يلاحق القضاء في كوبا عشرات الأشخاص على خلفيّة مشاركتهم في تظاهرات لا سابق لها شهدتها البلاد اللاتينية في 11 يوليو (تموز)، على أساس أن هؤلاء متّهمون بارتكاب «جرائم» خلال «الاضطرابات». وتقول بعض الحركات المعارضة إن السلطات الأمنية اعتقلت أكثر من 600 شخص.
اندلعت الاحتجاجات يوم الأحد 11 يوليو في مدينة سان أنطونيو دي لوس بانيوس القريبة من العاصمة هافانا. وسرعان ما عمّت التظاهرات أنحاء البلاد، من شوارع هافانا نفسها إلى الأرياف، لتتحوّل إلى أكبر احتجاجات مناهضة للسلطة تحدث في البلاد منذ عقود، بما مثّل تحدياً جدياً للنظام الشيوعي.
أدى الغضب واليأس من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في كوبا وتفشي الوباء إلى تأجيج الاحتجاجات. فبلاد الـ 11 مليون نسمة تعاني نقصاً في الغذاء والدواء، وتشهد ارتفاعاً لأسعار المواد الغذائية، مما يجعل من الصعب على الكوبيين الذين يقل متوسط الدخل الفردي لديهم عن 10 آلاف دولار أميركي في السنة، توفير ضروريات العيش. وما زاد الطين بلّة والضيق ضيقاً انقطاع التيار الكهربائي المتكرر في بلاد صيفها حار جداً.
لكن لماذا اندلعت الاحتجاجات الآن؟
هناك، كالعادة، فرضيتان في هذا السياق: الأولى أن ديناميكيات التطورات هي داخلية بحتة فرضها شظف العيش طوال ستة عقود من الحكم الشيوعي، والثانية أن اليد الخارجية (الأميركية) حرّكت مكوّنات «الطبخة» لغايات معروفة.
*كوبا والصعاب
تعاني كوبا منذ قلب نظام الرئيس فولخنسيو باتيستا الموالي لواشنطن عام 1959، صعاباً اقتصادية جمة عمّقتها بطبيعة الحال عقوبات أميركية عمرها عقود. ولئن نجح قائد الثورة الكوبية فيدل كاسترو، ورفيقه الثوري الماركسي الأرجنتيني تشي غيفارا، في إخراج كوبا من دائرة النفوذ الأميركي – مع أن الأرخبيل الكوبي يقع على «مرمى حجر» من فلوريدا – فإنه أخفق في توفير العيش الرغيد للكوبيين الذين لطالما فر كثيرون منهم إلى «أرض الأحلام» عبر مضيق فلوريدا، حتى أن عدد سكان الولاية من أصل كوبي يفوق مليوناً و500 ألف نسمة.
بالتالي يمكن التأكيد أن المشكلات الاقتصادية في كوبا تسبق انتشار «كوفيد – 19» بوقت طويل، لكن الوباء زادها حدة، خصوصا أنه ضرب قطاع السياحة الذي يشكل رافداً حيوياً للاقتصاد، إلى جانب صناعة السكّر وصناعة السيجار.
والاقتصاد الكوبي لا يزال إلى حد كبير اشتراكياً موجهاً، تملك الدولة فيه معظم عناصر الإنتاج وتعمل غالبية القوة العاملة تحت جناحيها، وإن يكن هذا الغطاء الفولاذي قد عرف بعض التخفيف منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، وخلال عهد باراك أوباما...
*فتّش عن أميركا؟
في عهد الرئيس الديمقراطي أوباما (ولايتان من 2009 إلى 2017) ذاب الكثير من الجليد بين الجارَين بعدما اتخذ هو وكاسترو خطوات لجعل العلاقات الثنائية طبيعية، بما في ذلك إعادة العلاقات الدبلوماسية وتوسيع حركة السفر والتجارة. إلا أن إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترمب ألغت الكثير من هذه التدابير وشدّدت الخناق على هافانا إلى حد كبير عبر فرض حزمة جديدة من العقوبات.
تعود جذور العلاقة المضطربة بين الولايات المتحدة وكوبا إلى الحرب الباردة. والواقع أنه بعد الثورة الكوبية، اعترفت الولايات المتحدة بحكومة فيدل كاسترو، لكنها بدأت فرض عقوبات اقتصادية على الجزيرة في موازاة تعزيز نظامها الشيوعي العلاقات التجارية مع الاتحاد السوفياتي، وتأميم الممتلكات العائدة إلى جهات أميركية، وزيادة الرسوم على السلع المستوردة من الولايات المتحدة. وبعد تقليص وارداتها من السكر الكوبي، فرضت واشنطن حظراً على كل الصادرات الأميركية إلى كوبا تقريباً، وسّعه الرئيس جون كينيدي ليشمل حظراً اقتصادياً كاملاً تضمن قيوداً صارمة على السفر.
تدهور الوضع تدريجاً وقطعت واشنطن العلاقات الدبلوماسية مع هافانا، وطفقت تنفّذ عمليات سرية لإطاحة نظام فيدل كاسترو منذ العام 1961. ووقعت أزمة الصواريخ الخطيرة بعد أن سمحت كوبا للاتحاد السوفياتي بنشر صواريخ نووية سراً على أرضها إثر محاولة فاشلة قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إي» للتخلص من كاسترو، عرفت بعملية «خليج الخنازير».
