكومة الهندية على أن المرحلة الأخيرة من اللعبة الدائرة في أفغانستان لم تحن بعد. وعلى أدنى تقدير، ما زال هناك وقت كافٍ أمام القوى الخارجية للتأثير على النتيجة».
من جهته، ذكر الصحافي نايانيما باسو أن التقدير الحالي لنيودلهي للوضع المتبدل سريعاً في أفغانستان يتركز حول فكرة أن «طالبان» في انتظار «الانسحاب الكامل» من جانب قوات الولايات المتحدة وحلف «الناتو» بحلول 31 أغسطس (آب).
وفيما يخص الهند، فإن البقاء على قيد الحياة داخل أفغانستان سيتطلب بذل جهود مضنية لإقناع القيادات الأفغانية المتناحرة (مثل أشرف غني وحامد كرزاي وعبد الله عبد الله ومارشال دوستوم وأمر الله صالح... إلخ) بتكوين جبهة موحدة في مواجهة «طالبان»، وتوضيح فكرة أنهم إذا لم يقف بعضهم بجانب بعض، فسيتساقطون واحداً تلو الآخر.
- أفغانستان... والتقارب الصيني - الباكستاني
هل تحاول باكستان والصين إقرار حكومة لـ«طالبان» على أفغانستان؟ خلال المقابلة التي أجراها رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان مع وسائل إعلام أميركية، الأسبوع الماضي، قال عمران خان إن مقاتلي «طالبان» «مواطنون صالحون» و«مدنيون» لا يرغبون في إراقة الدماء. ومن جهتها، مضت الصين خطوة إلى الأمام ووجّهت الدعوة إلى قيادات «طالبان» لزيارة بكين وأبدت لهم التقدير والاحتفاء الذي عادة ما يجري تقديمه لممثلي الحكومات ذات السيادة.
وفيما رآه مراقبون محاولة أخرى من الصين للاصطياد في الماء العكر، استضاف وزير الخارجية الصيني وانغ يي في وقت قريب وفداً من «طالبان» بقيادة الملا عبد الغني بارادار في مدينة تيانجين (الميناء الفعلي للعاصمة بكين). وكانت الفحوى اقتراح صيغة مباشرة للغاية؛ نحن نعترف بكم وندعم دوركم السياسي في عملية إعادة إعمار أفغانستان، وفي المقابل تقطعون أي صلات محتملة لكم مع الحركة الإسلامية الأويغورية في إقليم سنكيانغ (تركستان الشرقية) التي تتهمها السلطات الصينية بشنّ سلسلة من الهجمات داخل الإقليم. وقال وانغ صراحة: «تشكل (طالبان) داخل أفغانستان قوة عسكرية وسياسية محورية، وستلعب دوراً مهماً في عملية السلام والمصالحة وإعادة الإعمار هناك».
هذه إشارة واضحة على أن الصين قد تعترف بحكومة «طالبان» إذا ما وصلت للسلطة في كابل. وثمة أسباب عدة تقف خلف هذا الأمر. إذ سبق لوزير الخارجية الصيني الإعراب عن أمله في أن تشن «طالبان» حملة صارمة ضد الحركيين الأويغور في تركستان الشرقية «نظراً لأنهم يمثلون تهديداً مباشراً للأمن الوطني الصيني» داخل سنكيانغ. وبالفعل، تخشى بكين من استخدام الحركيين أراضي أفغانستان المجاورة منصة لشن هجمات ضد الجيش الصيني.
يذكر أن السلطات الصينية كانت قد حظرت على الأويغور المسلمين إطالة اللحى والصلاة في أماكن عامة، بجانب تدميرها كثيراً من المساجد، وفق كلام كبير تانيجا، زميل «أوبزرفر ريسيرتش فاونديشن» ومؤلف كتاب «خطر (داعش)... الجماعة الإرهابية الأخطر بالعالم وظلها في جنوب آسيا». ويضيف تانيجا: «تأمل الصين في أن تسارع إلى ملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأميركي. وتتوقع أن تنجح (طالبان) في إسقاط حكومة أشرف غني قريباً، وبعكس الهند والولايات المتحدة فإنها لا تعتبر الاستيلاء العسكري على السلطة أمراً لا أخلاقياً، وإن كانت تفضل نتيجة سلمية. في المقابل، لا تعبأ بكين بتحول أفغانستان إلى دولة دينية إسلامية طالما أنها مستقرة سياسياً، بحيث يمكن للصين تأمين مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية فيها».
