لم تكن عودة شريهان لتتحقق لولا أنها ضمنت تماماً عدم المسّ بصورتها الأسطورية. تمنحها «العدل غروب» برعاية «الهيئة العامة للترفيه» و«إم بي سي» سقوفاً إنتاجية شاهقة، فتُحلّق في الخيالات البعيدة، في الفخامة والإبهار، وفي العظمة؛ كأنها لم تغب كل تلك السنوات. ولم تهجر الضوء.
هدية العيد للمشتاقين إلى فن خلّاب: مسرحية «كوكو شانيل» عبر «شاهد VIP»، بكل مشهدياتها وهزّاتها ولحظات التخلّي والمواجهة، حتى بلوغ أقاصي المجد على وَقْع رائعة إديث بياف «Non، je ne regrette rien”، (“لا، لا أندم على شيء”)، حيث يقفل المشهد الأخير بهذه اللقطة التعبيرية المذهلة كاختزال لدخولها التاريخ من بابه العريض. حياة «مجنونة»، جريئة، عاصفة، ومتقلّبة؛ عاشتها أيقونة الموضة الفرنسية كوكو شانيل، وجسّدتها أيقونة الاستعراض المصرية شريهان؛ كأنها هي، كأنّ الآلام مشتركة، والتجاوز مشترك، والقمم حيث استراحة الأساطير، واحدة.
ساعتان مدة المسرحية، من تأليف وسيناريو وحوار مدحت العدل، وإخراج هادي الباجوري. مبدعان. ساعتان من تأكيد عظمة شريهان النجمة، بالتداخل والالتحام والذوبان الجمالي مع عظمة شانيل وشقائها. تُخرج من أليم ما عانت وتحمّلت، قدرة رهيبة على أداء الشخصية كالتشرُّب، كما يفعل القطن فور وقوع الماء في قبضته. كانت كوكو غبريال شانيل المتروكة في ملجأ الدير. كانت روحاً فنية حائمة في العلا، كتلك الحالمة العنيدة، روح فرنسا في الموضة وثورتها.
جبارة شريهان في السيطرة على المسرح، وفي تعابيرها ورشاقتها. عودة متفوّقة تعوّض 30 عاماً من فراق الخشبة. النجاح هنا أبعد من امتلاك موهبة. هو إحساس عميق بتفاصيل الشخصية، والتقاء الأوجاع. وهو شوق وعطش ورغبة في تقطيب الألم وتجميل الجراح. يهبّ طوال الساعتين سؤال من النوع المحسومة إجابته: هل كانت النتيجة نفسها لو أنّ مفاتيح هذه الدهشة تسلّمتها بطلة غير شريهان، وإن كانت مرتبتها المسرحية عالية ومقعدها الفني لا غبار عليه؟ لا. حتماً لا. «كوكو شانيل» لها وحدها. لإنجازها في هزيمة اليأس. لوقوفها مجدداً بعد مباغتات القدر. وللشفاء وباقات الإلهام العطرة، ونبل تحمُّل أشواك الحياة حتى الارتقاء بورودها.
فكرة شريهان، تهديها «لعموم المرأة في العالم». ترفض طفلة من هذا الزمن أن تخبرها جدّتها حكاية «سندريلا» أو «الأمير الصغير». تشعر بالملل وتبحث عن متعة. فتصطحبها الجدة (حنان يوسف) في رحلة صعود واحدة من أهم شخصيات القرن الماضي. يفتتح المسرحية مشهد «بياعة البرانيط»، وبلوحة استعراضية راقصة (مصمم الاستعراض هاني أباظة)، تتراءى النشأة القاسية لفتاة تخلّى عنها الرجل الأول في حياتها: والدها. صرامة تربيتها في الدير لم تقصّ جناحيها، فولدت الأحلام من صميم القسوة.
شخصية قوية، اندفاعية، أو كما نقول: «طحّيشة»، لفتت نظر المسيو كابيل (هاني عادل) الأرستقراطي في شوارع باريس. تعرّضها للسرقة وهي تبيع القبعات، وماضيها الملطّخ بالغناء في الملاهي الليلية، جعلاها تتمسك به كفرصة العُمر. تعرض عليه مشاركتها، فتبدأ الرحلة. هو الرأسمال، وهي الأفكار والتصميم والروح الثورية.
