مهرجانات الموسم تقررها أفلام الافتتاح

بدأها «كان» وتستمر حتى «نيويورك»

«أمهات موازيات» يفتتح «فينيسيا»
«أمهات موازيات» يفتتح «فينيسيا»
TT

مهرجانات الموسم تقررها أفلام الافتتاح

«أمهات موازيات» يفتتح «فينيسيا»
«أمهات موازيات» يفتتح «فينيسيا»

سيبقى مثيراً للجدل موضوع كيف يختار أي من المهرجانات الكبيرة فيلم الافتتاح؟ ما هي العناصر والمبررات التي تتداخل في عملية اختيار الفيلم الذي سيدشّن دورة المهرجان المقبل؟ لماذا هذا الفيلم وليس سواه؟
دخل بنا مهرجان «كان» موسم المهرجانات الواقع في النصف الثاني من كل عام، التي عادة ما كانت تبدأ بمهرجان لوكارنو السويسري. الذي حدث هو أن إدارة المهرجان الفرنسي لم تستطع إطلاق الدورة الـ74 في موعدها في الشهر الخامس من هذا العام (بسبب وباء كورونا طبعاً) مما استدعى تأجيلها إلى مطلع هذا الشهر كما بات معلوماً. المهرجانات الأخرى التي ستكرُّ كالدومينو في هذه الفترة تنقسم إلى قسمين: مهرجانات عالمية كبيرة ومهرجانات أقل عالمية، لكنها مهمّة على أكثر من نطاق. في القائمة الأولى لوكارنو وكارلوفي فاري وفينيسيا وسان سابستيان وتورونتو ونيويورك. في القائمة الثانية نجد مهرجانات مثل لندن وساراييفو ودوفيل وقرطاج والجونة ثم مراكش والقاهرة ومونتريال. ستُضاف لهذه المهرجانات الدورة الأولى من مهرجان البحر الأحمر - في ديسمبر (كانون الأول) المقبل - وحسب حجم نجاحه سيتم تحديد انتمائه وسط هذه المهرجانات في قائمتيها.

- اعتبارات
اختيار مهرجان ما للفيلم الذي سيفتتح الدورة يقوم على عدد من الاعتبارات والشروط. فيلم الافتتاح عليه أن يحدث صدى كبيراً على ثلاثة أصعدة: السينمائيون المحترفون والنقاد والإعلاميون والجمهور داخل البلد الذي يُقام المهرجان فيه. على أهمية الجمهور المحلي إلا أنه المستقبِل البريء في هذه الحالة. لا يقرر لكن الإدارة تتخوى أن يُثير اختيارها قبولاً لديه.
الاعتبارات مبنية على عدة قواعد. مثلاً أن يكون الفيلم المختار عرضاً عالمياً أوّلاً (برميير). هذا مهم كأهمية استقبال المهرجانات الكبرى أفلاماً لم تعرض بعد حول العالم. اعتبار ثانٍ، أن يكون منتمياً إلى مخرج مشهود له بالمكانة. إذا تعذّر ذلك أن يكون الفيلم منتمياً إلى إنتاج كبير بقضية موازية في كبرها. وجود نجوم معروفين في الفيلم أمر يُساعد لكنه ليس أمراً حاسماً في الاختيار. كذلك بات يُفضل أن يكون الفيلم ناطقاً بالإنجليزية لكن هذا أيضاً ليس شرطاً. قيمة الفيلم وعناصره الإنتاجية (الميزانية وما توفّره من إمكانات، الإخراج، التصوير، الكتابة إلخ…) تبقى أساسية في كل الأحوال. بات مستحدثاً أن يستطيع الفيلم المختار للافتتاح برمجة نفسه بعد ذلك في عروض عالمية أو أن يترك أثراً كبيراً لكي يبلغ ترشيحات الأوسكار. في هذا الشأن يقود مهرجان فينيسيا بعدد الأفلام التي شقّت طريقها من العروض الأولى التي تمّت فيه إلى حفل الأوسكار في أي من مسابقاته. فهناك ما لا يقل عن 16 فيلماً انتقلت من فينيسيا إلى مسابقات الأوسكار المختلفة من عام 2014 حتى العام الماضي. من بينها أفلام حققت الأوسكار فعلاً مثل «بيردمان» و«لا لا لاند» و«روما» و«نومادلاند» في العام الماضي. السبب في أن المهرجانات الرئيسية الأولى حول العالم (يمكن ضم برلين وصندانس اللذين يُقامان في مطلع كل سنة) باتت تتسابق لإدخال أفلامها منافسات الأوسكار هو أن ذلك سيدعمها إعلامياً وبالتالي سينمائياً، من حيث عدد الذين يختارون هذا المهرجان دون ذاك على أمل الوصول منه إلى ترشيحات الأوسكار أو الأوسكار نفسه.
في كل الأحوال فإن اختيار المهرجانات للأفلام التي ستفتتح دوراتها يضعنا على مشارف تلك المهرجانات وما ستعرضه من أعمال. من دون أن ننجرف للحديث عن كل الأفلام التي سيشهدها كل مهرجان على حدة (بعضها ما زال يُضيف أفلاماً حين كتابة هذا الموضوع) فإن أفلام الافتتاح تم تعيينها في خمسة مهرجانات هي لوكارنو، كارلوفي فاري، فينيسيا، تورونتو ونيويورك. لكن مهرجان سان سابستيان لم يُعلن فيلم افتتاح دورته الـ69، تُقام من 17 إلى 25 سبتمبر (أيلول).

