في كل عام، عندما كانت ريبيكا دونر تزور والدة جدتها في تشيفي تشيس بولاية ماريلاند، كانت تقف هي وشقيقها أمام جدار المطبخ لتحديد ما وصل إليه طولهما بالقلم الرصاص. وعندما بلغت التاسعة، لاحظت وجود حرف «إم» الإنجليزي بالقرب من أحد الخطوط.
وحينها، سألت جدتها هارييت: «من صاحب هذه العلامة»، وأجابت جدتها متمتمة: «أوه، هذه ميلدريد».
أثار الأمر فضول دونر، لكن لم تعرف الحقيقة إلا بعد أن بلغت السادسة عشرة من عمرها: كانت ميلدريد هارناك جاسوسة أميركية خلال الحرب العالمية الثانية. وقادت مع زوجها، أرفيد هارناك، مجموعة مقاومة في برلين، وخاطرت بحياتها لتسريب معلومات من وزارة الاقتصاد الألمانية، حيث كان يعمل أرفيد، على أمل هزيمة النازيين. ورغم أنها أوشكت على النجاح في الهروب، أعدمت بالمقصلة عام 1943 بأمر مباشر من أدولف هتلر.
ورغم أن المعلومات المحيطة بهارناك تفتقر بدرجة كبيرة إلى الدقة، حرصت دونر على وضع الأمور في نصابها الصحيح في كتابها «كل المشاكل المتكررة في أيامنا» المقرر أن تنشره دار «ليتل براون»، هذا الأسبوع.
وقالت دونر خلال مقابلة في منزلها في بروكلين: «قالت لي جدتي جين: يجب أن تكتبي قصة ميلدريد». وأضافت: «فكرت في نفسي وقلت: حسناً، نعم، ولكن ربما لن يكون كتابي الأول».
وتملك دونر شعور بأن جدتها لديها المزيد لتحكيه عن هارناك، لكنها ماتت في حادث بعد سنوات قليلة.
وعن هذا، قالت دونر: «تركني هذا الأمر أمام وميض من الغموض. وبدا الوضع برمته مذهلاً لي».
بمرور السنوات، تخرجت دونر في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وحصلت على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة كولومبيا. وتولت إخراج سلسلة أفلام خيالية بعنوان «حانة كي جي بي في إيست فيليدج بنيويورك». وكتبت كذلك «شرفة الغروب» (صنست تيراس)، رواية تدور أحداثها في لوس أنجليس، وأعقبتها رواية «الاحتراق» (بيرن أوت)، وهي عمل أدبي مرعب حول الإرهاب البيئي.
وقبل نشر رواية «الاحتراق» مباشرة عام 2008، زارت دونر برلين وتوجهت إلى المركز التذكاري للمقاومة الألمانية، لعلمها أن جدتها كانت على تواصل مع نشطاء هناك.
وقالت: «اعتقدت أنهم ربما يكون لديهم لوحة صغيرة أو شيء ما عن ميلدريد». ومع ذلك، فإنها عندما فتحت أبواب المصعد، فوجئت بصورة عمتها الكبرى في استقبالها عند مدخل معرض فني عن حياتها. وعن ذلك، قالت: «في الواقع، كانت هناك غرفتان مخصصتان لها. كان هذا معرضاً ضخماً». ورغم هذا، شعرت دونر أنها غير مستعدة بعد للاضطلاع بمهمة كتابة السيرة الذاتية لعمتها الكبيرة الراحلة.
بدلاً عن ذلك، أمضت دونر عدة سنوات في العمل على رواية تستند إلى وفاة جدتها المفاجئة. إلا أنه عام 2016. عندما بدأت حملة دونالد ترمب تكتسب الزخم، تولد داخل دونر «شعور بأن المقاومة تمثل روح العصر»، حسبما قالت. وأضافت الكاتبة: «رأيت أنه من المهم حقاً أن أبدأ الكتابة عن الأمر الآن».
كانت دونر قد علمت أيضاً من جدتها أن هارناك وظفت نجل دبلوماسي يبلغ من العمر 11 عاماً لتسليم رسائل مشفرة إلى والديه، اللذين أرسلا المعلومات إلى الولايات المتحدة. كان اسمه دونالد هيث جونيور، ويعيش الآن في كاليفورنيا، وكان في عمر الـ90 تقريباً.