امرأة مختلفة، تقلب تقاليد المجتمع الفرنسي ونظام الدولة في الموضة، وتُدخل اللباس المريح، بدل الفساتين الثقيلة. أمثولة ملهمة في شجاعة التعبير عن النفس وجرأة طرح الأفكار بنبرة عالية. أرادت اللباس مرادفاً لحرية الحركة، ومن عمق هذه القيمة، فكّكت أغلال النساء بإدخالها البنطال الواسع إلى خزائنهن. وبينما تقود «خضّة» اجتماعية، ذاع صيتها، إلى أن أطلقت «شانيل 5»، واحد من أهم العطور في العالم، ساحر الأنثى الباريسية.
هذه شريهان، المُحلّقة الحرّة. تغريها كوكو شانيل وتخاطب وجدانها. بلمعة كوميدية، بمهارة مشهدية، بانسياب الينابيع بين شقوق الصخر، تقدّم تحية وفاء لعطاءات على مستوى البشرية، وإعجاباً ببصمة خالدة. هي بحجم الجمال والرفعة، تُعزّزهما وتكثّفهما، ترتفع بهما وترفعهما. هكذا يكون المرء نسخة واحدة عن نفسه فقط، لا تتكرّر ولا تتشابه. فرادة خارج المقارنة.
تكمل الجدة الحكاية: يفترق الحبيبان، كوكو وكابيل، «راجل زي كل الرجال»، تقول المتلوّعة من خذلان الأبوّة. شانيل جبروت وهشاشة. كتلة مشاعر مسكونة بأشباح التخلّي؛ ومن الإحباط والغضب، يولد أعظم فساتينها، « «The little black dressتصميم يتجاوز الأقمشة نحو العقل والإنسانية.
تتخذ المسرحية مساراً آخر في الفصل الثاني. بديكورات ضخمة وتنفيذ بصري مبهر (منتج فني محمد حلمي، إشراف فني وديكور محمد عطية)، يرفض المجتمع الفرنسي كوكو شانيل لعلاقتها الغرامية بضابط نازي (أيمن قيسوني) والأرض نار وحصار. يعلو نقاش «الوطني والمجرم»، فيما العاشقان، وبدهشة مسرحية، يتجاوزان الجنسية والحدود واللغات والألقاب. في داخل كل لوحة غنائية، آلاف الكلمات السابحة في معانيها المُعبَّر عنها من دون نطق. تُحاكم كوكو، «إوعوا أبداً ترحموها، دمّروها»، وتُسلخ عن حبيب لمست إنسانه الداخلي، لا الانتماء العسكري. ثم تُنفى. مرة أخرى، إنها جولة مع الإحباط والانكفاء وذكريات الطفولة الملعونة. تلتقط المسرحية الانتباه كاملاً، كمن يجلس على كرسيه في مسرح «الموفبيك» (حيث صوّرت) تحت أضوائه وهيبة الاستعراضات. لا مكان على الجوانب. الجميع «مخطوف» بالمشاهدة.
كما عادت شريهان من حادث السير المرعب، فالمسرح بعد عُمر؛ تعود كوكو إلى محترفها وتصاميمها والطموحات الكبرى. تتصل جاكلين كيندي بينما باباراتزي أميركي (آسر ياسين) آتياً من الولايات المتحدة بعد انتشار أزياء شانيل فيها، يحاورها بسخافة عن سنّها وثمن عقد اللؤلؤ على المانيكان. تتحصّن من المضايقات فتطرده ببرودة، مقفلة الباب على سرعة عطبها. لا يبقى سوى الأوفياء، كالمساعدة سيسيل (سمر مرسي)؛ ومواصلة الأحلام، وإن رفضها الشارع الفرنسي وجَلَد معنوياتها.
أبصرت باكراً أنّ العالم يتغيّر وأميركا أيضاً، فتبنّى أحفاد الكاوبوي نداءاتها. لم تكن كوكو شانيل صانعة موضة. كانت الموضة. وانتصار البساطة على المبالغة والإحساس على القاعدة. مُبهرة شريهان في تجسيد السيرة. دهشة عالمية.
التحام أسطوري لشريهان و«كوكو شانيل»
التحام أسطوري لشريهان و«كوكو شانيل»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة