«العصف»... لبنان فندق أم مقبرة؟

وثائقي عرضه «شاهد» في ذكرى مأساة بيروت

كوزيت يوسف في «العصف»
كوزيت يوسف في «العصف»
TT

«العصف»... لبنان فندق أم مقبرة؟

كوزيت يوسف في «العصف»
كوزيت يوسف في «العصف»

نشاء القول: حسناً، لنعبُر من هزّات بيروت نحو شواطئ آمنة، ولنغيّر في الكتابة. صعب. نستعير عنوان الوثائقي المعروض عبر «شاهد» في ذكرى مأساة المرفأ، لوصف الحال: «العصف». إنّه يُسبب التطاير والتخلّع والتشلّع، فلا نقوى على ردّه وصدّه. لذلك، تتواصل الكتابة حتى تستكين الأصوات. تتولى كوزيت يوسف، لبنانية ثلاثينية، السرد. تروي حكايتنا نحن العالقين في عنق الزجاجة. ويلٌ في النزول وويلٌ في الخروج. لم يبقَ شيء على حاله منذ 4 أغسطس (آب) الماضي؛ لا الروح والذكريات ولا الأعماق والحياة. بقي صوت واحد ومشهد واحد. «العصف»؛ وثائقي لديفيد أوريان ورين باسط، يطرح أكثر الإشكاليات اللبنانية المعقدة: «هل نبقى أم نرحل؟». ناجون من الانفجار يجيبون كوزيت (وقد أمكن أن تكون «المرحومة كوزيت») عن سؤال الهجرة الصعب.
كيف يصبح المرء ناجياً؟ حين يضمّد جرحه أم حين تشفى روحه؟ حين يمتحنه الموت أم حين تمنحه الحياة فرصة ثانية؟ وهل للأجساد وحدها علاقة بالنجاة؟ ماذا عن القلب والذاكرة؟ والعلاقات الإنسانية؟ واتساع المكان المُدمّى؟ تحمل كوزيت يوسف نجاتها المغشوشة وتسير في شوارع بيروت. تعلم أنها تتنفس فقط. أي هواء، والمدينة اختناق واحتضار؟ تتنفس كذبة العيش، والهواء الأصفر الموبوء المسمى «Hope».
يعرّف الوثائقي بمرفأ شغل حيزاً مهماً في التجارة البحرية ما بين الشرق والغرب لأكثر من 100 عام، وبأقل من 100 ثانية دُمّر بالكامل. تمرّ فيديوهات «تلك اللحظة»، حين بدا «كل شيء على ما يرام»: عروس تلتقط صورة سعيدة مع شريك العمر. لم يخطر لها أن وسط بيروت ليس المكان المناسب للاحتفاظ بالبهجة. متضايقون من الحر يختارون الشرفات فسحة لـ«البوردة»، وكاهن في الكنيسة يلقي عظة على أبناء الرعية. حياة تبدو «طبيعية»، إلى أن ذبحت المدينة عصر ذلك الثلاثاء وألقي بها بلا حشمة في القبر.
«أصبح للدم صوت»، تقول كوزيت؛ وهي اختزال الشباب اللبناني المعلّق بين الأرض والسماء. كل ما حولها يشدّها نحو الأسفل، ونسيم ضئيل يدعى حب الحياة، يحاول دفعها للأعلى. تتصارع المحاولتان، فيتدخل اليأس لحسم الجولة. الوثائقي عنوانه الكباش: لمن الغلبة، لكون الوطن فندقاً نغادره إن ساءت المعاملة أم لكونه جبهة مفتوحة على الموت؟ الغلبة للذنب وأنت ترحل، أم للذنب وأنت تبقى؟ هو كباش القرار والمصير. وتخبُّط الشعور والعقل، كأنهما في معركة وعلى أحدهما أن يهزم الآخر. «أصبح للدم صوت». ورائحته لا تُطاق.
يحضر ناجون من مقتلة بيروت، وقد قُطِّب أحدهم 857 قطبة، إلى أن توقف الطبيب عن العد! عام على الكارثة، وهم عيّنة يتحدثون عن نقطة تحوّل أصابت شعباً بالكامل. المشترك هو عدم الفهم. «شو صار؟» يتساءلون. «مثل زلزال»، يوصّفون. «شو يعني انفجار؟»، تقول سيدة حيّدت نفسها عن الحروب. «تلك اللحظة» على لسان متذوّقي الرعب. ضياع وصراخ: «ماذا يجري يا الله؟». جدران تتهاوى، أشلاء، سيارات عكس السير، ازدحام جنوني، وآلاف الجرحى... «شيء في الداخل مات إلى الأبد»، «وآخرتها، بقوم بفل؟»، البقاء شقاء بعد الآن.
كلهم ناجون بالاسم، أما بالفعل فهم ضحايا. لم يسمعوا يوماً بالعنبر رقم «12» في مرفأ بيروت. «ما بعرف شو يعني». زار أحدهم هيروشيما مع ابنته وشعر بحاجة إلى البكاء. في 4 أغسطس، أراد البكاء ولم يستطع. أراد الانهيار أيضاً ولم يستطع. بعد عام، تُفتح مجاري الدمع، فينسال سيل الشلال.
تتردد هذه الرغبة طوال الوثائقي (56 دقيقة): «بدي ضبّ الشنطة وفل». وعلى ألسن الناجين، يتبيّن أنها ليست دائماً متاحة. يناقشون الجدلية من جوانبها: هل حقاً الحياة في الخارج أفضل؟ للبعض نعم؛ للبعض لا. فرص وحظوظ، فلا تكفي أحياناً المحاولات والنيات. 20 عاماً أمضتها سيدة لبنانية تحاول جمع المال لشراء منزل. «لم أستطع. بالكاد يكفي الراتب للطعام والشراب. بخمس سنوات، ادّخرتُ في الإمارات ما لم أكن أحلم به». هناك خطاب آخر يقول: «الوطن كالأم والأب، لا تستطيع التخلّي عنه مهما أساء». وخطاب ثالث يُبرر السفر المرحلي من أجل عودة أقوى. «سنصلح منازلنا ونكمل العيش». الأقدار؛ مرة تكون باليد ومرة بعصر الروح.
هل يمكن إنقاذ الذكريات؟ «تيتا» و«جدو» ومنزل الأهل وجلسات الأصدقاء؟ الرحيل اللبناني ليس عاطفياً على الإطلاق. إنه بالإكراه. يختار البريطاني العيش في الخليج مثلاً بكامل إرادته. يحترم وطنه كرامته الإنسانية، لكنه يفضل حياة مغايرة. اللبناني يحزم حقيبته بوجع. يحاول طي الصفحة بوجع، مقنعاً نفسه بضرورة «التخلي» عن كل شيء، خصوصاً الجذور والذكريات، فيعيش بأقل «ثقل». يتفادى توريث أبنائه «الهم الوطني». «نريد لهم أياماً أفضل».
لا جواب عمّا حدث بالضبط، والتاريخ يشهد على استحالة تفسير الموت داخل الأراضي اللبنانية. قانونيون وإعلاميون يتحدثون عن غياب المسؤولية في التعامل مع مسرح الجريمة، ويدعون إلى الضغط لتحقيق العدالة. الخلاصة: نحن مطرودون من وطننا. نعيش يوماً بيوم. لا ندري ماذا ينتظرنا إن رحلنا وماذا يُحضّر لنا إن قررنا البقاء. غرباء من دون اتجاه.