- لوكارنو
بعد «كان» يتقدّم مهرجان لوكارنو السويسري الخاص بالأفلام التي ينجزها مخرجون جدد (وإن كان يعرض خارج المسابقة أفلاماً مختلفة) مهرجانات الموسم الكبرى. تنطلق دورته الرابعة والسبعين ما بين 4 و14 أغسطس (آب) المقبل. والفيلم الذي قام باختياره هو «بَكيت» (Beckett) والاختيار هنا مثير بحد ذاته. هو الفيلم الأول لفرنديناندو سيتو فيلومارينو الذي عمل مساعداً للإيطالي لوكا غوادانينو على فيلم «تستطيع أن تناديني باسمك» (2017) الذي قام بإنتاج هذا الفيلم. وكان فيلومارينو قصد مهرجان لوكارنو (يُقام على سفوح الألب السويسري) سنة 2010 بفيلم قصير عنوانه Diarchia («إسهال»).
ما هو مثير هو أن الفيلم من تمويل «نتفلكس» المنفتحة الآن على المهرجانات وبعض العروض السينمائية، خصوصاً إذا ما ارتبطت باحتمالات الأوسكار. هذا الفيلم يحتوي على هذه الشروط علاوة على أنه ناطق بالإنجليزية ومن بطولة جون ديفيد واشنطن وأليسا فيكاندر وفيكي كريبس. حكايته تجمع بين الترفيه والسياسة: بَكيت (واشنطن) كان في رحلة سياحية في اليونان عندما تعرّض لحادثة اكتشف فيها أن هناك من يريد قتله لأسباب تتعلق بوجود مؤامرة سياسية داخل اليونان.

- كارلوفي فاري
وفي العشرين من الشهر ذاته (أغسطس- آب) يتقدّم المهرجان التشيكي كارلوفي فاري بنخبته من الأفلام (32 فيلماً لم يسبق لها أن عرضت في أي مهرجان آخر). دوره الخامسة والخمسين تستمر حتى الثامن والعشرين منه.
الفيلم الذي تم اختياره للمناسبة عنوانه «زاتوبك» لديفيد أوندريشك. فيلم سيرة لحياة إميل زاوبك الفائز بأربع ميداليات ذهبية في الركض. تنطلق الأحداث في خريف 1968 بوصول لاعب آخر فائز بالذهبيات هو الأسترالي رون كلارك الذي يصل إلى براغ (في الحقبة الشيوعية) لمقابلة زاتوبك والتعرّف إليه. مثل هذه الأفلام تبقى عادة محجورة في عروضها المحلية والمهرجان لديه قائمة مثيرة للأفلام التشيكية التي يعرضها خلال الدورة.
نلاحظ أن السينما التشيكية كان لها مهرجانها الخاص الذي كان مناسبة لدعوة النقاد الأجانب إلى بودابست للتعرّف عليها. هذا المهرجان توقّف عندما حلمت السينما التشيكية برقعة أكبر على خارطة الإنتاج بدعوة الأميركي أندي فاينا للإشراف على تحويل هذا الحلم إلى حقيقة، لكنه أخفق ثم توفي قبل عامين.