وبعدما كشفت طائرات استطلاع أميركية وجود الصواريخ السوفياتية في كوبا خلال أكتوبر (تشرين الأول) 1962، حصلت مواجهة استمرت ثلاثة عشر يوماً بين كينيدي والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف هددت باندلاع حرب نووية.
لكن في النهاية، كانت هذه الأزمة نقطة تحول في الحرب الباردة، بعدما بذلت القوتان العظميان جهوداً لتجنب المواجهة النووية، وهو ما طبع السنوات اللاحقة من الحرب الباردة التي كانت ساخنة بالنسبة إلى كوبا من حيث العزلة الشديدة التي فرضتها عليها العقوبات الأميركية.
عندما بدأ أوباما تلطيف السياسة الأميركية تجاه كوبا، تجاوبت هذه عبر القيام بإصلاحات تحت القيادة الجديدة لراوول كاسترو وريث شقيقه فيدل. فحصل شيء من تحرير الاقتصاد وتخفيف القيود المفروضة على الشركات الصغيرة، وفتح أسواق العقارات، والسماح للكوبيين بالسفر إلى الخارج بحرية أكبر... نتيجة لذلك، توسّع القطاع الخاص في كوبا، وتضاعف عدد العاملين لحسابهم الخاص ثلاث مرات بين 2009 و2013.
واضطلع رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا فرنسيس بدور في التقريب بين البلدين أكثر، وأثمر ذلك إعلان أوباما وكاسترو أواخر عام 2014 أن حكومتيهما ستعيدان العلاقات الدبلوماسية الكاملة (حصل ذلك في يوليو/تموز 2015) وتتبادلان الأسرى. وفي أوائل العام 2016 زار أوباما هافانا في خطوة أدت إلى مزيد من تطوير العلاقات.
بعد دخول دونالد ترمب البيت الأبيض عام 2017، انطلق مسار العودة عن الخطوات التي قام بها سلفه الديمقراطي، وبدأ التضييق على كوبا مجدداً. وفي العام نفسه، أعلنت الإدارة الأميركية أنها ستسحب معظم موظفي سفارتها من هافانا بعد أن عانى الدبلوماسيون الأميركيون والكنديون أعراضاً غريبة، بما في ذلك فقدان السمع وضعف الإدراك. ونفت الحكومة الكوبية ضلوعها في الهجمات الغامضة وحضت الولايات المتحدة على عدم قطع العلاقات الدبلوماسية.
من التدابير القاسية التي اتخذتها إدارة ترمب عام 2019، حظر التبادل التعليمي الجماعي، ومنع السفن السياحية والسفن الأخرى من الإبحار بين الولايات المتحدة وكوبا، وحظر الرحلات الجوية الأميركية إلى المدن الكوبية غير هافانا. وكذلك مُنع المسافرون الأميركيون من الإقامة في مئات المؤسسات المرتبطة بالحكومة الكوبية أو بالحزب الشيوعي.
*في عهد بايدن...
تعهّد المرشح الديمقراطي جو بايدن بإلغاء التدابير التي فرضتها إدارة دونالد ترمب على كوبا، لكن بايدن الرئيس لم يقم بأي خطوة في هذا الاتجاه في أشهره الستة الأولى في البيت الأبيض باستثناء النظر في العلاقات التي لا تبدو أنها تحتل مرتبة عالية في سلّم الأولويات الأميركية.
وربما كان حظ الرئيس الكوبي الجديد ميغيل دياز – كانيل الذي تسلّم المقود من عائلة كاسترو في أبريل (نيسان) 2021 عاثراً، ذلك أنه ورث اقتصاداً متعثراً وسط جائحة تشلّ العالم كله.
ولعلّ ما يجعل وضع كوبا شائكاً أكثر هو ارتباطها بفنزويلا ونيكاراغوا، وكلاهما تخضع لعقوبات أميركية. ونتذكر أن مستشار الأمن القومي في إدارة ترمب (قبل إقالته بغضبة من الرئيس) جون بولتون سمّى الدول الثلاث «ترويكا الاستبداد».
والواقع أن المراقب يفهم تماماً أن الولايات المتحدة تريد لحديقتها الخلفية المتمثلة في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية أن تكون مفيدة لمصالحها الاقتصادية، وهذا يتطلب من دولها أن تسلس القياد سياسياً لواشنطن، وهو ما لا يقوم به الثلاثي العنيد...
من هنا نفهم الارتياب الكوبي من دور أميركي مفترض في الاحتجاجات الأخيرة، والترحيب الأميركي بتعبير آلاف الكوبيين عن سخطهم من الوضع، وهو ما اعتبره بايدن «صرخة من أجل الحرية والإغاثة»، داعياً النظام إلى احترام حقوق الكوبيين في الاحتجاج و«تقرير مستقبلهم بحرية».
في المقابل، يتهم الرئيس الكوبي واشنطن بخنق بلاده اقتصادياً لكي تضرب استقرارها، محملاً إياها مسؤولية الاحتجاجات.
هنا يرى محللون أن موقف واشنطن دقيق، فهل تمضي قدما في الضغط على النظام الكوبي على أمل أن ينهار، أم تمد يد الإغاثة لإراحة الشعب الكوبي. فالخيار الأول قد يجعل النظام يستغله ليجمع الشعب من حوله في وجه «العدوّ الخارجي»، والثاني قد يسمح بإطالة عمر النظام الذي لا ننسى أنه صمد عقوداً طويلة في ظل عزلة خانقة...
إنها لعبة الأمم التي لا تنتهي... مقاعد وثيرة للكبار، وشعوب تتلظى بنار الضائقة!