صناع «كوكو شانيل» يكشفون كواليس إعادة شيريهان إلى القمة

تحدثوا عن لحظات الإحباط والتفاؤل خلال عام كامل

لقطات من مسرحية «كوكو شانيل»
لقطات من مسرحية «كوكو شانيل»
TT

صناع «كوكو شانيل» يكشفون كواليس إعادة شيريهان إلى القمة

لقطات من مسرحية «كوكو شانيل»
لقطات من مسرحية «كوكو شانيل»

حققت مسرحية «كوكو شانيل» نجاحاً لافتاً منذ بدء عرضها على منصة «شاهد»، وخطفت بطلتها النجمة المصرية شيريهان اهتمام وإعجاب الجمهور بعد استعادة كامل لياقتها الفنية والاستعراضية، وتماهت تماماً مع شخصية كوكو شانيل مصممة الأزياء العالمية. وكان وراء هذا النجاح طاقم فني كبير قالت عنه شيريهان، في تغريدة لها عبر «تويتر»: «الأبطال الحقيقيون لا يصعدون إلى خشبة المسرح... الأبطال الحقيقيون وراء الكواليس، شكراً لكل بطل مبدع حقيقي كان خلف خروج مسرحية (كوكو شانيل)، من أصغر عامل وصولاً إلى المخرج الرائع الأستاذ هادي الباجوري».

- البداية
تقديم قصة مصممة الأزياء الفرنسية الشهيرة كوكو شانيل قد يبدو للوهلة الأولي فكرة بعيدة عن اهتمام الجمهور العربي، لكن المؤلف د. مدحت العدل لمس فيها جوانب إنسانية، وكتب النص من خلال 10 مشاهد تعبر عن مواقف متباينة في حياتها. وكما يقول في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»: «قرأت قصة حياة كوكو شانيل، وخطفني منها حكاية حبها شاباً نازياً، مما جعلني أفكر في مفهوم الوطن ومفهوم الحب، لكنني لم أقدم سيرة ذاتية عن حياتها، بل أردت التركيز على المحطات المهمة واللمحات الإنسانية، مثل الملجأ الذي تركها فيه أبوها وهي طفلة. وقد كتبت النص في 4 أيام، وحينما قرأته شيريهان بكت فرحاً به، ووقعنا العقد في الحال».
ويضيف الدكتور مدحت العدل: «قبل مرحلة الكتابة، اتفقت مع شيريهان وجمال العدل الذي يعد أول بطل في هذا العرض، لأنه صاحب فكرة إعادة شيريهان للفن عن طريق اختيار مخرج سينمائي لإخراج العرض، على إطلاق العنان لخيالي في كتابة النص، على الرغم من أن هذا الخيال مكلف إنتاجياً، فالخيال يستلزم إنفاقاً لتحقيقه، مثل المشهد الذي تطير فيه مع حبيبها، فقد كتبت في النص أنهما طارا معاً لأن كلاً منهما أحب الآخر، ثم اصطدما بالواقع».
وإلى جانب النص المسرحي، كتب مدحت العدل 5 أغنيات ضمن أحداث العرض، يقول عنها: «الأغاني هي الواحة التي أستريح فيها، وأجعل المشاهد يلتقط أنفاسه، فأقصى سعادتي أن أجد مساحة معينة في النص لأعبر عنها من خلال الشعر».
وتعد كوكو شانيل واحدة من 13 شخصية نسائية مؤثرة اختارتها شيريهان لتقدمها من خلال المسرح، لكنها لم تصور سواها. وحول مصير هذه الشخصيات، يقول العدل: «كتبت 4 مسرحيات، هي: (كوكو شانيل) و(رابعة العدوية) و(مارلين مونرو) و(إيفيتا)، وكتب الشاعر جمال بخيت مسرحية (سندريلا)، وكتبت السيناريست مريم نعوم مسرحية (ماري كويني)، واخترنا لكل مسرحية مخرجاً، من بينهم محمد يس وساندرا نشأت وطارق العريان وخالد جلال، لإضافة روح مختلفة لكل عرض، وكلنا حماس الآن لاستكمالها، فالنجاح الكبير الذي حققته (كوكو شانيل) هو أكبر حافز لنا، خصوصاً بعد ردود الأفعال الكبيرة التي تلقيناها، لكن فريق عمل لم يجتمع بعد عرض المسرحية لسفر معظمهم في إجازات».
وكشف العدل أن النجمة شيريهان «ذهبت إلى فندق (الريتز) بباريس، وأقامت في جناح (كوكو شانيل)، وكانت ترسل لي عن حكايات قرأتها وسمعتها عنها من فرط اهتمامها بكل تفصيلة، كما قامت بشراء أكسسوارات من أحد المزادات في فرنسا كانت ترتديها مصممة الأزياء العالمية، واختارت فرقة الرقص الأجنبية بعدما شاهدت مئات مقاطع الفيديو حتى استقرت عليها، إلى جانب مصمم الرقصات الكندي الأردني».
وأشار إلى أن «أعضاء الفرقة أقاموا في مصر عاماً كاملاً من أجل التصوير والبروفات، وقمنا بتأجير مسرح أحد فنادق القاهرة لمدة عام»، لافتاً إلى أن «شيريهان نجمة كبيرة، تتمتع بأدب جم، وتحب كل الناس، وهي راقية جداً في ملاحظاتها، ومعجونة فن، وقد كانت البروفات تستمر ساعات طويلة لكي نصور مشهداً واحداً، ولكنها أبهرت الجميع، حتى أن راقصي الفرقة الاستعراضية وقفوا يصفقون لبراعتها وقدراتها المدهشة».