- فينيسيا
في الأول من سبتمبر، يأتي دور مهرجان فينيسيا، بدورته الثامنة والسبعين، لكي يخطف الأضواء من كل مهرجان آخر هذا العام. ما بين الأول والحادي عشر من الشهر يُطلق مسيرته بفيلم الإسباني بدرو ألمودوفار «أمهات موازيات» (Parallel Mothers). هناك القليل مما يمكن استطلاعه حول القصّة ذاتها، لكن المخرج الإسباني صوّر الفيلم خلال وباء «كورونا» (ما زال نشطاً في ربوع إسبانيا) مع بطلته المفضّلة بينيلوبي كروز في دور واحدة من ثلاث نساء حاملات (أنيتا سانشيز غيجون، التي كانت فاز بجائزة أفضل ممثلة في سان سابستيان والممثلة الجديدة ميلينا سميت).
ما نعرفه عن الفيلم هو أنه يدور حول الأمومة، بطبيعة الحال. لكن عوض منحها الصورة الحانية والإيجابية التي شاهدناها في فيلمين سابقين له (هما «كل شيء عن أمّي» و«ألم ومجد») يتناول هنا حكاية ثلاث نساء ربما أقل من مثاليات.
في تصريحه قال المودوفار إنه وُلد هنا ويعود إلى حيث وُلد. بكلماته: «ولدت سينمائياً في فينيسيا سنة 1983. وبعد 38 سنة أعود إليه. لا أستطيع شرح الشعور بالبهجة والشرف، وكم يعني لي هذا التقدير». ورد ألبرتو باربيرا، رئيس المهرجان، على تحية المخرج بالقول: «أنا ممتن لبدرو ألمودوفار لسماحه لنا بعرض الفيلم في الافتتاح». هذه عودة مرحّب بها جداً للمخرج الإسباني الذي كان تسلم سنة 2019 جائزة «الأسد الذهبي للإنجاز»، وهي فرصة سارعت شركة صوني بيكتشرز كلاسيكس لاحتوائها، حيث ستعمد إلى عرضه تجارياً في الولايات المتحدة قبيل إغلاق ترشيحات الأوسكار.

- تورونتو ونيويورك
قبل أن ينتهي مهرجان فينيسيا من إطلاق محتويات دورته من الأفلام بيومين، يبدأ مهرجان تورونتو عروض دورته الثالثة والأربعين من التاسع إلى الثامن عشر من سبتمبر. هذا المهرجان الكندي هو أحد أهم مهرجانين في شمالي القارة الأميركية (الثاني صندانس) والفيلم الذي اختاره للمناسبة عنوانه «العزيز إيفان هانسن» (Dear Evan Hansen) من بطولة بن بلات وكاتلين دَفر مع دور مساند لجوليان مور. الفيلم للمخرج ستيفن تشوبسكي والنوع موسيقي: سيرة حياة مُصاب بمرض عصبي يتحدّى مشاكله وأحداثاً مضنية التأثير في حياته (من بينها حادثة انتحار لصديقة له) لكي ينجز أحلامه ويعيش سعيداً. الفيلم من توزيع يونيفرسال التي ستأمل أن ينتهج «العزيز إيفان هنسن» الطريق ذاتها التي أوصلت «لا لا لاند» لبعض أوسكارات العام. وفي أعقاب تورونتو (وبموازاة سان سابستيان) ينطلق مهرجان نيويورك السينمائي في دورته التاسعة والخمسين. هذا المهرجان المهم الذي يقيمه «مركز لينكولن فيلم سنتر» سيحتل الرقعة ما بين الرابع والعشرين من سبتمبر إلى العاشر من أكتوبر (تشرين الأول).
‫الفيلم الذي اختاره للافتتاح يتبع سلسلة نجاحات المهرجان في اختياراته في السنوات القليلة الماضية. إنه الفيلم الجديد لجووَل كووَن والأول له من دون شقيقه إيتن كووَن وعنوانه «تراجيديا ماكبث» (عن مسرحية ويليام شكسبير طبعاً). الفيلم مزيّن ببعض أهم نجوم اليوم ومن بينهم دنزل واشنطن في دور ماكبث، كما فرنسيس مكدورماند وبرندن غليسون.‬


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)