بارود «النار بالنار» موهبة صاعدة لفتت المشاهد

عابد فهد وتيم عزيز في مشهد من «النار بالنار» (خاص تيم)
عابد فهد وتيم عزيز في مشهد من «النار بالنار» (خاص تيم)
TT

بارود «النار بالنار» موهبة صاعدة لفتت المشاهد

عابد فهد وتيم عزيز في مشهد من «النار بالنار» (خاص تيم)
عابد فهد وتيم عزيز في مشهد من «النار بالنار» (خاص تيم)

منذ الحلقة الأولى لمسلسل «النار بالنار» لفت تيم عزيز المشاهد في دور (بارود). فهو عرف كيف يتقمص شخصية بائع اليانصيب (اللوتو) بكل أبعادها. فألّف لها قالباً خاصاً، بدأ مع قَصة شعره ولغة جسده وصولاً إلى أدائه المرفق بمصطلحات حفظها متابع العمل تلقائياً.
البعض قال إن دخول تيم عزيز معترك التمثيل هو نتيجة واسطة قوية تلقاها من مخرج العمل والده محمد عبد العزيز، إلا أن هذا الأخير رفض بداية مشاركة ابنه في العمل وحتى دخوله هذا المجال. ولكن المخرج المساعد له حسام النصر سلامة هو من يقف وراء ذلك بالفعل. ويقول تيم عزيز لـ«الشرق الأوسط»: «حتى أنا لم أحبذ الفكرة بداية. لم يخطر ببالي يوماً أن أصبح ممثلاً. توترت كثيراً في البداية وكان همي أن أثبت موهبتي. وفي اليوم الخامس من التصوير بدأت ألمس تطوري».
يحدثك باختصار ابن الـ15 سنة ويرد على السؤال بجواب أقصر منه. فهو يشعر أن الإبحار في الكلام قد يربكه ويدخله في مواقف هو بغنى عنها. على بروفايل حسابه الإلكتروني «واتساب» دوّن عبارة «اخسر الجميع واربح نفسك»، ويؤكد أن على كل شخص الاهتمام بما عنده، فلا يضيع وقته بما قد لا يعود ربحاً عليه معنوياً وفي علاقاته بالناس. لا ينكر أنه بداية، شعر بضعف في أدائه ولكن «مو مهم، لأني عرفت كيف أطور نفسي».
مما دفعه للقيام بهذه التجربة كما يذكر لـ«الشرق الأوسط» هو مشاركة نجوم في الدراما أمثال عابد فهد وكاريس بشار وجورج خباز. «كنت أعرفهم فقط عبر أعمالهم المعروضة على الشاشات. فغرّني الالتقاء بهم والتعاون معهم، وبقيت أفكر في الموضوع نحو أسبوع، وبعدها قلت نعم لأن الدور لم يكن سهلاً».
بنى تيم عزيز خطوط شخصيته (بارود) التي لعبها في «النار بالنار» بدقة، فتعرف إلى باعة اليناصيب بالشارع وراقب تصرفاتهم وطريقة لبسهم وأسلوب كلامهم الشوارعي. «بنيت الشخصية طبعاً وفق النص المكتوب ولونتها بمصطلحات كـ(خالو) و(حظي لوتو). حتى اخترت قصة الشعر، التي تناسب شخصيتي، ورسمتها على الورق وقلت للحلاق هكذا أريدها».
واثق من نفسه يقول تيم عزيز إنه يتمنى يوماً ما أن يصبح ممثلاً ونجماً بمستوى تيم حسن. ولكنه في الوقت نفسه لا يخفي إعجابه الكبير بالممثل المصري محمد رمضان. «لا أفوت مشاهدة أي عمل له فعنده أسلوبه الخاص بالتمثيل وبدأ في عمر صغير مثلي. لم أتابع عمله الرمضاني (جعفر العمدة)، ولكني من دون شك سأشاهد فيلمه السينمائي (هارلي)».