وفي سياق متصل، كتب ديريك غروسمان، المحلل البارز المعني بشؤون الدفاع لدى مؤسسة «راند كوربوريشن» مقالاً نشره بدورية «فورين بوليسي» عن هذا التوجه. إذ قال: «تعاونت بكين بنشاط مع كابل بخصوص بناء طريق بيشاور - كابل، الرابط بين باكستان وأفغانستان، وكذلك بناء طريق رئيسي عبر ممر واخان (الشريط الجبلي الضيق الرابط بين أقصى غرب سنكيانغ وأفغانستان) ونحو الداخل يربط بين باكستان وآسيا الوسطى، ما يكمل شبكة الطرق القائمة عبر المنطقة. وبمجرد إنجازه هذه الطرق، من المفترض أنها ستمكن بكين من السعي وراء أهدافها بتعزيز التجارة مع دول المنطقة واستخراج موارد طبيعية من أفغانستان».
وأضاف غروسمان: «ربما تشكل أفغانستان واحدة من أوثق حلفاء الصين، وستعتمد عليها الصين بشدة في تأمين المشروعات الصينية في أفغانستان والمنطقة. ويبدو من المحتمل جداً أن تطلب الصين من القوات الباكستانية التدخل في أفغانستان قبل مشاركة أي قوات من جانب الصين. أما السؤال الأبرز هنا فيدور حول ما إذا كانت باكستان تملك بالفعل القدرة التي تمكّنها من السيطرة على مسار الأحداث في أفغانستان، وما إذا كان الجهاز الأمني الباكستاني سيلتزم بالأوامر الصادرة له من الدولة».
- الأوضاع غير مريحة بين حكومتي إسلام آباد وكابل
> تبدو العلاقات الأفغانية - الباكستانية اليوم في أسوأ عهودها، إذ سحبت الحكومة الأفغانية سفيرها ودبلوماسييها من العاصمة الباكستانية إسلام آباد في أعقاب اختطاف ابنة السفير. إذ كانت سلسلة علي خليل، ابنة السفير نجيب علي خليل، قد اختطفت منذ أسبوعين، واحتجزت لعدة ساعات على أيدي مهاجمين مجهولين تركوها لاحقاً، وبها إصابات. وقالت السلطات الباكستانية إنها تجري تحقيقاً في الحادث.
جدير بالذكر أن البلدين المجاورين لطالما اتسمت علاقتهما بالفتور. وتتهم كابل باكستان بتوفير «ملاذات آمنة» لـ«طالبان»، بينما تتهم إسلام آباد الحكومة الأفغانية بالسماح لجماعات مسلحة باستخدام أراضيها في شن هجمات داخل باكستان. ثم إن باكستان لعبت دوراً بارزاً في المساعدة في إشراك «طالبان» في مباحثات السلام التي بدأت في قطر العام الماضي، لكن المباحثات أخفقت في تحقيق تقدم ملموس، وصعّدت «طالبان» من هجماتها.
طبعاً، ثمة مَن يسأل: «من أين تحصل (طالبان) على السلاح والذخيرة»؟
يبدو هذا التساؤل لكثيرين بمثابة سرّ مكشوف. وخلال كلمة ألقاها الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمدزي، خلال الشهر الماضي أمام مؤتمر إقليمي لدول وسط وجنوب آسيا، فإنه وجّه اللوم إلى باكستان، معتبراً إياها مسؤولة عن تدفق مقاتلي «طالبان» إلى داخل أفغانستان، وتقاعس إسلام آباد عن بذل جهود كافية للضغط على «طالبان» للانضمام إلى حوار سلمي.
