التحقيق في تفجير المرفأ يواجه منظومة الفساد (تحليل)

الدمار الواسع الذي خلفه الانفجار في مرفأ بيروت العام الماضي (أ.ب)
الدمار الواسع الذي خلفه الانفجار في مرفأ بيروت العام الماضي (أ.ب)
TT

التحقيق في تفجير المرفأ يواجه منظومة الفساد (تحليل)

الدمار الواسع الذي خلفه الانفجار في مرفأ بيروت العام الماضي (أ.ب)
الدمار الواسع الذي خلفه الانفجار في مرفأ بيروت العام الماضي (أ.ب)

نتائج التحقيقات الكبرى المتعلقة بوقائع جنائية أو سياسية، سواء تلك التي يجريها القضاء أم الصحافة، الأثر المباشر والقريب للقضية المعنية. وتتحول إلى وثيقة تكشف وتُشرح المنظومة والسياق اللذين وقعت فيهما الجريمة أو المسألة التي ينظر التحقيق فيها.
التحقيق في تفجير مرفأ بيروت ينتمي إلى هذه الفئة من الأعمال الكاشفة التي تكمن أهميتها ليس في أبعادها المباشرة والآنية بل فيما تُظهره من شبكة متداخلة من صرف النفوذ والفساد وتبادل الخدمات في منأى عن القانون وفي تضاد كامل مع المصلحة العامة.
من هنا، يمكن فهم الارتباك الذي قامت به الجماعة الحاكمة في لبنان، مباشرة التحقيق الذي تسلمه أولاً القاضي فادي صوان، قبل أن تنظم صفوفها وتنقض على التحقيق للإطاحة بصوان بذريعة تضارب المصالح (منزل صوان تضرر في التفجير) وفي تجاوز القوانين بطلبه من مجلس النواب رفع الحصانة عن اثنين من أعضائه. القاضي الحالي، طارق البيطار، لم يتأخر في الوصول إلى استنتاجات مشابهة: لا يمكن المضي قدماً في تحقيق احترافي ونزيه من دون مساءلة مسؤولين حاليين وسابقين تحميهم حصاناتهم النيابية والإدارية. غني عن البيان أن ما يحمي المسؤولين الذين يتعين عليهم الإدلاء بشهاداتهم أو الخضوع للتحقيق كمدّعى عليهم أمام القاضي بيطار، هي شبكة العلاقات الزبائنية والولاءات الأهلية والطائفية والحزبية.
تتقاطع الشبكة هذه مع الحصانات التي يوفرها الدستور للنواب وبعض القوانين الإدارية لموظفي الأجهزة الأمنية، لتشكل عقبة حقيقية أمام سير العدالة في بلد يعاني أصلاً من نقص فادح في انتظام القضاء واستقلاله ومن التدخل اليومي لكل من هبّ ودبّ من أصحاب النفوذ والسطوة والعزوة والسلاح.
على هذه الخلفية جاءت العرقلة التي تمارسها الجماعة الحاكمة بابتكار حجج وذرائع تحول دون مثول بعض أفرادها أمام قاضي التحقيق. لكن الجلي أن منظومة الفساد وصرف النفوذ لن تُسلّم مواقعها من دون قتال. وترسانتها حافلة بالأسلحة التي قد تصل إلى الاغتيالات وافتعال الاضطرابات الأمنية والاعتداء على أهالي الضحايا على غرار ما فعلت السلطة مع المتظاهرين أمام منزل وزير الداخلية محمد فهمي قبل أسبوعين، أو في المراوغة القانونية والمماطلة في إصدار القرارات اللازمة في مجلس النواب. وهذا ما يمكن استنتاجه من دعوة «تيار المستقبل» إلى تعديل الدستور لرفع الحصانات، على طريقة طرح مطلب مستحيل ثم الشكوى من أن أحداً لم يجاره في تنفيذه.
وفي حال سار التحقيق كما ينبغي، سنكون أمام لوحة متشابكة من الأذرع الأخطبوطية لأشخاص سوريين موالين لبشار الأسد، هم أصحاب الشركة التي استوردت مادة نيترات الأمونيوم من جورجيا، إلى مالكي سفن من الجنسيات الروسية واليونانية والقبرصية أكثرهم تدور حوله شبهات تبييض أموال وتجارات بالسلاح وما شابه، وصولاً إلى صف طويل من القضاة ورجال الأمن والإداريين اللبنانيين الذين سهلوا تفريغ الشحنة القاتلة في مرفأ بيروت وتغاضوا عن وجودها وبرروه وأسهموا في إخفاء خطرها مدة سبع سنوات.
لا يحتاج المرء إلى خبرة في تركيبة النظام اللبناني ليدرك أن شبكة كهذه، متعددة الجنسيات والولاءات السياسية والطائفية والتي يحتل أعضاؤها رتباً مختلفة في هرمية السلطة اللبنانية والسورية، لا يمكن أن تتحرك أو تتخذ قرارات من صنف إشغال عنبر من عنابر مرفأ بيروت باهظة الكلفة، لسبع سنوات من دون أن تحظى بغطاء قوي من كامل القوى الحاكمة ومن مشغليها الإقليميين. ويعرف المتعاملون مع إدارة المرفأ صعوبة إبقاء البضائع لأسبوع واحد من دون دفع رسوم عالية. أما بقاء 2750 طناً من نيترات الأمونيوم فظلت في مكانها عقداً إلا ثلاث سنوات.
وعلينا ألا نفاجأ فيما سيكشفه التحقيق، إذا نجح في التقدم إلى هدفه الأخير: العدالة للضحايا. علينا أن نتوقع ظهور أطراف كثيرة تبادلت الخدمات على حساب حياة اللبنانيين، ومررت لبعضها كافة أنواع الصفقات، وتغاضت عن جرائم وارتكابات لا تخطر في بال إنسان سويّ. ذلك أن ما كشفته انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 عن تشارك الطبقة الحاكمة في أعمال سرقة المال العام وتقاسمها الغنائم المستولى عليها من أموال المواطنين، سيتكرر على الأرجح في تحقيق المرفأ.
وتبقى مسألة إتمام التحقيق موضع تحد بين اللبنانيين كممثلين للضحايا، وبين سلطة عاتية فرضت في العامين الماضين إحباط كل ما كان ليخفف من وطأة الكارثة الحالية، من الخطة الإنقاذية (على علاتها) والتحكم برأس المال و«الهيركات» وصولاً إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتشكيل حكومة تلبي الحد الأدنى من آمال مواطنين يزداد يأسهم وغضبهم.



نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
TT

نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)

شيّعت الجماعة الحوثية خلال الأسبوع الماضي أكثر من 15 قتيلاً من قيادييها العسكريين والأمنيين من دون إعلان ملابسات سقوطهم. ورغم توقف المعارك العسكرية مع القوات الحكومية اليمنية في مختلف الجبهات؛ فإن النزيف البشري المستمر لقياداتها وعناصرها يثير التساؤلات عن أسبابه، بالتزامن مع مقتل العديد من القادة في خلافات شخصية واعتداءات على السكان.

ولقي قيادي بارز في صفوف الجماعة مصرعه، الأحد، في محافظة الجوف شمال شرقي العاصمة صنعاء في كمين نصبه مسلحون محليون انتقاماً لمقتل أحد أقاربهم، وذلك بعد أيام من مقتل قيادي آخر في صنعاء الخاضعة لسيطرة الجماعة، في خلاف قضائي.

وذكرت مصادر قبلية في محافظة الجوف أن القيادي الحوثي البارز المُكنى أبو كمال الجبلي لقي مصرعه على يد أحد المسلحين القبليين، ثأراً لمقتل أحد أقاربه الذي قُتل في عملية مداهمة على أحد أحياء قبيلة آل نوف، التي ينتمي إليها المسلح، نفذها القيادي الحوثي منذ أشهر، بغرض إجبار الأهالي على دفع إتاوات.

من فعالية تشييع أحد قتلى الجماعة الحوثية في محافظة حجة دون الإعلان عن سبب مقتله (إعلام حوثي)

ويتهم سكان الجوف القيادي القتيل بممارسات خطيرة نتج عنها مقتل عدد من أهالي المحافظة والمسافرين وسائقي الشاحنات في طرقاتها الصحراوية واختطاف وتعذيب العديد منهم، حيث يتهمونه بأنه كان «يقود مسلحين تابعين للجماعة لمزاولة أعمال فرض الجبايات على المركبات المقبلة من المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة، وتضمنت ممارساته الاختطاف والتعذيب والابتزاز وطلب الفدية من أقارب المختطفين أو جهات أعمالهم».

وتقول المصادر إن الجبلي كان يعدّ مطلوباً من القوات الحكومية اليمنية نتيجة ممارساته، في حين كانت عدة قبائل تتوعد بالانتقام منه لما تسبب فيه من تضييق عليها.

وشهدت محافظة الجوف مطلع هذا الشهر اغتيال قيادي في الجماعة، يُكنى أبو علي، مع أحد مرافقيه، في سوق شعبي بعد هجوم مسلحين قبليين عليه، انتقاماً لأحد أقاربهم الذي قُتِل قبل ذلك في حادثة يُتهم أبو علي بالوقوف خلفها.

في الآونة الأخيرة تتجنب الجماعة الحوثية نشر صور فعاليات تشييع قتلاها في العاصمة صنعاء (إعلام حوثي)

وتلفت مصادر محلية في المحافظة إلى أن المسلحين الذين اغتالوا أبو علي يوالون الجماعة الحوثية التي لم تتخذ إجراءات بحقهم، مرجحة أن تكون عملية الاغتيال جزءاً من أعمال تصفية الحسابات داخلياً.

قتل داخل السجن

وفي العاصمة صنعاء التي تسيطر عليها الجماعة الحوثية منذ أكثر من 10 سنوات، كشفت مصادر محلية مطلعة عن مقتل القيادي الحوثي البارز عبد الله الحسني، داخل أحد السجون التابعة للجماعة على يد أحد السكان المسلحين الذي اقتحم السجن الذي يديره الحسني بعد خلاف معه.

وتشير المصادر إلى أن الحسني استغل نفوذه للإفراج عن سجين كان محتجزاً على ذمة خلاف ينظره قضاة حوثيون، مع المتهم بقتل الحسني بعد مشادة بينهما إثر الإفراج عن السجين.

وكان الحسني يشغل منصب مساعد قائد ما يسمى بـ«الأمن المركزي» التابع للجماعة الحوثية التي ألقت القبض على قاتله، ويرجح أن تجري معاقبته قريباً.

وأعلنت الجماعة، السبت الماضي، تشييع سبعة من قياداتها دفعة واحدة، إلى جانب ثمانية آخرين جرى تشييعهم في أيام متفرقة خلال أسبوع، وقالت إنهم جميعاً قتلوا خلال اشتباكات مسلحة مع القوات الحكومية، دون الإشارة إلى أماكن مقتلهم، وتجنبت نشر صور لفعاليات التشييع الجماعية.

جانب من سور أكبر المستشفيات في العاصمة صنعاء وقد حولته الجماعة الحوثية معرضاً لصور قتلاها (الشرق الأوسط)

ويزيد عدد القادة الذين أعلنت الجماعة الحوثية عن تشييعهم خلال الشهر الجاري عن 25 قيادياً، في الوقت الذي تشهد مختلف جبهات المواجهة بينها وبين القوات الحكومية هدوءاً مستمراً منذ أكثر من عامين ونصف.

ورعت الأمم المتحدة هدنة بين الطرفين في أبريل (نيسان) من العام قبل الماضي، ورغم أنها انتهت بعد ستة أشهر بسبب رفض الجماعة الحوثية تمديدها؛ فإن الهدوء استمر في مختلف مناطق التماس طوال الأشهر الماضية، سوى بعض الاشتباكات المحدودة على فترات متقطعة دون حدوث أي تقدم لطرف على حساب الآخر.

قتلى بلا حرب

وأقدمت الجماعة الحوثية، أخيراً، على تحويل جدران سور مستشفى الثورة العام بصنعاء، وهو أكبر مستشفيات البلاد، إلى معرض لصور قتلاها في الحرب، ومنعت المرور من جوار السور للحفاظ على الصور من الطمس، في إجراء أثار حفيظة وتذمر السكان.

وتسبب المعرض في التضييق على مرور المشاة والسيارات، وحدوث زحام غير معتاد بجوار المستشفى، ويشكو المرضى من صعوبة وصولهم إلى المستشفى منذ افتتاح المعرض.

ويتوقع مراقبون لأحوال الجماعة الحوثية أن يكون هذا العدد الكبير من القيادات التي يجري تشييعها راجعاً إلى عدة عوامل، منها مقتل عدد منهم في أعمال الجباية وفرض النفوذ داخل مناطق سيطرة الجماعة، حيث يضطر العديد من السكان إلى مواجهة تلك الأعمال بالسلاح، ولا يكاد يمرّ أسبوع دون حدوث مثل هذه المواجهات.

ترجيحات سقوط عدد كبير من القادة الحوثيين بغارات الطيران الأميركي والبريطاني (رويترز)

ويرجح أن يكون عدد من هؤلاء القادة سقطوا بقصف الطيران الحربي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا اللتين شكلتا منذ قرابة عام تحالفاً عسكرياً للرد على استهداف الجماعة الحوثية للسفن التجارية وطرق الملاحة في البحر الأحمر، وتنفذان منذ ذلك الحين غارات جوية متقطعة على مواقع الجماعة.

كما تذهب بعض الترجيحات إلى تصاعد أعمال تصفية الحسابات ضمن صراع وتنافس الأجنحة الحوثية على النفوذ والثروات المنهوبة والفساد، خصوصاً مع توقف المعارك العسكرية، ما يغري عدداً كبيراً من القيادات العسكرية الميدانية بالالتفات إلى ممارسات نظيرتها داخل مناطق السيطرة والمكاسب الشخصية التي تحققها من خلال سيطرتها على أجهزة ومؤسسات الدولة.

وبدأت الجماعة الحوثية خلال الأسابيع الماضية إجراءات دمج وتقليص عدد من مؤسسات وأجهزة الدولة الخاضعة لسيطرتها، في مساعِ لمزيد من النفوذ والسيطرة عليها، والتخفيف من التزاماتها تجاه السكان بحسب المراقبين.