لم يتوقع تيم عزيز أن يحقق كل هذه الشهرة منذ إطلالته التمثيلية الأولى. «توقعت أن أطبع عين المشاهد في مكان ما، ولكن ليس إلى هذا الحد. فالناس باتت تناديني باسم بارود وتردد المصطلحات التي اخترعتها للمسلسل».
بالنسبة له التجربة كانت رائعة، ودفعته لاختيار تخصصه الجامعي المستقبلي في التمثيل والإخراج. «لقد غيرت حياتي وطبيعة تفكيري، صرت أعرف ماذا أريد وأركّز على هدف أضعه نصب عيني. هذه التجربة أغنتني ونظمت حياتي، كنت محتاراً وضائعاً أي اختصاص سأدرسه مستقبلاً».
يرى تيم في مشهد الولادة، الذي قام به مع شريكته في العمل فيكتوريا عون (رؤى) وكأنه يحصل في الواقع. «لقد نسيت كل ما يدور من حولي وعشت اللحظة كأنها حقيقية. تأثرت وبكيت فكانت من أصعب المشاهد التي أديتها. وقد قمنا به على مدى يومين فبعد نحو 14 مشهداً سابقاً مثلناه في الرابعة صباحاً صورنا المشهد هذا، في التاسعة من صباح اليوم التالي».
أما في المشهد الذي يقتل فيه عمران (عابد فهد) فترك أيضاً أثره عنده، ولكن هذه المرة من ناحية الملاحظات التي زوده بها فهد نفسه. «لقد ساعدني كثيراً في كيفية تلقف المشهد وتقديمه على أفضل ما يرام. وكذلك الأمر بالنسبة لكاريس بشار فهي طبعتني بحرفيتها. كانت تسهّل علي الموضوع وتقول لي (انظر إلى عيني). وفي المشهد الذي يلي مقتلها عندما أرمي الأوراق النقدية في الشارع كي يأخذها المارة تأثرت كثيراً، وكنت أشعر كأنها في مقام والدتي لاهتمامها بي لآخر حد»
ورغم الشهرة التي حصدها، فإن تيم يؤكد أن شيئاً لم يتبدل في حياته «ما زلت كما أنا وكما يعرفني الجميع، بعض أصدقائي اعتقد أني سأتغير في علاقتي بهم، لا أعرف لماذا؟ فالإنسان ومهما بلغ من نجاحات لن يتغير، إذا كان معدنه صلباً، ويملك الثبات الداخلي. فحالات الغرور قد تصيب الممثل هذا صحيح، ولكنها لن تحصل إلا في حال رغب فيها».
يشكر تيم والده المخرج محمد عبد العزيز لأنه وضع كل ثقته به، رغم أنه لم يكن راغباً في دخوله هذه التجربة. ويعلق: «استفدت كثيراً من ملاحظاته حتى أني لم ألجأ إلا نادراً لإعادة مشهد ما. لقد أحببت هذه المهنة ولم أجدها صعبة في حال عرفنا كيف نعيش الدور. والمطلوب أن نعطيها الجهد الكبير والبحث الجدّي، كي نحوّل ما كتب على الورق إلى حقيقة».
ويشير صاحب شخصية بارود إلى أنه لم ينتقد نفسه إلا في مشاهد قليلة شعر أنه بالغ في إبراز مشاعره. «كان ذلك في بداية المسلسل، ولكن الناس أثنت عليها وأعجبت بها. وبعدما عشت الدور حقيقة في سيارة (فولسفاكن) قديمة أبيع اليانصيب في الشارع، استمتعت بالدور أكثر فأكثر، وصار جزءاً مني».
تيم عزيز، الذي يمثل نبض الشباب في الدراما اليوم، يقول إن ما ينقصها هو تناول موضوعات تحاكي المراهقين بعمره. «قد نجدها في أفلام أجنبية، ولكنها تغيب تماماً عن أعمالنا الدرامية العربية».