كلام الرئيس الأفغاني كان في حضور رئيس وزراء باكستان عمران خان ووزراء خارجية الهند والصين وروسيا. ومما قاله أشرف غني إن ما يزيد عن 1000 مقاتل متشدد دخلوا أفغانستان عن طريق باكستان خلال الشهر السابق فقط. وأردف: «بعكس التأكيدات المتكررة من رئيس الوزراء الباكستاني وجنرالاته، فإن العناصر الداعمة لـ(طالبان) تحتفل علانية بتدمير أصول وقدرات الشعب الأفغاني وحكومته».
وتفاقمت الأمور بعدما اتهم نائب الرئيس الأفغاني أمر الله صالح، هذا الأسبوع، حلف شمال الأطلسي «ناتو» صراحة بالتغاضي عن توجيه الاتهام إلى باكستان بالضلوع في حركة التمرد المشتعلة في أفغانستان. وقال صالح: «لا يمكن للمرء إصلاح سقف به مشكلة تسريب بطلائه فحسب... إننا نتعرض لغزو من الجانب الآخر... باكستان». ولم يتوقف صالح عند هذا الحد، بل نشر الصورة الشهيرة لاستسلام الجيش الباكستاني أمام الجيش الهندي إبان حرب تحرير بنغلاديش عام 1971. وتشارك صالح مع متابعيه في هذه الصورة عبر «تويتر»، قائلاً إن ليس لدى أفغانستان في تاريخها صورة مشابهة «ولن يكون لها صورة مشابهة في المستقبل». وفي إشارة إلى الصورة، كتب قائلاً: «أعزائي أعضاء (تويتر) من الباكستانيين الذين يهاجمونني، (طالبان) والإرهاب لن يفلحا في محو صدمة هذه الصورة. ربما عليكم تجريب سبل أخرى». ولم يتأخر رد وزير الإعلام والإذاعة الباكستاني، فؤاد حسين، على نائب الرئيس الأفغاني، إذ وصفه بـ«الضبع»، وكتب عبر «تويتر» مغرداً: «أفغانستان ملك للشعب الأفغاني، وليست للضباع أمثالك».
وفي خضم التوتر المتصاعد، أرجأت باكستان خططاً لاستضافة مؤتمر سلام أفغاني تشارك فيه القيادة السياسية الأفغانية. وكان 21 من القادة الأفغان البارزين قد دعوا لحضور المؤتمر في إسلام آباد. وذكرت وسائل إعلام باكستانية أن الرئيس الأفغاني طلب من نظيره الباكستاني عمران خان خلال لقاء بينهما في أوزبكستان إلغاء المؤتمر.
كذلك، تردّت العلاقات بين إسلام آباد وكابل على نحو واضح في أعقاب تصاعد أعمال العنف في أفغانستان. وادّعى مستشار الأمن الوطني الباكستاني معيد يوسف، الشهر الماضي، أن كابل شعرت بالحرج من «التصريحات البلهاء» الصادرة عن كبار مسؤوليها، والتي أضرت العلاقات بين البلدين. لكن الصحافية الباكستانية مليحة لودي، من جهتها، كتبت: «إذا سقطت أفغانستان في حالة من الفوضى، فستتأثر باكستان أمنياً. ومن شأن استمرار الاضطرابات لفترة طويلة في بلد مجاور تعريض باكستان لتهديدات أمنية، على غرار ما تعاملت معه في الماضي وترتّب عليه تكاليف فادحة من حيث الأرواح، ناهيك عن التكاليف الاجتماعية والاقتصادية».
هذا، وأثارت مقابلة مع زعيم «طالبان الباكستانية»، نور ولي محسود، من جانب شبكة «سي إن إن»، ضجة كبيرة داخل باكستان، حين ذكر أن باكستان هي الهدف الرئيس للحركة. ولقد وصف محللون باكستانيون المقابلة بأنها محاولة لإضفاء الشرعية على جماعة إرهابية ووضعها على قدم المساواة مع «طالبان» الأفغانية، مع أن «طالبان الباكستانية» موضوعة على القائمة الأميركية للتنظيمات الإرهابية، وتمكّنت باكستان من تحييدها بالفعل، في حين تعقد الولايات المتحدة وغيرها من الدول مفاوضات مع «طالبان» الأفغانية.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.