- صورة رائعة
وقد قدم مدير التصوير أحمد المرسي صوراً رائعة لم نعهدها في العروض المسرحية، بحسب نقاد. وفرض المرسي نفسه بصفته مصوراً سينمائياً في السنوات الأخيرة، وكان مسؤولاً عن تصوير حفل نقل المومياوات الملكية. وعن تجربته مع شيريهان، يقول: «كان هدفنا أن نقدم العرض بمستوى عالمي يحقق قفزة بعد نحو عشرين عاماً من غياب شيريهان، لذا تحررنا من شكل المسرح القديم».
ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «شخصياً، قمت باسترجاع الاتجاه بشكل عام في العروض العالمية، ولم أشأ أن أشاهد عروضاً محددة حتى لا أتأثر بها، فالأمر ليس مجرد نقل، بل شكل في التصوير، وقد ساعدتني خبرتي في السينما وفي الإعلانات على تقديم صورة مناسبة تلائم الحكاية التي يرويها العرض».
ونفى المرسي طلب شيريهان أي طلبات خاصة في أثناء التصوير، ويؤكد أنها «قالت لي: سأسلمك مسؤولية شكلي، ولك أن تقرر ما تراه. وقد قمنا بإجراء بروفات كثيرة على التكنيك؛ بالطبع كانت هناك أيام صعبة، وواجهنا ضغوطاً في العمل، لكن الروح كانت رائعة بيننا لكي نقدم أفضل ما لدينا، وقد جاءت ردود الفعل منصفة مشجعة جداً».

- طاقة إيجابية
إضافة إلى ذلك، تعد عملية مونتاج عرض مسرحي تم تنفيذه بأسلوب سينمائي «صعبة للغاية»، على حد تعبير المونتير أحمد حافظ الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «كان هذا الاختبار أكثر وضوحاً في المشهد الذي تطير فيه شيريهان على المسرح، فقد استغرق مونتاج هذه المشهد وقتاً طويلاً لتحقيق معادلة تجمع بين إيقاع المسرح وأسلوب الحكي السينمائي. أما الجزء الاستعراضي، فكان مونتاجه أيضاً صعباً لنجمة استعراضية كبيرة مثل شيريهان التي حرصت على حضور مراحل المونتاج لأكتشف أنها تفهم تفاصيله أيضاً، وهي من البشر الذين يمنحون طاقة إيجابية لكل من حولهم».

- المايسترو
وفي أول تجربة له مع المسرح، نجح المخرج السينمائي هادي الباجوري في تقديم رؤية مغايرة وصورة مختلفة، لتظهر شيريهان في أجمل حالاتها، وحسبما يقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذه أول مرة أخوض فيها العمل المسرحي، على الرغم من أنني حين أسافر لأي بلد، أبحث عن المسرح، وأشاهد العروض العالمية، لكن تصوير المسرح حتى في برودواي يتم بشكل تقليدي، كأنك تجلس على المقاعد، وقد أردت كسر فكرة الالتزام فقط بخشبة المسرح. ومن خلال خبرتي في السينما والأغاني والإعلانات، اخترت أسلوباً مختلفاً في تصوير مشاهد أعلى المسرح وبين الجمهور، كما ظهرت في العرض، وأضفت تسجيلاً لأصوات الجمهور لأنه لم نكن نسمح بحضور فعلي للمشاهدين خلال التصوير طوال الوقت».
ويؤكد الباجوري أن العمل مع شيريهان تجربة مختلفة عن أي ممثلين آخرين، فهي «أسطورة في المسرح والاستعراض، ولديها خبرة واسعة. وبمجرد أن جلسنا معاً وتحدثنا، تفاهمنا سريعاً، وكواليس العمل كانت رائعة، وكفريق عمل كنا ندرك أننا نقدم عملاً مختلفاً، وكانت هناك أوقات سيطر عليها التوتر أحياناً، وأوقات كنا نواصل العمل فيها 18 ساعة، وأوقات أخري نكون أهدأ ونضحك، وقد جاءت ردود الأفعال كما توقعت، إذ كنت أثق في أن المسرحية ستوضع في مكانة مختلفة، على خلاف كل ما سبق، وهذا ما كان يعنيني بالدرجة الأولى».


مقالات ذات صلة

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

لمسات الموضة جانب من جلسات العام الماضي في الرياض (هارودز)

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

في ظل ما تمر به صناعة الترف من تباطؤ وركود مقلق أكدته عدة دراسات وأبحاث، كان لا بد لصناع الموضة من إعادة النظر في استراتيجيات قديمة لم تعد تواكب الأوضاع…

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة «موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

الألوان مثل العطور لها تأثيرات نفسية وعاطفية وحسية كثيرة، و«موكا موس» له تأثير حسي دافئ نابع من نعومته وإيحاءاته اللذيذة.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة لقطة أبدعت فيها «ديور» والمغنية لايدي غاغا في أولمبياد باريس (غيتي)

2024... عام التحديات

إلى جانب الاضطرابات السياسية والاقتصادية، فإن عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض لا تُطمئن صناع الموضة بقدر ما تزيد من قلقهم وتسابقهم لاتخاذ قرارات استباقية.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة ماثيو بلايزي مصمم «بوتيغا فينيتا» سابقاً (غيتي)

2024...عام الإقالات والتعيينات

تغييرات كثيرة شهدتها ساحة الموضة هذا العام، كانت من بينها إقالات واستقالات، وبالنتيجة تعيينات جديدة نذكر منها:

جميلة حلفيشي (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)