وبالفعل، اتصلت دونر به والتقيا عام 2016. وأخبرها هيث كيف أنه كان يحرص على اتخاذ طريق مختلفة إلى شقة هارناك في كل مرة يجتمعان فيها من أجل جلسات «الدروس الخصوصية»، وكيف كان يستخدم زجاج حوض الأسماك في حديقة حيوان برلين كمرآة للكشف عن أي مراقبة محتملة. وأخبرها كذلك كيف أنه في كل مرة كان يرافق هارناك والديه في رحلة للريف، كان يرتدي زياً مسروقاً يخص مجموعة «شباب هتلر» وكان يصفر بألحان أغاني مختلفة ليخبرهم ما إذا كان الشاطئ خالياً من أي مراقبة.
وبعد انتهاء المقابلة، قالت دونر إن هيث أخبرها بينما اغرورقت عيناه بالدموع: «لقد أخبرتك أكثر مما أخبرت به أي شخص آخر، لكننا أقرب إلى عائلة واحدة»، قبل أن يضيف: «الآن، يمكنني أن أموت».
وأجابته دونر: «لا تفعل ذلك يا دون»، لكن في غضون شهر أو شهرين كان قد رحل بالفعل.
في الأسابيع التي أعقبت وفاة هيث، تلقت مكالمة من عائلته، وأتاحوا لها الوصول إلى 12 حقيبة مليئة بالوثائق جاءت من برلين، حيث اكتشفت مذكرات والدته. واتضح أن لويز هيث وميلدريد هارناك كانتا صديقتين مقربتين. واكتشف دونر كذلك وثائق استخباراتية شديدة السرية تقدم نظرة ثاقبة جديدة حول جهود آل هيث وآل هارناك.
رغم أن السفر إلى أوروبا للبحث قد يبدو مغامرة ساحرة، قضت دونر معظم ساعاتها في البحث عن المستندات داخل شقتها. وقالت إن الجدار خلف مكتبها كان مغطى بالورق حيث رسمت خرائط لشبكات المقاومة المتقاطعة المناهضة للنازية، وذلك «لمعرفة ما هي الروابط، وهل هي ذات مغزى، أم أنها ليست كذلك؟ هل هذه مجرد مصادفات أم لا؟»، حسبما شرحت دونر. كما كانت هناك رفوف مملوءة بأغلفة بيضاء تحتوي على مسح للمراسلات ولوحة إعلانات عليها صور هارناك وهيث وأشخاص آخرين وردت أسماؤهم في بحثها. أما الرواق، فكانت تزينه ثلاثة ملصقات أبدعها طلاب مدرسة ميلدريد هارناك الثانوية في برلين.
أما الوكيل الأدبي لدونر، جيم روتمان من مؤسسة «سترلينغ لورد ليتريستيك»، فبدا «منبهراً باستمرار» إزاء قدرة الكاتبة على تعقيد القصص المتعلقة بالمقاومة.
وقال: «تبدو الكتابات التي تتناول الحرب العالمية الثانية فئة من الكتب مثيرة لاهتمام النوعين... كما أن وضع امرأة في قلب الأحداث وتعقيد أسلوب سرد القصة عن النهج المعتاد، بدا أمراً صائباً تماماً».
من جانبها، شددت دونر على أهمية التاريخ، أو إمعان النظر في الكيفية التي تجري بها كتابة التاريخ في الروايات الحالية. على سبيل المثال، أشارت دونر إلى أنه غالباً ما تجري الإشارة إلى أرفيد هارناك باعتباره «عالماً»، بينما يشار إلى ميلدريد هارناك على أنها «مدرسة»، وهو أمر قالت دونر إنه غير صحيح.
وأوضحت دونر أن ميلدريد: «حصلت على وظيفة بجامعة برلين، بينما لم يحدث المثل مع أرفيد. وبالتالي فإن الأصح أنها هي (العالمة)».
وفي الوقت الذي أتاحت قرابتها لميلدريد أمامها قدرة كبيرة على الوصول إلى أدق المعلومات، أعربت دونر عن اعتقادها بأن هذه القرابة لم تدفعها نحو التحيز إلى صف عمتها.
وعن ذلك، قالت دونر: «لست مهتمة بسير القديسين. إن أعظم تكريم يمكن أن أقدمه لها ليس أن أضعها على قاعدة تمثال، وإنما أظهر أمام الجميع كم كانت بشرية».
- خدمة «نيويورك تايمز»
«كل المشاكل المتكررة في أيامنا» يروي قصة جاسوسة من الحرب العالمية
«كل المشاكل المتكررة في أيامنا» يروي قصة جاسوسة من الحرب العالمية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة